في مطلع الثمانينيات، وفي إحدى ليالي نيويورك الساهرة، وجد الشاب آرون سوركين نفسه وحيدًا في شقته الصغيرة التي تشاركه سكناها صديقة سابقة كانت في تلك الليلة خارج المدينة. كان جميع أصدقائه مشغولين هذه الليلة، وكأنما دُعي الجميع إلى حفلة إلا هو.

لم يكن هناك من وسائل ترفيه في هذه الشقة الصغيرة سوى طابعة قديمة نصف آلية ورثها أحد أصدقائه عن جده وتركها في حوزته لدواعي سفره لفترة قصيرة. جلس سوركين إلى الطابعة وأخذ يدق على حروفها المعدنية ليكتب حوارًا متخيلًا. لا قصة، ولا حبكة درامية من أي نوع، فقط حوار دائم بين شخصيات متنوعة. قضى ليلته يكتب الحوار بلا كلل أو توقف، وفي الصباح عرضه على أصدقائه ليستقصي رأيهم.

في ذلك الوقت كان سوركين قد أتم دراسة المسرح، وكان يسعى جاهدًا لأن يشق طريقه كممثل محترف. لم يكن يعرف حتى تلك اللحظة السحرية التي جلس فيها إلى الطابعة نصف الآلية التي ورثها أحد أصدقائه عن جده، أنه بعد بضع سنوات سيكتب أولى مسرحياته بعنوان «A Few Good Men» التي ستشهد عرضًا طويلًا في مسارح برودواي الشهيرة، ثم تتحول بعد ذلك إلى فيلم سينمائي شهير. لم يكن يعرف أيضًا أنه خلال عقدين من الزمن سيصبح أشهر كُتاب السيناريو في الولايات المتحدة وربما في العالم.

بوسترات أفلام من أعمال آرون سوركين: The Social Network، وThe Trial of the Chicago 7، The West Wing

ساحر الحوار

أي شيء أكتبه هو في الأصل حوار. إنني أكتب عن أناس يتحدثون في غرف أنيقة.
آرون سوركين

آرون سوركين هو أحد أشهر كتاب السيناريو في العالم، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، وتقوم شهرته في الأساس على أسلوبه المميز في كتابة الحوار السينمائي. يكتب سوركين الحوار بحاسة الإيقاع الموسيقي، فالحوار فيه مسحة موسيقية تأتي من الإيقاع وقوة الكلمات ورجاحة الحجة، وبلاغة الصورة، والحس الكوميدي.

يشتهر سوركين أيضًا بالتكرار إذ إن كثيرًا من المعالم المميزة لأسلوبه تتكرر بشكل يكاد يكون مفرطًا في أغلب أعماله، وهو ما يرتبط بنزعة ذاتية لتكرار الجمل والحكايات، فهو يكرر كثيرًا من الحكايات في كل حواراته. من بين هذه الحكايات المكررة يقول سوركين في أحد الحوارات: «اعتاد والداي اصطحابي إلى المسرح منذ الطفولة. شاهدت العديد من المسرحيات وأنا في عمر أصغر من أن أفهمها، لكنني أحببت صوت الحوار الذي كان بمثابة الموسيقى بالنسبة لي، وكنت أتوق لمحاكاة هذا الصوت».

الحوار عند سوركين ذو موسيقى داخلية خاصة. الجدالات المستمرة بين الشخصيات تكسب الحوار إيقاعًا خاصًا كما لو كانت الشخصيات منخرطة في مباراة بنج بونج دائمة. ورغم أنه من السهل على المشاهد ملاحظة أسلوب سوركين شديد التميز، فإن ذلك لا يعني أن الحوار مصنوع أو مزيف، ولكنه حوار ذكي يدفع المشاهد للتفكير، وهو ما يصرف انتباهه عن تلك الفكرة.

في إحدى حلقات قناة الفيديو الشهيرة «Lessons From The Screenplay»، يقول توني كاتب مقالات الفيديو وصاحب القناة: «سوركين هو أشهر كاتب سيناريو في الوقت الحالي، وهو ليس مشهورًا لأنه كاتب عظيم، وإنما لأن أسلوبه ملحوظ». يستدرك توني بعد ذلك مؤكدًا أن سوركين كاتب موهوب بالطبع، وأن موهبته الكبيرة وخصوصًا في كتابة الحوار هي ما تميزه بشكل كبير إلى حد أن يلاحظه المشاهد العادي الذي لا ينتبه عادة إلى تقنيات كتابة السيناريو ودواخلها.

