يسأل سائل: يكثر لدى المتدينين الاستدلال على وجود الإله بأن العالم لا بد له من خالق، وأنه لا يقوم بنفسه. ألا يمكن أن الكون قد وُجد بلا أي سبب؟ لماذا نقول إن الكون يحتاج إلى خالق؟ ألم تعرفنا مسيرة العلم الكثير من حقائق الكون ولا تزال، دون أن يكون للكون حاجة إلى خالق ودون اللجوء إلى الجواب بأن الله خلق الكون!

نقول: إن قضية «حقيقة الكون»، واحتياجه لإله، خلقه ويقيمه، في مقابل زعم من يدعي أن الكون قائم بنفسه مستغن، من أهم القضايا الوجودية، وينبني عليها الكثير من المسائل، وسوف نشرع بإذن الله في بيان أطراف هذه القضية، ولكي نفعل ذلك فإننا نسافر مع قارئنا الكريم أسفارًا أربعة:

أحدها: من الخلق إلى الخلق.

وثانيها: من الخلق إلى الحق سبحانه.

وثالثها: من الحق إلى الخلق.

السفر الرابع: من الخلق إلى الخلق.

وقبل أن نبدأ رحلتنا، فإننا نحب أن ننوه بأن هذا المقال يتكلم في أمور عقلية مجردة، وهي أمور قد تصعب أحيانًا على القارئ غير المتخصص. ورغم أننا حاولنا تبسيط الكلام وتكثير الأمثلة، فإن القارئ قد يجد فيه نوع صعوبة ناتجة عن التجريد والكلام العقلي المنطقي، ونحن لذلك على استعداد لمناقشة تعليقات القراء الكرام على المقال وتوضيح ما غمض من الأفكار والأمثلة.


السَفَر الأول: من الخلق إلى الخلق (الكون ممكن)

لنبدأ رحلتنا متأملين في هذا الكون الواسع الكبير: ماذا نرى ونشاهد فيه؟

إننا نرى فيه أشياء كثيرة، تشكيلات للمادة متنوعة، تحمل صفات وخصائص مختلفة متباينة، وتسير في دروب شتى، وتضرب فيها تغييرات متنوعة متلاحقة. في هذا الكون كواكب، ومجرات، ومواد، وعلى بعضها جبال وأنهار وحدائق وحيوانات ونباتات.

وقد ظن البعض أنه بسبب التطورات العلمية التجريبية التي كشفت لنا عن بعض «القوانين الحاكمة للكون»، صار بذلك الكون «قابلا للفهم comprehensible»، ويمكن من خلاله معرفة الماضي كيف كان، والتنبؤ بالمستقبل، وتفسير الظواهر التي كانت حقائقها مجهولة، أي بعد أن سادت في الماضي نظرة إلى الكون بأنه خلق الله، عظيم، مليء بالغرائب والعجائب والمعجزات المبهرة التي يعجز البشر عن فهمها لأنها «صنع الله»، فمن ذلك ظن البعض أن هذه الاكتشافات قللت الحاجة إلى إله لفهم الكون، وحل الطريق العلمي التجريبي محل ذلك، حتى صار الكون «لا يحتاج إلى إله أصلًا».

وسنبين في هذه المقالة أنَّا قد عرفنا بالنظر إلى صفات الكون الذاتية أنه حادث له بداية، وأنه مفتقرٌ ومحتاجٌ إلى وجود آخر أجل منه، وأن الكون ليس قائمًا بنفسه. وهذا الوجه الذي به استدللنا على افتقار الكون إلى وجود خالقه،يستوي فيه أن يكون الكون متناسقًا منظمًا، أم عشوائيًا مضطربًا. بل لو لم يكن الكون سوى حجر مكعب لا غير، ليس فيه نظام ولا جمال ولا إتقان ولا تعقيد، ولا ملاءمة لحياة، وليس فيه هذا التنوع في الموجودات الحيّة الذي نراه، لكان كذلك مفتقرًا إلى الخالق نفس الافتقار، ومحتاجًا إليه نفس الاحتياج.[1]

قد يقول قائل: فهلّا كشفت لنا اللثام عن هذه الصفة التي يتصف بها الكون، والتي تدل على افتقاره إلى خالق حقيقته مغايرة لطبيعة الكون، حتى لو لم يكن الكون سوى حجر ساذج لكان كذلك متصفًا بنفس هذه الصفة، ومحتاجًا إلى الخالق بنفس القدر؟

والجواب هو أن الصفة التي تبين افتقار الكون إلى الخالق هي: الإمكان. مجرد كونه ممكن الوجود.

