قلما تمتعت أدلة بالمكانة التي تقلدتها تقنية بصمة الحمض النووي DNA typing منذ أول ظهور لها على خشبة المسرح الجنائي. فمنذ ظهورها في ثمانينات القرن العشرين والقضاء يتلقاها بالترحاب والثقة البالغين. ولم لا؟ وهي التقنية التي تستطيع التمييز بين الأفراد بطريقة دامغة لا تصل إليها مختلف تحاليل الأدلة الأخرى. إن ما للبصمة الوراثية من قدرة على التفرقة بين السبعة بلايين شخص على وجه الأرض هو في الواقع لأمر مبهر.

تبدأ قصة تحليل الحمض النووي من عمق الخلايا لتخبرنا –وأحيانا، لتخبر المحللين الجنائيين-الكثير والكثير عنا وعن تاريخنا وما قد نكون قد فعلناه في الخفاء. اليوم نتحدث عن تحليل الحمض النووي جنائيًا.


لغات كامنة

لعلك قابلت هذا التشبيه كثيرًا والسبب هنا وجيه، إن التكوين الجيني للإنسان على المستوى الجزيئي يشبه لغة خاصة بالفعل تملك حروفها وكلماتها وجملها مختلفة الطول بل وحتى المترادفات. يحمل البشر صفات مختلفة تحدد مظهرهم وكيفية قيام أجسامهم بالمهام الحيوية كلون عين وشعر معين أو حساسية نحو حيوان ما وما إلى ذلك. تتحدد هذه الصفات بناء على التكوين الجيني لهؤلاء الأشخاص. وهنا تبدأ كرة الثلج في التعقد نسبيًا.

هذا التكوين الجيني Genotype يتكون من الجينات Genes والأليلات Alleles وهي أشكال مختلفة لنفس الجين. يتم التعبير عن الجينات بالحمض النووي DNA وهو ما يتكون بدوره من سلسلة شديدة الطول من وحدات نسميها «نيوكليوتيدات Nucleotides». تختلف هذه النيوكليوتيدات عن بعضها البعض في القاعدة النيتروجينية التي تشبه حروف اللغة الجينية وهي أربعة أنواع؛ أدينوسين، جوانين، سيتوسين وثايمين. إن ترتيب هذه النيوكليوتيدات بما تحمله من قواعد نيتروجينية هو ما يحدد الجين الناتج وبالتالي يحدد ما سيقوم بفعله هذا الجين والبروتين الذي سينتج عن ترجمته.

تتصل النيوكليوتيدات مع بعضها البعض بواسطة جزيئات السكر التي تلتحم ببعضها بواسطة مجموعة فوسفات. تتصل القواعد النيتروجينية بالسكر من ناحية وقواعد مقابلة من ناحية أخرى ولكن بواسطة روابط هيدروجينية في هذه الحالة. تتمتع القواعد النيتروجينية بنوع من الالتزام والوفاء فلا ترتبط كل قاعدة إلا بنوع واحدة من القواعد الأخرى. للأدينوسين القدرة على الارتباط بالثايمين في جين يرتبط الجوانين بالسيتوسين دائمًا.

ولأن جزيء الحمض النووي البشري عبارة عن لولب مزدوج – أي يتكون من شريطين متقابلين مرتبطين عن طريق ارتباط القواعد النيتروجينية – فإن معرفة ترتيب قواعد شريط يمكننا من معرفة ترتيب قواعد الشريط المقابل ببساطة.

قلنا إن ترتيب القواعد النيتروجينية في النيوكليوتيدات – والذي يصل لآلاف الأزواج من القواعد النيتروجينية – يصنع جزيء الحمض النووي الذي نطلق عليه اسم جين. هنا نتعرف على الكروموسومات، تلك التكوينات التي تنتج من جزيئات الحمض النووي مرتبطة بالبروتينات ومكونة لعدة جينات متتالية.

نحمل نحن البشر 22 زوجًا من هذه الكروموسومات Autosomes مضافًا لها كروموسومي الجنس سواء XX أو XY وهو ما يعرف إجمالا بـKaryotype الإنسان. لكن ليس هذا فقط، فالخلايا البشرية تحمل نوعين من الحمض النووي؛ هذا الموجود بداخل أنوية الخلايا والآخر الموجود بداخل إحدى عضيات الخلية المسماة بالميتوكوندريا. يتواجد الحمض النووي الميتوكونديري mDNA على هيئة مئات الآلاف من النسخ في الخلية الواحدة والتي – أي الحمض النووي – يتخذ كل منها شكل الأنشوطة Loop. على العكس من الحمض النووي الموجود في الأنوية، فإن كامل الحمض النووي الميتوكونديري يتم توريثه من الأم وحدها.