أربعة من أفلام سوركين تدور أحداثها في قاعات المحاكم ومكاتب المحاماة. بالتأكيد هناك تأثير مباشر لحقيقة أن ثلاثة من أفراد عائلته (الأب والأخ والأخت) يمتهنون المحاماة، لكن اللافت في هذه الملاحظة أن المحامين يكتسبون عيشهم من المجادلة، وأن قاعات المحاكم والنزاعات القانونية هي إحدى أكثر المساحات الجذابة للحوار والجدال.

مسلسل «The West Wing»، أشهر أعمال سوركين التلفزيونية، تدور أحداثه داخل البيت الأبيض حول المهام اليومية للفريق الرئاسي الذي يتعين عليه الدخول في جدالات مستمرة مع الصحافة ونواب مجلس الشيوخ وأعضاء الحكومة. مسلسل «The Newsroom»، تدور أحداثه في كواليس برنامج تلفزيوني يقوم فيه البطل بدور مذيع شهير، وهي مهنة أخرى تقوم على الجدال.

في أحد حواراته يقول سوركين: «إنني أحب الحوار، ولست محض صانع حكايات. الحبكة الدرامية ليست إحدى نقاط قوتي، ودائمًا ما يصيبني التوتر بشأنها. بالنسبة لي، الحبكة هي شيء لا بد من فعله لأتمكن من كتابة الحوار».

لا يخلو هذا التصريح من مبالغة للتأكيد على محورية الحوار في أعمال سوركين، بيد أنه يرتبط بحقيقة أن غالبية أعماله هي معالجات درامية لقصص أو شخصيات حقيقية. نرى ذلك في أفلام «The Social Network» عن شخصية مارك زوكربرج مؤسس موقع «فيس بوك»، و«Steve Jobs» عن مؤسس شركة «أبل»، وأفلام «A Few Good Men»، و«The Trial of the Chicago 7» المقتبسة عن محاكمات حقيقية. الأمر نفسه ينطبق على الأعمال التلفزيونية مثل «The West Wing» الذي يرى البعض أنه تجسيد لإدارة بيل كلينتون، أو «The Newsroom» الذي يعالج أحداثًا حقيقية مثل ثورة 25 يناير المصرية.

الرومانسي المثالي

لا أميل إلى أي أيديولوجية سياسية، ولا أرى أنني ذو رؤية سياسية متطورة أو عميقة، فأنا لم أتعلم أو أتدرب سوى في المسرح. ولكنني أرى أن أسلوبي يمكن وصفه بأنه مثالي رومانسي.
آرون سوركين

مثل حكاياته المكررة، يعيد سوركين وصف نفسه بالمثالي الرومانسي في كثير من حواراته. أبطاله وشخصياته هم أيضًا مثاليون ورمانسيون. في فيلم «The American President» يعاني الرئيس الأمريكي من الشعور بالذنب بعد ما أصدر أمرًا بمهاجمة مقر الاستخبارات الليبية لأنه يعرف أن هذا القرار سيتسبب في مقتل الأبرياء. في فيلم «A Few Good Men» يغامر المحامي المرموق بمستقبله بل وحريته كلها في سبيل إدانة أحد كبار القادة العسكريين. في فيلم «Moneyball» يرفض مدير أحد الأندية الصغيرة عرضًا مغريًا لإدارة ناد أكبر لتمسّكه بحلمه المثالي في تحقيق الانتصار على النظام غير العادل. في فيلم «Molly’s Game» ترفض مولي كثيرًا من العروض الكفيلة بانتشالها من أزمتها التي تهددها بالسجن، فقط حتى لا تعرض حياة الآخرين للخطر.

أحد القواسم المشتركة بين شخصيات سوركين هي كونهم ليبراليين. قد لا يمتلك سوركين رؤية سياسية عميقة، ولكنه يمتلك فهمًا عميقًا للكواليس السياسية وهو ما نجده في غالبية أعماله، فباستثناء فيلم «Malice» الذي يدور في إطار نوع الفيلم نوار، فإن كل أعمال سوركين السينمائية والتلفزيونية ذات بعد سياسي واضح ومتأصل بنيويًا. 

لدى سوركين مجموعة من القناعات السياسية التي تميل بشكل واضح إلى الليبرالية، وتنعكس في أعماله في الصراع الدائم بين الليبراليين والمحافظين. أبطال العمل دائمًا ما ينتمون إلى التيار الليبرالي أو الحزب الديمقراطي، وفي المقابل يواجهون شخصيات أقرب إلى الهزلية ينتمون إلى التيار المحافظ أو الحزب الجمهوري. لا ينحصر ذلك في أعمال ذات طابع سياسي مباشر مثل «The West Wing»، أو «The American President»، أو «The Newsroom»، وإنما تحضر كذلك في أعمال مثل «Studio 60» الذي تدور أحداثه في كواليس برنامج تلفزيوني كوميدي.