ولعل القارئ الكريم يسأل: ماذا تعنون بالإمكان؟ ومن قال إن الكون ممكن؟ ولِمَ كان الكون الممكن مفتقرًا إلى الخالق؟

نقول: الممكن هو ما تقبل ذاته الوجود والعدم، ولا يترتب على وجوده أو عدمه محال عقلي. يعني أننا لو تصورنا معنى الممكن فإننا لا نجد حرجًا من جهة العقل أن يكون موجودًا أو معدومًا. هذا هو معنى الإمكان.

فإنك لو سألت نفسك: هل لصديقك (أسامة) أختٌ؟ فإنه بالنظر العقلي المجرد يجوز أن يكون له أخت وألا يكون، فلن تستغرب إن علمت أن له أختًا ولن تستغرب إن علمت أنه لا أخت له، فهذا المعنى الذي قام بذهنك (أخت أسامة) قد حكم عليها عقلك بأن وجوده في الحقيقة ممكن، أي محتمل للتحقق أو لعدم التحقق، بلا إشكال.

ويقابل الإمكان من أقسام الوجود معنيان:

– الاستحالة (وهو كون الشيء بحيث لا يقبل الوجود) كاستحالة كون زيد في الغرفة وليس في الغرفة في وقت واحد.

– والوجوب (وهو كون الشيء بحيث لا يقبل العدم) كوجوب أن يأخذ الجسم حيزًا من الفراغ طالما كان جسمًا، ووجوب أن يكون الجسم –مثلًا- إما متحركًا وإما ساكنًا في نفس الوقت والمكان.[2]

فإذا أخذنا هذه المفاهيم، ثم نظرنا في الكون، وتأملنا فيه مصاحبين لعقلنا، وسألنا أنفسنا: هل وجود الكون واجب أم ممكن؟ لو لم يكن الكون موجودًا من الأساس.. أكان يترتب على ذلك أي استحالة في العقل؟

إنا لو تأملنا في الكون بالنظر العقلي المجرد لوجدنا أن الموجودات لا يلزم من وجودها أو من عدمها أي محال، فإن العقل لا يوجب أن يكون الكون بكل ما فيه من الموجودات موجودًا، فالعقل يجوّز – أي لا يلزم أي محال عقلًا – أن يكون الكون غير موجود، فنسبة «الوجود» و«العدم» إلى الكون متساوية، وليس وجود الكون ضرورة عقلية (not a logical necessity).

ثم إن العقل يجوّز أن يكون الكون جاريًا على غير هذه الطريقة، متصفًا بغير هذه الصفات.

لو شاهدت الفيديو الذي صوّره فريق Coldplay والذي يسمّى up&up لوجدت تخيلًا لكونٍ بصفات مغايرة تمامًا لكوننا، بحيث تكون السماء تحتنا، والبحار فوقنا، ومقادير الأشياء في اختلاف عما هي عليه، وإنك تستغرب من هذا الكون لأنه مخالف لما تألفه من واقعك، ولكن العقل يجوز أن يكون كوننا المركب من أجزاء متصفة بصفات ومقادير معينة على خلاف ما هو عليه من صفات وأحوال وموجودات، ولا ضرورة عقلية لأن تكون قوانين الكون على الصورة التي هي عليها الآن، فيجوز بالنظر العقلي المحض أن تكون قد كانت من حيث هي موجودة، على غير ما هي عليه، فالموجود الذي يتصور في العقل أن يكون على هيئة غير الهيئة، وصورة غير الصورة، متصف بصفات على شكل ومقدار ونظام معين، غير ما هو عليه، هو موجود ليس بواجب الوجود، بل جائز الوجود، ممكن، إذ الواجب لا يتصور في العقل عدمه وتبدله وتغيره، وهذا معنى إمكان وجود الكون.[3]

فكان يمكن بالنظر العقلي المحض أن تكون العلاقة بين الطاقة والكتلة في الكون ليست علاقة E=mc2 وإنما كان يمكن أن تكون E=mc3 مثلًا.

والعقل لا يجد فرقًا بين الموجودات الحالية التي وجدت بالفعل وبين موجودات أخرى متخيلة كان يمكن أن توجد لو توفرت أسباب وجودها كذلك. فكما أن حيوان الحصان موجود مثلًا، فقد كان يمكن أن يوجد –مثلًا- الحيوان أحادي القرن أو الــ(unicorn) المتخيل.