هكذا يكون قد بقي لنا التفرقة بين الجزء الذي يحمل معلومات بروتينية من الحمض النووي للجين والموسوم باسم Exon والجزء غير الفعال من الجزيء Intron، وأخيرًا التفرقة بين امتلاك الخلية غير الجنسية «زوجا» من الكروموسومات أي Diploid يأتي أحدهما من الأب والآخر من الأم وبين امتلاك الخلايا الجنسية لمجموعة واحدة من الكروموسومات أي Haploid.


وجدتها.. ماذا بعد؟

كما ذكرنا فإن الحمض النووي يوجد في جميع الخلايا البشرية، وبالتالي فإنه من السهولة بمكان الحصول عليه من أي خلية يتم إيجادها في مسرح الجريمة سواء أكانت لعابًا، دماء، شعرًا، سائلاً منويًا أو أيًا كان. تعتبر هذه الحقيقة سلاحًا ذا حدين حيث يكون من السهل بشدة تلويث أي عينة إذا لم يتم اتخاذ الاحترازات المطلوبة.

على العالم الجنائي التأكد من تغطية شعره/ شعرها مع ارتداء كمامة دائمًا قبل الاقتراب من الجثة أو المكان الذي يحمل العينة المراد رفعها من مسرح الجريمة. بالإضافة لذلك فإن العينات بعد تحضير التقرير المطلوب حول العينة، يتم مقارنته بعينات قياسية للتخلص من أي عوامل ملوثة قد تكون قد أصابت العينة خلال معالجتها.

ما إن يقوم العالم الجنائي برفع العينة النووية، تواجهنا مشكلة جديدة، كيف سيتم الاحتفاظ بها سواء لحين إيصالها للمعمل أو لتخزينها في حال الحاجة إليها في المستقبل؟

تتحدد الإجابة على هذا السؤال على حسب نوع العينة التي تحوي الحمض النووي. إذا كانت العينة جافة أي شعر مثلاً أو خلايا ظهرية فإنها تُحفظ في أكياس ورقية تساعد على إبقائها جافة وغير ملوثة، أما إن كانت العينة سائلة كالدماء غير الجافة أو أي مصدر آخر فإنها تخضع إما للتجفيف أو للتجميد منعًا لعمل البكتيريا المؤدي لتكسيرها.


اللؤلؤة والمحار

http://gty.im/474200686

لأن الحمض النووي يعتبر جزيئًا مستقرًا إلى حد كبير، فإن تقنيات تحليله أصبحت تحتاج إلى كميات أقل فأقل منه، وصلت إلى 1 نانوجرام من الحمض النووي للقيام بتقرير حمض نووي متكامل. لكن قبل القيام بمعالجة الحمض النووي، علينا تحريره من الخلايا والتخلص من أي مواد أخرى قد تتسبب في تداخل النتائج.

تعتمد كل طرق إخراج الحمض النووي من الخلايا على فكرة بديهية وهي تكسير الخلايا لينساب الحمض النووي خارجًا من الجدران الممزقة. بالطبع يسهل تصور لما ستمثل هذه القضية مشكلة، فمع انسياب الحمض النووي خارجًا ستخرج كل مكونات الخلية من بروتينات وكربوهيدرات وسنحصل على خليط لا يمكن العمل به على حالته نهائيًا، سيحتاج الأمر لخطوة أخرى قبل أن نقوم بالمعالجة.

في العادة، تستخدم إحدى طريقتين لعزل الحمض النووي عن باقي مكونات الخلية. تعتمد الطريقة الأولى على مادة Chelex. يتم تحضير محلول قاعدي تركيزه 5 بالمائة من هذه المادة مع الخلايا المرغوب في تحرير حمضها النووي ثم تسخينها لدرجة حرارة قريبة من الغليان لمدة عشر دقائق.

يتفكك الحمض النووي بواسطة تلك الحرارة – المسئولة عن انفجار الخلايا أيضًا – إلى سلاسل أحادية بدلا من هيئته المزدوجة داخل الخلية. تتفاعل هذه المادة مع أي أيون في المحلول من شأنه مساعدة إنزيمات التكسير التي تؤدي لتدمير جزيئات الحمض النووي المنسابة. بهذا تحمي المادة الحمض النووي المطلوب فيصبح بالإمكان استعماله مباشرة.

أما الطريقة الثانية، فتقوم على أساس فكرة عدم الامتزاج. يتم تحضير محلول سائل من الفينول بحذر لما للفينول من تأثير كاوٍ على الجلد مع محلول تركيزه 96% من الكلوروفورم (وهو مادة مسرطنة يجب أيضًا الحذر في التعامل معها) وكحول أيزوأميل تركيزه 4% بالإضافة لكمية مماثلة لهذا المحلول من الخلايا المعلقة في الماء. في النهاية يتم تعريض كل هذا الخليط للطرد المركزي Centrifugation.