إن ميل سوركين إلى الليبرالية ليس موقفًا سياسيًا بالأساس، ولكنه اختيار مثالي رومانسي. أبطال سوركين يميلون إلى الليبرالية لما لأفكارها من طابع مثالي رومانسي. الرئيس الأمريكي الذي يعارض عقوبة الإعدام، والإعلامي الذي يسعى لتقديم الحقيقة ولو على حساب معدلات المشاهدة، والنشطاء السياسيون الذي يحثون المتظاهرين على السلمية في مواجهة العنف، كل هذه الأمثلة وغيرها هي انعكاسات لأفكار مثالية ورومانسية وليست في الأساس سياسية.

حكاية أخرى من حكايات سوركين المكررة يقول فيها: «في منزلنا كان كل أفراد العائلة أكثر مني ذكاءً. أصدقائي أيضًا كانوا أذكى مني. وكنت أنا أستمع إلى كل هؤلاء الأذكياء والمثقفين يتجادلون طوال الوقت، وكان الجدال الذكي هو أحب الأصوات إلى قلبي».

أبطال سوركين هم أيضا أذكياء ومثقفون، وتلك من الصفات المتأصلة فيهم بحكم احترافهم للجدال وعملهم بمهن نخبوية مثل المحاماة والإعلام والسياسة. في كتابه «Considering Aaron Sorkin» يقول توماس فاهي[1]: «تتلذذ كثير من شخصيات سوركين بتصحيح القواعد اللغوية وإلقاء الإحصاءات في وجه الجهل. إنهم غالبًا ما يعرفوا أنفسهم عبر حجم المعرفة التي يمتلكونها، ويستعرضون هذه المعرفة من خلال الحديث السريع، والمجادلة، وسرعة البديهة».

يقول سوركين، إن أعماله تدور في صورة حوار بين شخصيات في غرف مغلقة. هذه الغرف هي عادة قاعات محاكم أو مكاتب عمل، ونادرًا ما تدور الأحداث في البيوت أو المنازل، وهي الملاحظة التي يعلق عليها فاهي بقوله: «إن البيوت هي أماكن الراحة، أما المكاتب فهي أماكن الأفعال والأفكار».

شخصيات سوركين في حركة دائمة حتى إن هذا الأسلوب المعروف باسم «Walk and Talk» أو الحديث أثناء المشي، أصبح من العلامات المميزة لأسلوب سوركين، بل إن هذا المصطلح قد صك خصيصًا من أجله. هذه الحركة الدائمة هي مجاز لطاقة أبطاله ونشاطهم الدائم وشغفهم بالحياة العملية حتى وإن كانت على حساب الحياة الشخصية. في الجزء الأول من مسلسل «The West Wing» ينشغل ليو مكجاري مدير الفريق الرئاسي بعمله وينسى أن يحضر لزوجته هدية بمناسبة عيد زواجهما. تعاتبه الزوجة بقولها: «عملك ليس أهم من زواجنا»، فيجيبها: «إنه كذلك في الوقت الحالي».

في كواليس الكتابة

واحدة من حكايات سوركين المكررة هي حكايته مع المسرح. يسترجع سوركين أولى ذكرياته مع المسرح عندما كان في الرابعة من عمره. كان بصحبة إخوته وبعض الأصدقاء عندما أخذتهم المربية إلى أحد المسارح القريبة. دخل الأطفال إلى كواليس المسرح وبدأوا في التقافز واللعب هنا وهناك. أما سوركين فقد تعلقت عيناه بعدد من الممثلين يؤدون مسرحية غنائية. 

شكلت هذه التجربة وجدان سوركين إلى حد كبير، ليس فقط عبر تعلقه بالمسرح، ولكن تحديدًا شغفه الشديد بكل ما يجري وراء الكواليس. ولهذا فإن جميع أعمال سوركين تكاد تتمحور حول فكرة «ما وراء الكواليس»، سواء كانت كواليس صناعة السياسة (The West Wing – Charlie Wilson’s War)، أو الإعلام (The Newsroom – Sports Night)، أو التكنولوجيا (The Social Network – Steve Jobs)، أو حتى كواليس الرياضة (Moneyball).

كان لكواليس الكتابة نصيب موفور أيضًا من حياة سوركين العملية. فقد عكف لسنوات طويلة على إلقاء المحاضرات والورش التدريبية حول فن كتابة السيناريو، نقل من خلالها كثيرًا من أسرار حرفته وموهبته المميزة.

كما أسلفنا فإن اهتمام سوركين بالحبكة الدرامية يتراجع لصالح الحوار. يلخص رؤيته للحبكة في عنصريين اثنين: الرغبات والمعوقات. يقول سوركين إنه لا يبدأ برسم ملامح الشخصية، وإنما يبحث عن أهدافها ورغباتها، فهذه الشخصية تسعى إلى المال، وتلك تسعى إلى الفتاة، وهؤلاء يرغبون في الذهاب إلى فيلادلفيا. كل هذه الرغبات تصطدم بمعوقات تمنعها عن أصحابها، وكل شخصية لديها أسلوبها واستراتيجيتها الخاصة في تجاوز تلك المعوقات، وهذا الأسلوب هو ما يخلق الشخصية ويرسم ملامحها الرئيسية.