والعقل ينفي بالضرورة الفرق بين مقدار ومقدار آخر، فلا إشكال من جهة مجرد النظر العقلي المنطقي أن يكون الكون بحيث يكون ضعف مقداره الحالي مثلًا، أو نصف مقداره الحالي. فلو تأمل الإنسان في صفات الكون وأحواله والصورة التي هو عليها وما يتبعه من قوانين، لم يجد العقل أي استحالة منطقية أن يكون الكون على ضد هذه الصفات، وغير هذه الأحوال.

فالكون ليس بواجب الوجود، ولا بمستحيل الوجود، فالوجود وعدمه جائزان ممكنان في حقه، مستويان من حيث كونهما جائزين في أن يتصف بأحدهما دون الآخر، فالممكن: قابل للوجود والعدم، وهما بالنسبة إلى ذات الممكن سيان.

ونحن قد علمنا بالضرورة أن في العالم ذوات وأشياء، وأنها لا تخلو عن تغيرات تعترض وتتوالى عليها، بيان هذا:

أن الذوات من حيث هي موجودة، لا تُعقل إلا موصوفة بصفات أو غير موصوفة بها، فهي متحركة أو لا متحركة، متلونة أو لا غير متلونة، مجتمعة أو غير مجتمعة، لها كتلة أو ليس لها كتلة، وهكذا. والذوات تتجدد عليها الأوصاف، فتتصف بصفة مرة ثم تخلو عنها وتتصف بأخرى، وما جاز أن تكون متصفة بصفة، وجاز ألا تكون متصفة بها، وتجددت عليه الأوصاف الجائزة فهو جائز الوجود.

فالذوات في العالم متغيرة، وكل متغير ممكن الوجود.

ومن هنا نبدأ سفرنا الثاني: من الخلق إلى الحق!


السفر الثاني: من الخلق إلى الحق (الممكن مفتقر إلى غيره)

إننا بعد أن نظرنا في الكون، وحكمنا عليه حكمًا عقليًّا أنه ممكن الوجود، فإننا ندرك أن إمكان وجوده دليل على أنه مفتقر إلى شيء آخر، وليس قائمًا بنفسه، مستغنيًا. ولنوضح ذلك:

كما قلنا إن وجود الكون وعدمه لا يلزم على أي منهما محال عقلي، بل يجوز في العقل المحض أن توجد هذه الموجودات أو ألا توجد.

ثم لما نظرنا في الكون أيضًا وجدنا أن له هيئة معينة وصفة معينة، لا يلزم بالنظر العقلي المحض محال عقلي على وجود تلك الصفة أو الهيئة، ولا يلزم محال عقلي على عدمها، بل وجودها وعدمه جائزان بالنظر إلى العقل المحض.

هذا، وممكن الوجود محتاج في وجوده لغيره،يرجح وجوده على عدمه، ويرجح اتصافه ببعض ما يجوز أن يتصف به. فكل ممكن الوجود، وجوده جائز: يحتاج ويفتقر إلى مقتضٍ.

واحتياج الممكن إلى سببٍ هو أمر بدهيٌّ، وننبه على هذه القضية البدهية بأن نقول:

لو ترجح أحد طرفي الممكن (أعني وجوده أو عدم وجوده) دون مرجح لكان ذلك الطرف أولى من الآخر، وهو خلاف فرض تساويهما [4]؛ لأن الشيء إذا كان يمكن أن يكون، ويمكن ألا يكون، كان الجانبان بالنسبة إليه على السواء.

فإنَّ ترجحَ أحد جانبي الممكن بلا سبب مرجح شبيهٌ بترجح إحدى كفتي ميزان فيه كفّـــتَـــان متساويتان، فطالما هما متساويتان: يلزم ألا تترجح إحدى الكفّتين على الأخرى من غير سبب؛ إذ يستحيل ترجح كفة على أخرى مع فرضهما متساويتين، دون مرجح، إذ الرجحان ضد للتساوي.

يعني لو سمينا أحد الكفتين أ ، والأخرى ب ، وهما متساويتان، فيكون: أ = ب.

فإذا وجدنا إحدى الكفتين راجحة، فذلك قطعًا لا يكون بسبب نفسها، إذ هما متساويتان، والتساوي ضد الرجحان، بل لا بد من سبب خارج عنها، ونحن نبحث عن هذا السبب الذي قد يكون مثلًا : وزنًا زائدًا وُضع في إحدى الكفتين، أو اختلال في الميزان، أو في المجال المغناطيسي، أو في سرعة الرياح، أو غير ذلك.

المهم أنه لاب د من سبب خارج عن الكفتين إذ هما لذاتهما متساويتان.