تتكسر الخلايا لتنطلق مكوناتها التي تذوب في إحدى الطبقتين المتكونتين: الطبقة الأولى، وهي المذيب القطبي أي الماء، والطبقة الثانية، وهي المذيب العضوي المكون من الكلوروفورم والكحول والفينول. تتجه جزيئات الحمض النووي للماء بينما تقف باقي المكونات الخلوية على الحد الفاصل بين الطبقتين مما يسهل إزالتها والتخلص منها.

بتكرار العملية السابقة يمكن التأكد من انعدام وجود أي دهون أو بروتينات أو كربوهيدرات متبقية بانعدام تكون الطبقة المائلة للبياض الفاصلة بين الطبقتين السابق ذكرهما. هاهنا نكون قد تمكنا من فصل الحمض النووي الذي نحتاجه وأخرجنا اللؤلؤة من محارتها. ما العمل الآن؟


ملف شخصي كامن في الخلايا

عنصرية جينية فوق جينات epigenetics
عنصرية جينية فوق جينات epigenetics

بسبب تطورها السريع، فإن تقنيات استقاء المعلومات من الحمض النووي قد تكون على قدر من التعقيد والصعوبة، لكنها في العمق تعتمد أكثر اعتمادها على عملية تكبير عينة الحمض النووي التي عادة ما تتواجد بكمية لا تكفي لتحليلها بالشكل المرضي، ثم تحليل العينة الناتجة بعد التكبير بواسطة تقنية الهجرة الكهربائية Gel electrophoresis.

تعتمد عملية التكبير على ما يعرف بتفاعل البوليميريز المتسلسل PCR الذي تم اختراعه عام 1983 على يد كاري موليس. يحاكي تفاعل البوليميريز الخلية الحية التي تصنع نسخة أخرى من حمضها النووي قبل أن تنقسم إلى خليتين خلال تكاثرها بحيث نتمكن من استخدام عينة تصل إلى 0.2 نانو جرام في صنع تقرير حمض نووي بعد تكبيرها وإعادة صنع نسخ عديدة منها بواسطة تلك التقنية.

ما إن نحصل على هذه العينة، تتجه الأنظار لترتيب جزيئات العينة طبقا لأطوالها. يقوم المتخصص بتحضير مادة هلامية من بوليمر يدعى بولي أكريل أميد polyacrylamide وصنع منخفضات فيها توضع فيها عينة الحمض النووي ويتم تسليط جهد كهربي على الهلام.

لأن جزيئات الحمض النووي تحمل شحنة سالبة، فإنها تتحرك نحو القطب الموجب (الأنود) مهاجرة خلال الهلام بسرعة تتناسب عكسيًا مع حجمها، فكلما كان الجزيء أطول كلما كانت حركته أصعب وبالتالي فإنه بعد مرور بعض الوقت تصبح الجزيئات قد انفصلت عن بعضها طبقًا لأحجامها ولا يتبقى إلا جعلها قابلة للمشاهدة بواسطة أصباغ بروميد الإيثيديوم. تحت الأشعة فوق البنفسجية، تظهر جزيئات الحمض النووي مختلفة الحجم عند أطوال موجية مختلفة.

عند الحصول على هذه الاطوال الموجية المعروفة باسم Bands يتبنى المحلل الجنائي القيام بعملية شاقة ولكنها روتينية للقيام بفصل الهياكل المختلفة للجزيئات النووية المعروضة أمامه بحيث يستطيع تحديد مدى احتمالية وجود ترتيب معين للنيوكليوتيدات لدى عدد معين من الأشخاص وما إلى ذلك من التوافيق والتباديل التي تستطيع في النهاية الإشارة الدامغة لمدى احتمال كون عينتين نوويتين تعودان لنفس الشخص أم استحالة ذلك؟

للأمر بالطبع الكثير من التفاصيل التقنية التي لا يتسع المجال لطرحها، لكننا ناقشنا في حلقتنا هذه الأفكار الأساسية التي توجد في أساس كل تقنيات تحليل الحمض النووي الروتينية الموجودة في العالم أجمع. في الحلقة المقبلة نعود في الزمن لجرائم أكثر قدمًا وأصعب مراسًا لننهي رحلتنا مع أساسيات العلم الجنائي بالنظر لعلم الإنسان.

المراجع
  1. Mark Okuda, Frank H Stephenson:A hands-on introduction to forensic science, cracking the case
  2. Richard Saferstein: Criminalistics-An Introduction to Forensic Science
  3. Andrew R.W. Jackson, Julie M. Jackson: Forensic Science, 3rd Edition