الحب هو أكثر الرغبات المحركة لشخصيات سوركين، الرغبة في إبهار المرأة واقتناص قلبها هي المحرك الرئيسي لأبطاله والدافع الأول لتفوقهم وتميزهم على المستوى العملي. في فيلم «The Social Network» يقوم مارك زوكربرج بتغيير العالم بشكل حرفي من أجل إبهار إريكا. يصادفها مارك في أحد الأيام بعد انفصالهما ويسألها: «أسمعتي بموقعي الجديد؟»، فتجيبه بالنفي. يخرج مارك من المكان بخيبة أمل كبيرة وعلى إثرها يقرر أن عليه التوسع لتضخيم موقعه. في مسلسل «Studio 60» يتحول مات من كاتب مغمور إلى الكاتب الرئيسي والمنتج بسبب حبه لهاريت أحد أبطال برنامجه التلفزيوني، وفي «The Newsroom» يقرر ويل أن يقلب حياته رأسًا على عقب ويكون إنسانًا أفضل فقط من أجل استرداد حب ماكينزي.

يشتهر أسلوب سوركين بالسرد المركب غير الخطي. بعد عدد من التجارب التقليدية على مستوى السرد في أعمال مثل «A Few Good Men»، و«Malice»، و«The American President»، بدأ سوركين التجريب في الأسلوب السردي مع مسلسل «The West Wing» عبر خطين سرديين متوازيين يستعرض من خلال أحدهما ماضي الشخصيات القريب والبعيد.

يتعقد الأمر أكثر مع فيلمه الأشهر «The Social Network» والذي فاز عنه بجائزة الأوسكار لأفضل نص سينمائي مقتبس، إذ تدور أحداث الفيلم حول ثلاث قضايا قضائية يتعرض لها مارك زوكربرج بشأن موقعه الشهير. يتلاعب السرد بمهارة فائقة بين عدد من الخطوط الزمنية ما بين الحاضر المتمثل في القضايا الثلاث، والماضي الذي يتم استرجاعه عبر شهادات الأطراف المختلفة لهذه القضايا. يتكرر الأمر نفسه بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة من التعقيد في أفلامه الثلاثة التالية وبشكل مواز في أعماله التلفزيونية أيضًا، ليشكل إحدى البصمات الرئيسية لأسلوب سوركين الشهير.

التجريب والميل إلى التعقيد على المستوى السردي ليس مجرد حرفية ومهارة استثنائية في كتابة النصوص السينمائية، أو انعكاس بسيط للتطور الذي لحق بهذا العنصر الفني في السينما ما بعد الحداثية، وإنما يحضر على مستوى درامي وسينمائي أعمق.

الخطوط السردية المركبة تخلق صورة تشريحية أكثر وضوحًا للشخصيات ودوافعها المختلفة، كما أنها تخلق روايات متعددة للحدث الواحد بما يدفع المشاهد للتماهي والتعاطف مع شخصيات نقيض البطل Anti-hero مثل مارك زوركربرج، وستيف جوبز، ومولي بلوم. أما على المستوى السينمائي فإنها تخلق مساحات أوسع لتأثير عنصر المونتاج، أحد العناصر التأسيسية في فن السينما، ولهذا سنجد أن أفلام سوركين تتميز بأسلوب مونتاجي متقن ومعقد للغاية، وهو ما منحها ثلاثة ترشيحات لجائزة الأوسكار، وفوز وحيد لفيلم The Social Network.

على الرغم من ميل سوركين الدائم إلى التكرار، سواء داخل أعماله عبر تكرار استخدام نفس الجمل الحوارية، ونفس المواقف والتيمات، أو من خلال حواراته ومحاضراته التي يعيد خلالها تكرار نفس الحكايات بنفس التفاصيل والألفاظ، فإن هذا التكرار هو ما يميز أسلوب سوركين ويجعله ملحوظًا للمشاهد وممتعًا في الوقت نفسه، وهذا الأسلوب الخاص والمميز هو ما دفعه إلى دائرة الضوء في ظاهرة تكاد تكون استثنائية لكاتب سيناريو أن يعرفه الجمهور باسمه وصورته ليس في هوليوود أو داخل الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وإنما على مستوى العالم.

المراجع
  1.   Thomas Fahy, Considering Aaron Sorkin, USA: McFarland & Company, Inc., Publishers, 2005, p. 4