ولو ترجحت (ب) المساوية لـ( أ ) حال كونهما متساويتين، لما كانتا متساويتين! وقد فرضناهما متساويتين أصلًا.

فنحتاج إلى مرجح يرجح أحد الجانبين على الآخر، ولولا هذا المرجح لما تحقق أحد الجانبين.

واستحالة ترجح أحد جانبي الممكن بغير مرجح هي استحالة عقلية منطقية، فيلزم التناقض على هذا الترجيح بلا مرجح، فيكون الرجحان حاصلًا وغير حاصل في آن واحد، وهو تناقض مستحيل.

أي لكان أ = ب ، وفي نفس الوقت أ ≠ ب.

ولو جاز ترجح أحد جانبي الممكن دون غيره، لجاز في كل ممكن ، فجاز أن ينزل المطر بلا سبب، وأن تقطع رقبة شخص ويعيش بلا سبب، وأن يتكلم الكرسي ويحيا بلا سبب. فهذا الدليل قريب من البداهة.

فالممكن (مفتقرٌ) إلى مرجح محدِث أوجده (ورجّح) كفة الوجود على كفة العدم.

فالعقل إذا لاحظ كون الشيء (غير مقتضي الوجود أو العدم بالنظر إلى ذاته) حَكَم بأن وجوده أو عدمه لا يكون إلا بسبب خارج عنه، وهو معنى الاحتياج، سواء ألاحظ العقل كونه مسبوقًا بالعدم أم لم يلاحظ.

فلو كان حصول الشيء الممكن (الذي لا يقضي العقل بوجوب وقوعه أو باستحالة وقوعه بل بإمكان وقوعه)، لو كان هذا الشيء يمكن حصوله بلا سبب، أي لو كانت ذاته -أي هو من حيث حقيقته ومفهومه- غنية لا تحتاج إلى مؤثر.. لكان كل ممكن كذلك. وهذا معلوم البطلان لأن بعض الممكنات نقطع أنها لا تحصل إلا بمؤثر، فالكتابة على ورقة –مثلًا- أمر ممكن ولكنه لا يحصل من غير كاتب يكتب، واجتماع كل شروط الكتابة وأسبابها.

فلو جاز ترجح ممكن بلا سبب، لجاز المطر بلا سبب ونبات الزرع بلا سبب، وكتابة هذا الكلام بلا سبب، هذا ليس من باب الاستقراء ولا من باب استبعاد ما يخالف ما شاهدناه أو قياس الغائب على الشاهد، بل هو من باب الأحكام العقلية القاطعة.

سلسلة الممكنات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود

وإذا كان الممكن مفتقرًا في وجوده إلى مرجح، فإن السؤال ينسحب إلى ذلك المرجح: هل هو ممكن الوجود؟ فإن كان ممكنًا، كان مفتقرًا إلى سبب مرجح، ثم نسأل عن هذا السبب: هل هو ممكن الوجود كذلك؟ وهكذا إلى أن نصل وجوبًا إلى واجب الوجود، قطعًا للتسلسل إلى المالانهاية،infinite regress، أي إلى ذات يمتنع عدمها، مستقلة بالوجود الذاتي غير المفتقر، (necessary being)، ولولا وجود هذه الذات لما وُجِد شيءٌ من الممكنات.

ونضرب أمثلة لتقريب الصورة: تخيل أنك أوصلت هاتفك النقّال (الموبايل) بالشاحن الكهربائي، ثم وضعت هذا الشاحن في مشترك، فإذا كان هاتفك يُشحن فإنك تبحث عن سبب لمرور تيار الكهرباء فيه، فترى الشاحن، فتعلم أنه ليس مكتسبًا للكهرباء من ذاته وإنما استفادها من غيره، فترجع إلى المشترك فتعلم من صفته أنه موصِّلٌ كذلك وليس مصدرًا، فإذا كان المشترك متصلًا بمشترك آخر، والآخر بثالث، والثالث برابع، فإنك تصل بالضرورة إلى وجوب وجود (مصدر) للكهرباء. وهذا المصدر حقيقته تغاير حقيقة المشترك، من جهة أنه مصدر للكهرباء، وليس موصلًا لها.

فسلسلة الموجودات الممكنة المفتقرة لا بد أن تصل إلى مصدر واجب الوجود [5]، يفتقر كل الممكنات إليه، وهو الإله الحق سبحانه [6].

لقد أشار القرآن الكريم إلى مفردات هذا الدّليل العقلي:

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

وقال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾.

