تختلف الأدبيات والنظريات الاقتصادية منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم عن حدود المسئولية الاقتصادية للدولة، وعن دورها في الاقتصاد بين يمين يرفض تمامًا أن تمتلك الدولة أي منشأة إنتاجية، وألا تتدخل في السوق، وبين أقصى يسار يرى أن تمتلك الدولة لا الأفراد كل أدوات الإنتاج.

غير أن التجارب الاقتصادية للدول، لا سيما خلال القرن العشرين، ومرور النظام العالمي بأكثر من أزمة اقتصادية مدوية، لم يستطع السوق الحر وحده أبدًا إصلاحها، قد أفرز عدة أدوار للدولة في الاقتصاد، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تتخلى عنها، فهذه الأدوار هي مسئولية الدولة.


ما هي المسئولية الاقتصادية للدولة؟

1. توفير الحماية والأمن:

أول أدوار الدولة في الاقتصاد هو توفير الحماية والأمن في الداخل، والدفاع عن حدودها، وسن وتطبيق القانون الذي يحمي المجتمع من الجرائم والفوضى. فلا يمكن لأي نشاط اقتصادي أن يتم وينمو داخل دولة تعاني من عدم الاستقرار الأمني، أو تحيا وسط الجرائم والفساد.

2. التنظيم:

للدولة دور تنظيمي في الاقتصاد، وذلك من خلال وضع القوانين التي تنظم التعاملات الاقتصادية (أي كل نشاط اقتصادي كإنشاء المصانع، أو استئجار العمالة، أو الحصول على قروض، أو طرح الأوراق المالية، أو البيع، أو الشراء، أو الإنتاج… إلخ)، وتنظم العلاقة بين الفاعلين في الاقتصاد (ومنها منشآت الإنتاج، وأصحاب رأس المال، والعمال، والمؤسسات المالية، والحكومة… إلخ).

3. التخطيط:

ويشمل رسم السياسة الاقتصادية للدولة والتي ينبغي عرضها على المؤسسات الرقابية والحصول على موافقة شعبية بشأنها، وفيها يتم التنسيق بين سياسة المالية العامة (أي الضرائب والاقتراض العام) وبين السياسة النقدية (التي يختص بها البنك المركزي من تحديد أسعار الصرف والفائدة وتنظيم المعاملات المصرفية)، وأيضًا رسم هيكل الاقتصاد؛ أي حصص القطاعات المختلفة (كالزراعة والصناعة والخدمات) في إنتاج الناتج المحلي الإجمالي، وتحديد أي القطاعات من الأفضل أن يكون قائدًا للنمو الاقتصادي، وأيها يحتاج دعمًا من الدولة، وأيها يحقق توظيفًا أعلى.

4. توفير الخدمات العامة ودعم السلع الأساسية:

الدولة ينبغي أن تمكن المواطنين من الحصول على الخدمات العامة والسلع الأساسية، التي لا يستطيعون الحصول عليها بمفردهم، وذلك بشكل عادل ومتساوٍ ودون تمييز وبأسعار في متناول اليد وبجودة عالية. فالخدمات العامة تتمثل في: النقل والمواصلات، والرعاية الصحية، والبنية التحتية (كالكهرباء وشبكات الاتصالات والمياه والصرف الصحي والنظافة العامة)، وخدمات حماية البيئة.

ويجدر بالدولة أن تخفف من عجز المواطنين عن إعالة أنفسهم من خلال دعم السلع الأساسية كالخبز ومنتجات الطاقة، لا سيما الفئات التي تعاني من ظروف صعبة كالبطالة والشيخوخة والعجز والمرض. وفي الدول الرأسمالية يصبح على الدولة أن تحمي الطبقات الدنيا من النتائج القاسية للرأسمالية، ويتسع هذا الدور ليشمل شبكات الضمان الاجتماعي التي تمثل بنية تحتية للرعاية، لتمكين المواطنين من الازدهار اجتماعيًا واقتصاديًا، وتمكنهم من خلق أمان اقتصادي محيط بهم.

5. الاستثمار العام الفاعل:

الاستثمار العام هو ضرورة أثبتها الاقتصادي البريطاني «مينارد كينز» عند معالجته لأزمة الكساد الكبير عام 1929، فرأى كينز أن الدولة عليها أن تنفق في مشروعات الاستثمار العام لتوفر فرص عمل للعاطلين وتنعش الطلب الكلي. وبتطور التجارب الدولية يمكننا أن نشير إلى أهم مجالات الاستثمار العام، التي ينوط بالدولة أن تقوم بها، وهي:

أولًا: الاستثمار في بناء الصناعات الجديدة والصناعات الضخمة، لا سيما وإن لم يُقدم على دخولها القطاع الخاص، ومنها: الصناعات الثقيلة، والطاقة، والصناعات المرتبطة باللوجيستيات.

ثانيًا: دعم البحث والتطوير، إذ إن مستوى البحث والتطوير داخل أي اقتصاد هو ضمن مسئوليات الدولة، التي يفترض بها أن توفر التمويل والبنية المؤسسية وكافة سبل الدعم للنهوض بمستويات البحث والتطوير.

