شردت بخيالي في حين غفلة وحلمت بمزرعة كبيرة مليئة بالخضرة وبعض الحيوانات الأليفة وبركة ماء يشرب منها بعض الطيور، أتسلق شجر التوت وأقطف ثمار المانجو، ويجري كلبي الأليف ليخطف السلة التي وضعتها أسفل الشجرة.

أتناول الفطور على مائدة بسيطة عليها زهرية صغيرة مليئة بالزهور الملونة، وفنجان من الشاي الساخن مع بعض الفاكهة المقطوفة من جنتي، أقصد مزرعتي.

بعد الظهيرة نلعب سويا أنا وأطفالي، تتلطخ أيدينا بالطين عند بناء كوخ صغير جدا لعرائسهم القماشية، ثم نجري لنلحق بالفراشات التي ترمي بلقاحها على الورود العطرة المبهجة، ولا مانع من اللحاق ببعض الحشرات التي تخفت في الجحور، ثم نسبح في بركة المياه الضحلة مع تراشق الأطفال، وعند الغروب نشاهد سويا منظر الشمس وهي تغطي السماء باللون البرتقالي وتترك خيوطا من الضوء، سرعان ما تتلاشى هي الأخرى.

نستعد لتناول العشاء، الذي يأتي ميعاده مبكرا من الليل، مصنوعا مما لذ وطاب من إنتاجنا المنزلي، كالمربى منزلية الصنع والجبن منزلي الصنع وبيض دجاجاتنا وبعض الخضرة التي نزرعها خلف المزرعة، بعد ذلك يأتي ميعاد قراءة القصة الشيقة على الأسرّة في غرفة بسيطة دافئة بإضاءة خافتة.

لا أدري في الحقيقة لماذا أصبحت حياة الإنسان المعاصر أكثر تعقيدا من ذي قبل، ومع تقدم الأعوام يزداد التعقيد ليتركنا أشباه بني آدم، حتى أصبح حلم البساطة مجرد حلم وليس حقيقة.

«أينشاتين» الذي لقب بأفضل عبقري مبدع في القرن العشرين، وصل لأفضل نظرياته بفكرة بسيطة للغاية نتيجة لإطلاق مخيلته عندما انغمس في حلمه بأنه يسير في الفضاء ويسرق شعاعا من الشمس ليذهب به إلى نهاية الكون، وعندما وصل وجد نفسه عند النقطة التي ابتدأ منها رحلته، بهذه الفكرة البسيطة وصل لأهم نظرياته بأن الكون الذي نعيش عليه منحنٍ ومحدود، ما أبسط الفكرة!

مارك زوكربيرج مؤسس الفيس بوك و ستيف جوبز رائد الأعمال ومؤسس شركة «آبل» يرتديان زيا واحدا طوال الأيام! فعلى الرغم من أنهما من أثرياء العالم فقد فهما معنى البساطة وتأثيرها العميق على حياتهما وعلى عقلهما.

أسأل نفسي دوما كيف لي أن أربي أولادي في ظل حياة سريعة معقدة مملة مثل هذه، فهل مطلوب منهم أن ينتهوا من ربط أحذيتهم سريعا لكي نلحق بميعادنا بالخارج؟ وأن يأكلوا سريعا لكي نلحق بتدريبهم في النادي الرياضي؟ وربما نأكل في السيارة! أو أن نقرأ سويا قصة واحدة عندما يريدون المزيد لأنه حان وقت النوم، أو لأنني مررت بيوم حافل بالمتاعب والإرهاق.

هل مطلوب منهم أن يجلسوا في بيت صغير بحوائط فارغة صماء وسقف يشبهها لأن وقت نزهتنا للحديقة صغير وقلما يحدث؟ هل مطلوب أن نتعلم عن الحيوانات والنباتات من خلال الكروت أو المجسمات البلاستيكية التي لا تملك ضررا ولا نفعا لأننا عزفنا عن الطبيعة وأصبحت وسيلتنا لمشاهدتهم يتحركون هي شاشة التلفاز البلهاء؟!

كيف لي أن أنشئهم على البساطة وعلى تعطيل كل الأزرار التي ندوس عليها دوما للحاق بركب السرعة، لكي نهدأ ونستمتع بما نفعله لكي نتذوق حلاوة كل شيء؟ لكي نتأمل قليلا في السماء، لكي نهدأ ونفكر ونبدع. أيولد الإبداع في حياة كهذه؟! لا أظن.

الإبداع يحتاج إلى عقل خال من التعقيدات، عقل يتأمل في الأشياء ليربط كل شيء بكل شيء آخر، عقل يركز في ألوان الأشياء وأنماطها ومعادلاتها وبدائلها وتوافيقها، لتذهب للعقل البسيط وتتركب وتتكون من جديد لتنير الطريق وتترابط مع الأشياء المشابهة لها، هنا فقط يخلق الإبداع.

ولأننا نريد أطفالا أصحاء سعداء بسطاء، يجب أن تكون البساطة أسلوب حياتهم، ولكن عليك أنت أولا أن تجعلي البساطة والفطرة عنوانك، البساطة في المأكل والملبس وفي ألعابهم، ما الذي يجعل الطفل الصغير يترك كل الألعاب الملونة والمتحركة ليتجه نحو صندوق من الكرتون ليقفز بداخله وتدور مخيلته ليصنع منه أجمل سيارة؟ إنها البساطة. الطفل بطبيعته بسيط غير معقد يميل إلى الأفكار البسيطة والألعاب البسيطة التي تنمي مخيلته وابتكاره.

اجعلي إعادة تدوير الأشياء من حولكم هو أسلوبكم في التعامل مع الأشياء، اجعليه يلامس الأرض والطين ويزرع بيده نباتات وأزهارا عدة ويعتني بها كل يوم لتطرح نبتة جميلة ليس أمام عينه فقط، بل في عقله أيضا، سيزدهر عقله بالجمال الرباني وستتعود عيناه على رؤية الجمال من حوله، وبالتأكيد سيتعلم الصبر والبساطة.

لا تنفقي المال في ملء خزانة ملابسه، بل استثمري المال في الكتب والقصص البسيطة التي ستعلمه منهاج الحياة وستبني شخصيته وعقله، اجعلي وقتك معه بسيطا خاليا من الشاشات التي تسرق عمرنا وصحتنا، وقتا خاليا حتى من الطلبات والأوامر والتوجيهات، وقتا ممتعا في الطبيعة الساحرة صنع الله الذي أتقن كل شيء، وقتا بسيطا!

ربما بهذه البساطة نعيد إلى حياتنا الهدوء والطمأنينة، ونلحق بسير العظماء والعلماء، ونخلق جيلا يركز على تنقية عقله من كل الشوائب التي تدور من حوله، تلك الشوائب التي ملأت حياتنا بتوافه الأمور وصغائرها، وزادتها تعقيدا وتوترا، وجعلتنا آلات تمشي على الأرض، ويختار فقط ما يغذي عقله وروحه بكل ما هو بسيط.