افتقار الممكن ابتداءً ودوامًا

ولولا هذا الموجِد المحدِث المؤثِّر الواجب لامتنع وجود هذا الممكن. وإن استمرار وجود هذا الممكن هو ممكن كذلك، ففي كل لحظة يمكن أن يبقى الممكن ممكنًا أو ينعدم، فبقاؤه مستند إلى الواجب كما أن ابتداء وجوده مستند إلى الواجب أيضًا. فالممكن يبقى بإبقاء المؤثر.

وإذا تأملت فإنك تجد أن معنى استمرار الوجود ليس إلا وجودًا بالإضافة إلى الزمن التالي، فهو في حقيقته وجود يمكن في العقل والمنطق المجرد أن يقع وألا يقع، فيفتقر كذلك إلى ما يرجّح تحققه وحصوله.

فعلة كون الشيء الممكن محتاجًا مفتقرًا (هي كونه ممكنًا)، وهذا أمر لازم للممكن؛ لأن الإمكان هو جزء من حقيقته، باقٍ ما دامت هذه الحقيقة باقية.صحيح أن العقل من حيث الاعتياد يترجح عنده استمرار الموجود على حاله، ولكن إذا نظرنا نظرة أوسع أدركنا أن هذا الشيء الذي ذاته ممكنة الوجود، فإن وجوده في كل لحظة معينة هو ممكن كذلك، لأن الإمكان هنا ذاتي، أي أنه صفة أصيلة للشيء،باقية ببقائه.

فكما أن الممكن يحتاج إلى إيجاد موجد، يحتاج إلى إبقاء مبقٍ، فالعالم بعد حدوثه، حال بقائه، ليس مستغنيًا عن خالقه. وهذا كله أمر واضح، فإنه متى أدرك الإنسان معنى الممكن، ومعنى الاحتياج إلى السبب، كان تصديقه بتلك النسبة بديهة. والحاصل أن الممكن هذا لا يمكن أن يستفيد وجوده من ممكن آخر مثله، وإلا لتسلسل إلى المالانهاية كما بينا. فوجب أن يكون مصدر الآثار جميعها ومفيد الوجود بأسره هو واجب الوجود لذاته، فكان كل ما سواه من الموجودات: صادرًا عنه وفعلًا من أفعاله.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني:

قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ».

وقال تعالى: «أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد»، فإن الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء، الغني هو الذي لا تعلق له بغيره لا في ذاته ولا في صفات ذاته، بل يكون منزهًا عن العلاقة مع الغير، فمن تتعلق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقف عليه وجوده أو كماله فهو فقير محتاج إلى الكسب، ولا يتصور ذلك إلا لله سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم»، فهو تعالى قيامه بذاته، وقيام كل شيء به.

وقال تعالى: «الله الصمد» هو الذي يصمد إليه في الحوائج ويقصد إليه في الرغائب.

فإن النظر في الكون، وملاحظة إمكانه، والاستدلال بهذا الإمكان على وجوب افتقاره إلى ذات واجبة الوجود، يوصلنا إلى أن يَحُطَّ العقلُ رِحَالَه على أبواب الحضرة الإلهية.

وبعد أن نعرف وجود الخالق سبحانه ننتقل إلى السفر الثالث، مرة أخرى: من الحق إلى الخلق.


السفر الثالث: من الحق إلى الخلق (فعل الإله في الكون ليس خارجًا عن القوانين الطبيعية)

إذا علمنا أن الكون ممكن، وأنه مفتقرٌ في الإيجاد والإمداد إلى تأثير موجده بالضرورة، علمنا أنه ليس هناك مفهوم لــ”التدخل” الإلهي في الكون، فالخالق المؤثر واجب الوجود لم يتركه لحظة حتى يتدخل فيه. «إن الله يسمك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده». فالله حي أبدًا، قيومٌ أبدًا. وليس تدخل الإله في الكون فعلًا خارجًا عن نواميس الكون وقوانين الطبيعة، بل إن وجود الآثار عقب الأسباب التي تكشف عنها هذه القوانين هي عين خلق الله عز وجل.

فالإله لم يترك الكون أبدًا لحظة حتى يُقال: هل هذا الشيء من صنع المادة أو القوانين، أم من صنع الله؟! بل الكون يستحيل أن يستغني عن إمداد الإله لحظة، ولو تركه لفني!