ثالثًا: الاستثمار في الثروة البشرية، لأنه على الدولة أن تستثمر في سكانها أو ثروتها البشرية، وذلك من خلال الإنفاق على خدمات عالية الجودة للتعليم والصحة والتدريب المهني ورعاية المواهب. وأن توفر بيئة حاضنة للمواطنة النشطة أو الفاعلة، بمعنى تمكين المواطنين من تنمية قدراتهم على كافة الأصعدة، وتوفير المناخ الملائم لتنشيط عملهم المجتمعي والأهلي. وإجمالاً ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي فإنه على الدولة توفير الموارد والبنية التحتية للسماح للمواطنين بتحقيق النجاح على نطاق واسع، وبهذا تكون الدولة قد صنعت «مواطنين منتجين».

6. عدالة أو حسن توزيع الثروة:

منوط بالدولة أن تقوم بإعادة توزيع الثروة بين أفراد الشعب، بما يقلل من الفروق بين الطبقات، ويقلل العوز والفقر، من خلال أدوات السياسة المالية المتمثلة في فرض الضرائب على القادرين بنسب تدريجية تراعي العدالة؛ وتوجيه الدعم الاجتماعي للمستحقين كما سبق التوضيح.

7. مواجهة الأزمات الاقتصادية:

تتحمل الدولة أول وأكبر دور في وضع خطط وحلول مواجهة كل أزمة تلحق بالاقتصاد، سواء كانت فقاعة في أحد القطاعات أو ركودًا في الاقتصاد، أو تفشيًا للفقر والبطالة، واتساع التفاوت بين الطبقات. وعلى سبيل المثال قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعمًا للمؤسسات المالية ومؤسسات الرهن العقاري والبنوك لمواجهة الأزمة المالية العالمية، بينما طبقت بريطانيا الخطة الكينيزية للخروج من أزمة الكساد الكبير عام 1929.

8. بناء الشراكات الدولية:

لا يقف دور الدولة في الاقتصاد عند حدودها الجغرافية، بل عليها العمل على تعزيز معاملات القطاع الخارجي للاقتصاد، من خلال بناء شراكات اقتصادية مع الدول الأخرى والعالم الخارجي، بل ومد التعاون الاقتصادي مع الدول التي تحقق مصالح الدولة إستراتيجيًا. ولبناء الشراكات الاقتصادية عدة آليات منها توقيع المعاهدات، إقامة المشروعات المشتركة، ضخ الاستثمارات، تقديم أو الحصول على منح ومساعدات.

9. إتاحة المعلومات عن الاقتصاد:

تقوم الدولة من خلال مؤسساتها وسلطتها في جمع المعلومات، بإعداد تقارير محدثة ووافية ومجانية وسهلة الوصول إليها عن كافة البيانات والمؤشرات الكلية والجزئية الخاصة باقتصاد الدولة. إجمالاً يمكننا القول إن التجارب الدولية في التنمية الاقتصادية قد تجاوزت ما حددته الأدبيات الاقتصادية المختلفة لدور الدولة، لتنتج معالم محددة للمسئولية الاقتصادية للدولة من واقع عملي.


ما أهمية دور الدولة في الاقتصاد؟

لا غنى للدولة وللمواطنين عن أن تؤدي الدولة أدوارها الأولية في الاقتصاد، فنجاح الدولة في أداء مسئوليتها الاقتصادية يُعوَّل عليه في تحقيق نتائج هامة، أبرزها الآتي:

أولًا: رفع درجة الثقة في الاقتصاد، والثقة في الاقتصاد هي مؤشر تنتجه مؤسسات مالية عالمية؛ فإذا كان جيدًا فإنه يشجع المستثمرين والمنتجين على ممارسة أنشطتهم الإنتاجية داخل الدولة، وبالتالي توفير المزيد من التدفقات المالية وفرص التوظيف وتنشيط الخدمات المالية داخل الاقتصاد.

ثانيًا: تدعيم السلم الاجتماعي، نجاح الدولة في تحقيق مستوى معيشة لائق للمواطنين، والحصول على رضائهم العام تجاه الخدمات العامة والدعم السلعي، وتقليل الفوارق الطبقية، كل ذلك يقلل من احتقان الغاضبين، ويقلل من احتمالات حدوث اشتباكات أو احتقانات بين طبقات المجتمع لأسباب اقتصادية.

ثالثًا: دفع التنمية المستدامة، لأن التنمية الاقتصادية هي واحدة من أهم دعائم التنمية المستدامة، الأكثر شمولاً، والتي تشمل جهود الدولة التنموية في مجالات أخرى كالاجتماع والسياسة. ويمكننا القول إن الأدوار الاقتصادية للدولة تمثل مدخلات أساسية لإنتاج تنمية مستدامة.


ماذا عن الحروب والحصار؟

إن حالة الحروب والحصار الاقتصادي والسياسي هي حالات خاصة، حيث يتعذر على الدولة أداء دورها الأول في تحقيق الأمن والدفاع. هنا يبرز دور للدولة يكون على رأس أولوياتها؛ والذي يتمثل في توفير المؤن الأساسية والأدوية للمواطنين، والتنسيق مع الجهات الإغاثية لتوفير طرق آمنة لتوصيل المؤن. أما الدور الثاني؛ فهو ترشيد الإنفاق العام بهدف الحصول على التمويل اللازم لنشاط الدفاع والأمن.

ثم يأتي دور ثالث –لا سيما في حالة الحصار- والذي تقوم فيه الدولة بالتوسع في بناء منشآت إنتاجية في مناطق بعيدة عن الاشتباك -تحل محل القطاع الخاص- الذي ينسحب في حالات الحرب من الاقتصاد، وذلك بهدف توفير احتياجات السوق المحلي من السلع والخدمات، وتوفير فرص للعمل، في محاولة لمنع الاقتصاد من الركود.