السفر الرابع: من الخلق إلى الخلق.. مرة أخرى

من تأمل فيما قدمناه علم أن وجه افتقار الكون إلى الخالق على ما قررناه ليس أنه بديع، أو أنه متناسق، أو أنه غائي (بمعنى أن كل جزء من أجزائه خُلق لأداء غرض ما لا يتحقق هذا الغرض بدونه)، أو أنه على هيئة مخصوصة معينة بأن تكون هذه الهيئة جميلة، أو بديعة، أو منظمة تنظيمًا معينًا، أو متناسقة مع بعضها، أو معقدة، أو ساذجة، أو مركبة، أو بسيطة، أو مصممة على أي نوع من أنواع التصميم، أو أن الكون ملائم للحياة عليه أو غير ملائم.

وكذلك ليس كلامنا على أن هناك أمورًا في الكون غير مادية فإذن تحتاج إلى سبب موجِد غير مادي.

وليس الكلام عن أسئلة مثل: هل لا يوجد في الكون إلا أمور مادية،أم أن هناك موجودات غير مادية؟ ولا أن المذهب الاختزالي reductionism في الأسباب المادية صحيح أو لا،وأنه لا يؤثر في المادة إلا المادة إلى غير ذلك من المباحث.

فنحن لم نقل شيئًا من هذا ونستدل به على أن ذلك دليل على ما نقوله، ونحن لا نثبت ولا ننفي اتصاف الكون بهذه الصفات، أو كونه على هذه الهيئات، فإن ذلك مبحث آخر لم نخض فيه.

بل ما نريد أن نقوله هو أن توقف الكون على الإله ليس منوطًا بأي وصف من هذه الأوصاف، ولكنه مرتبط بمجرد كونه ممكن الوجود، فيكون مفتقرًا إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، أي يحدثه.

ويظهر بما سبق ما في كلام الفيزيائي المشهور ستيفن هوكنج من تهافت لما قال:

إننا لا نستطيع أن نثبت أن الإله ليس موجودًا، ولكن العلم يجعله ليس ضروريًا.[7] One can’t prove that God doesn’t exist, but science makes God unnecessary.

فإن الكون لو كان مجرد صخرة صماء، لكان مفتقرًا إلى المكوِّن، لأن هذه الصخرة وجودها ممكن، واتصافها بمقدار معين ممكن، وجريانها على قوانين معينة ممكن، فاحتاج من حيث المبحث الميتافيزيقي في ابتداء وجوده واستمراره إلى مخصص، بل لو كان الموجود من الكون ذرة واحدة فقط، فسيجري عليها نفس الكلام!

ونقول إن هذا الذي قلنا إنما قلناه لقيام الدليل العقلي عليه.

فنحن لم نقل هذا لأننا لم نجد سببًا (فيزيائيًّا أو بيولوجيًّا أو كميائيًّا) بعد ما بحثنا، فقلنا: إذن لا بد أن يكون هناك سبب أوجد العالم. فليس بحثنا محاولة لسد جهلنا أو اعتمادًا على مغالطة إله الفجوات (والتي سنفرد لها مقالًا كاملًا).

بل إننا نقول: لو فهمنا جميع أسرار الكون، وجميع ارتباطات أجزائه بعضها ببعض، وجميع ما يسري فيه من قوانين، لحكمنا أيضًا بأنه مفتقر للخالق الواجب الوجود لأنه ممكن.

وما قيل في الكون يقال في قوانين الكون التي هي من جملته، يجوز بالنظر العقلي المحض أن تكون على غير ما هي عليه [8]، فالعلم بها لا دلالة فيه أبدًا على استغناء الكون عن إله مدبر له مبقٍ، فضلًا عن أن يستغني عن موجد![9]

ونحن كذلك لم نقل: قد استقرأنا ما نراه ونعرفه من العالم ، وبما أننا نرى أن كل شيء نشاهده له سبب، إذن لا بد أن يكون هناك سبب أوجد الكون. فلم نعتمد على الاستقراء. بل نظرنا إلى حقيقة الكون نظرا عقليًا، فرأيناه: واجب الافتقار – لذاته وحقيقته وماهيته – إلى موجد مبق.

وترجيح وجود ممكن الوجود إحداث له، فحقيقة الكون أنه مفتقر إلى إحداث، أي إيجاده بعد أن كان عدمًا، وكل حادث لا بد له من محدِث ليس بحادثٍ، وسيأتي ذلك بمزيد تفصيل في المقالات القادمة.

هذا، وقد بين المحققون من أئمة علم الكلام كالإمام تقي الدين مظفر بن عبد الله المقتَرَح (توفى سنة 612 للهجرة، الموافق سنة 1215 للميلاد) هذا الذي نقوله من قبل فقال:

“وقد استُدل على كونه تعالى عالمًا قادرًا بطريق الإحكام والإتقان الذي هو مقابلة الفعل المثبج [وهو نقيض المتقن]، والإحكام والإتقان المشار إليه معنى عبارة عن: وضع جوهر إلى جوهر على وجه مخصوص مقصود في العادات.

وهذا في الحقيقة لا دلالة له من هذا الوجه! فإنه يختلف بالنسب والإضافة، فرب شيء محكم في حق زيدٍ مُثبجٌ في حق عمرو، فكل ما يختلف بالنسب والإضافات واختلاف العادات لا حقيقة له، فلم يدل إذن من هذا الوجه. وإنما دل من حيث كونه فِعلًا، لا يختلف بالمثبج والمحكم. فالفعل الواحد في الحقيقة يدل على كونه تعالى عالمًا قادرًا مريدًا ، عرضًا واحدًا كان أو جوهرًا أو جسمًا، مثبَّجًا كان أو محكمًا.

فإذا رأينا هذا الفعل واقعًا في زمن دون زمن، وعلى شكل دون شكل، وفي جهة دون جهة، وفي محل دون محل، وعلى صفة دون صفة، ونسبة الأزمان إليه نسبة واحدة، وكذلك نسبة الأشكال، وكذلك نسبة الجهات، وكذلك نسبة المحال، وكذلك نسبة الصفات. فاختصاصه ببعض الجائزات دون بعض يفتقر إلى مخصص قطعًا.[10]

انتهى كلامه رحمه الله. وهو كلام نفيس، يظهر تحديدًا وجه دلالة الكون على كونه محتاجًا لموجد له، وما لا نستدل من جهته على المطلوب، وسيأتي الكلام على فروع لهذه القضية في المقالات الآتية.

فالخلاصة

أننا عرفنا عن حقيقة الكون أنه ممكن الوجود، فإنه لا مانع عقليًّا من وجوده ومن عدم وجوده، وكذلك في كونه على شكل وهيئة معينة كذلك، لا مانع من كونه كذلك أو على غير هذه الهيئة، والممكن مفتقر إلى مرجح يوجده ويجعله على بعض ما يجوز عليه من الهيئات، وأن هذا أمر ذاتي للممكن، ثم الممكن لا يصح أن يكون مفتقرًا إلى ممكن مثله، وإلا لتسلسل إلى ما لا نهاية، فهو مفتقر إلى واجب الوجود باق مستغنٍ عن كل ما سواه، يفتقر إليه كل ما عداه، يوجد الموجود الممكن، ويبقيه، وأن ممكن الوجود لا يستقل بوجوده لحظة، فواجب الوجود (الإله) لا يتدخل في هذا الكون الممكن، فإنه ما تركه لحظة حتى يتدخل، وهو يبقيه على نظام وناموس ثابت (قانون الطبيعة)، هو كله فعله، ومحل تجلي خالقيته وإبداعه.


[1] في محاضرة للفيزيائي الملحد شان كارول Sean Carroll «الإله ليس نظرية جيدة»، قال إنه قادر على تصور صور أخرى للكون، تلك لن تكون بحاجة إلى إله، لأنه لا مكان لإله في ذلك الكون الذي تخيله هو:

“… and there is no god in this universe … it is self sustained, there is no something outside keeping it up causing it to exist or allow it to presist ..a possiable universe [where] God plays no role … self containing mathematical existing universes, where no God.”

كأنه لن يكون السؤال عن إله إلا لو كان الكون بالصورة التي نراها، أما لو فرض عالمًا يتبع معادلات فيزيائية مثلًا أخرى، فهو هكذا مستغنٍ عن إله![2] وسبق أن تكلمنا عن هذه في الحلقة الخامسة: كيف أحكم على ما لا أراه بعيني؟[3] أما دليل أن الواجب يستحيل عدمه فهذا مفهوم من نفس تعريفه. فالواجب كمفهوم عقلي حقيقته هو الذي يستحيل عدمه، في مقابل المستحيل وهو الذي يستحيل وجوده، وفي مقابل الممكن وهو ما لا يستحيل وجوده ولا يستحيل عدم وجوده، فما ثبت أنه واجب لزم عليه أنه يستحيل عدمه.وأما الدليل على أن الواجب لا يتغير فهو أن ذات الواجب لو كانت تقبل التغير والانتقال من صفة إلى صفة لكانت الصفة الأولى التي كان عليها الواجب ممكنة لأنها زالت وانتهت، ولكانت الصفة الجديدة التي انتقل إليها الواجب ممكنة كذلك لأنها طرأت عليه بعد أن لم تكن، فيكون الواجب في جميع حالاته وصفاته ممكنًا، وهذا تناقض. فواجب الوجود لا بد أن يكون منزهًا عن كل صفات الإمكان والتغيّر والحدوث والتأثر.[4] وسبق أنه لا يلزم محال عقلي على وجود الكون، ولا على عدمه، فوجوده ليس بواجب ولا بمستحيل، فهو ممكن الوجود، الوجود والعدم إليه متساويان من حيث كونهما جائزين لأن يتصف بأحدهما دون الآخر.[5] فإن قيل: «سلّمنا وجود واجب للوجود ورجوع العالم إليه، لكن من أين أنه إله ولماذا لا يكون particle or energy or field أو ما يشبهها من واجب للوجود بحيث لا يتغير وينتج العالم»، أو بمعنى آخر: نؤمن بالـ philosopher’s God، لكن لا نؤمن بإله الأديان الذي يرضى ويغضب ويأمر وينهى ويفعل ويترك.فيقال: الإله الذي نزعم هو الفاعل المختار أعني القادر على إحداث شيء من لا شيء الفاعل ذلك بمحض إرادته، والدليل على أن واجب الوجود فاعل مختار وليس علة أولى هو أنه: لو كان علة فاعلة أولى بغير اختيار.. لوجب إنتاجه للعلة الثانية معه فتكون قديمة،ولوجب أن تنتج الثانية الثالثة وهكذا حتى ينتج هذا العالم الذي نعرف، وكل هذا يجب أن ينتج قديمًا إذ إنه لا سبيل للعلة أن ترجح وجود شيء في وقت دون وقت، وإلا فمن يرجح إيجاد الشيء في وقت دون وقت،فإنه مختار يختار هذا بالإرادة، وفاعل لأنه يوجد الشيء من عدم تبعًا لإرادته، فهو فاعل مختار، وسيأتي الكلام في الحلقات القادمة بمزيد تفصيل الكلام على صفات الله تعالى.ومعلوم أن العالم بصورته الحالية على الأقل حادث ولا سبيل لحدوثه، أي لحصوله في وقت دون وقت إلا باختيار. فلو كان واجب الوجود علة، للزم أن تكرر العلل القديمة إلى أول جزء من العالم المشاهد فيكون قديمًا وينتج قدماء كذلك. ولو على فكرة الأكوان المتعددة، لو كان كل بداية كونية هي نهاية لكون آخر سابق عليها، فهذه الأكوان المتعاقبة لا يمكن أن تكون لانهائية، لأنها تقبل الزيادة، وكل سلسلة تحصل حلقاتها على التعاقب لابد أن تكون متناهية، وإلا ترتب التسلسل infinite regress وهو مستحيل. وعليه فإنه يستحيل أن يوجد ويتحقق في الواقع موجودات أو كم (real physical quantity) لامتناهٍ من أي شيء.فإن اعترض معترض فقال: لا معنى لقولكم: إيجاد الشيء في وقت دون وقت، فإن الزمان لم يوجد إلا بحدوث هذا العالم المشاهد؛ نقول: المقصود بوقت دون وقت ليس زمان أينشتاين الفيزيائي، فإنه مخلوق كذلك عندنا مع العالم، وإنما المقصود أنه كما يقال: إن عمر الكون اليوم هو قريب من ١٣.٨ مليار سنة فإنه يمكن أن كان يوجد بحيث يكون عمره اليوم ١٣.٦ مليار سنة أو ١٤.٣ مليار سنة، لكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك، فهذا هو معنى قولنا: وجد في هذا الوقت دون ذاك.[6] وفي هذا المعنى يقول الإمام خضر بك (ت: 863هـ/1459م) في نونيته الشهيرة التي نظمها وقدمها للسلطان محمد الفاتح (ت: 886هـ/1481م):

إلهنا واجب لولاه ما انقطعت :: آحاد سلسلة حفت بإمكان
[7]Interview with nick watt.

[8] وسيأتي في المقالات القادمة المخصصة في الاستدلال على وجود الله مزيد تفصيل، وفي الكلام على صفات الإله، وعن مفهوم الإله، ما يوضح أكثر قضية أن الإله يستحيل أن يكون من الكون الممكن، ولا من قوانينه.وأيضًا أن مفهوم الإله الحق ليس ذلك المفهوم المشوه عن الإله عند الكثير من فلاسفة الغرب، الذي هو موجود جسم يشبه المخلوقات في الذات والصفات، فمن ثم أنكروه لاستحالته.[9] وسيأتي الكلام على قوانين الكون في الكلام على الأسباب.[10] شرح العقيدة البرهانية، تقي الدين المقترح، صـ 80-81.