منذ 3 آلاف عام، صنع أحد فناني حضارة المايا نقشًا لكائن يُشبه الإنسان يستطيع الطيران، وهو ما تكرّر في العديد من الحضارات القديمة الأخرى مثل الحضارة المصرية (عُمر الأثر 3150 ق.م)، وأيضًا في بابل (2000 ق.م)، صوّرت هذه الآثار بشرًا يمتلكون قُدرة فردية على الطيران، لكن هذه الصور ارتبطت دائمًا بالأساطير والمخلوقات غير الطبيعية.

وهنا لا تغيب عن بالنا الأسطورة اليونانية عن الفتى إيكاروس الذي حلّق ناحية الشمس مستعينًا بجناحين من الشمع صنعهما له أبوه.

وبالطبع لم يكن يتخيّل أحد أن إنسانًا «عاديًا» سيُحقق حلم البشر في الطيران، ليس بمعونة الآلهة أو بامتلاك قُدرات خارقة، فقط باستعمال عقله وجهده غير المسبوق على البحث والابتكار، هذا الإنسان هو العالم الأندلسي عباس بن فرناس.

النشأة: حكيم الأندلس

هو أبو القاسم عباس بن فِرناس بن وَرْداس التاكرني. لا نعرف له تاريخ ولادة محدد، إلا أن المؤرخين أجمعوا أنه تُوفي في سنة 274هـ/884م وعمره زاد عن الثمانين عامًا، وبهذا يكون وقت ولادته التقريبي في أواخر القرن الثاني للهجرة، حوالي سنة 194هـ.

أصله من برابرة مدينة «تاكُرُتا» التي تقع ضمن منطقة رندة جنوبي الأندلس، لكنه نشأ في مدينة قرطبة عاصمة الدولة الأموية، ووقتها كانت مركزًا رئيسيًا للعلم والتنوير في أوروبا، كان يُشدُّ إليها الرحال من الشرق والغرب للتعلم من معارف العرب وفنونهم وصناعتهم.

يتصل نسبه إلى أسرة عربية مغربية اعتنق أبناؤها الإسلام في زمن مبكرٍ من دخوله المغرب، وعُرف عن أهله علاقتهم الجيدة ببني أمية، وأنهم من مواليهم. قبيلة ابن فرناس تُدعى قبيلة البرانس أو قبيلة التبر، والتي اشتهرت بشدتها وحروبها وإخلاصهم لبني أمية.

في هذا المحيط العلمي الزاخر نشأ ابن فرناس، وتميز منذ صغره بالذكاء وسرعة الحفظ ودقة النظر. في أحد كتاتيب قرطبة تعلم القرآن ومبادئ الدين، ثم اعتاد حضور الحلقات العلمية التي كانت تُعقد في جامع قرطبة وتشرح كافة العلوم من كل الأشكال.

في وقتٍ وجيز، جمع ابن فرناس معرفة موسوعية في مجالات الأدب واللغة، وكذلك الفنون والموسيقى، وانتهاءً بدراسة الطب وعلوم الأمراض والأعشاب والنباتات وكيفية استخدامها في العلاج، كما درس الفلسفة والنجوم والمنطق، وأتقن النحو ودقائق الإعراب.

وتأثر ابن فرناس بآراء العالم الفلكي أبي عبيدة البلنسي، الذي قال بكروية الأرض.   

يقول أستاذ الآداب في جامعة بغداد محسن جمال الدين: إن حالة ابن فرناس هي حالة الإنسان الذي جاء من أقلية سياسية لم يشفع لأفرادها بامتلاك المجد إلا بطلب العلم والبروز الثقافي والطاعة الخالصة للأمير والسعي وراء المعرفة وكسب العيش عن طريق العلم والعمل الكريم.

تفوق ابن فرناس في كل علوم عصره؛ برع في الطب حتى أن الأمراء الأمويين اتّخذوه طبيبًا خاصًّا لمعالجة أفراد أسرتهم، ومُشرفًا على صحتهم وطعامهم، وقال عنه العالم اللغوي الزبيدي الأندلسي إنه «كان متصرفًا في ضروب الإعراب».

ومن أشهر القصص التي رُويت لنا عن مدى تفوقه في مجال الأدب، أنه لما وصل إلى الأندلس كتاب علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي عجز علماء قرطبة عن فهمه، وهي المهمة التي تصدّى لها ابن فرناس، ففك للأندلسيين غوامضه وشرحه لهم بأسلوبٍ سهل ومبسط، لذا قال عنه الأديب الأندلسي عثمان بن سعيد الكناني المُلقّب بـ«حرقوص»، متحدثًا عن ابن فرناس: إنه اول من فكّ في بلادنا العروض، وفتح مقفله، وأوضح للناس ملتبسه».  

أيضًا، قيل عن ابن فرناس إنه كان يُحسن علم الموسيقى ويضرب العود ويغني عليه، وذكر المؤرخ ابن حيان أن ابن فرناس «حذق الموسيقى وعانَى ضرب العود وصوغ الألحان».

قال عنه المؤرخ الأندلسي ابن حيان: هو نجم في عصر الحكم الرّبضي (الحكم بن هشام)، ووصفه بأنه حكيم الأندلس، الزائد على جماعتهم بكثرة الأدوات والفنون … وكان فيلسوفًا حاذقًا، وشاعرًا مفلقًا، مع براعته في علم التنجيم.

وهكذا اشتهر ابن فرناس بقلب «حكيم الأندلس» بسبب تفوقه في أغلب علوم وفنون عصره، هذا اللقب منحه له عالم الاجتماع ابن خلدون. 

الحياة العلمية في عصر ابن فرناس

كان من حسن حظ ابن فرناس أنه عاش في وقتٍ كفل فيه الأمراء الأمويون الذين عاصرهم على البلاد حالة من الأمن والرخاء والتقدم الحضاري على كافة الأصعدة.

بداية من عهد الأمير الحكم، الذي عاشت فيه الأندلس أوقاتًا من الهدوء والدِعة لدرجة زادت فيها عدد دور قرطبة إلى 33 ألف دار وعدد سكانها إلى ربع مليون نسمة، وهو رقم استثنائي إذا ما قُورن بكافة المدن الكبرى في العالم العربي والإسلامي وأوروبا في ذات الوقت.

ما يؤكد أن الحياة في قرطبة كانت أكثر من استثنائية لذا أقبل كثيرٌ من الأندلسيين على العيش فيها.

وهو ذاته ما حرص على الاستمرار فيه الأمير عبدالرحمن الثاني (المعروف بِاسم عبدالرحمن الأوسط)، الذي عُرف عنه الشغف بالأدب والعلوم، فشجع الحركة العملية وهيأ كافة الأجواء أمام العلماء للإبداع في كافة مجالات تخصصهم، أما في عهد الأمير محمد بن عبدالرحمن وبالرغم من أنه شهد الكثير من الثورات أبرزها ثورة مدينة طليطلة وانشغاله الكبير في مقاومة حركات التمرد تلك، بالإضافة إلى عودة النورمان (الشعوب الإسكندنافية) لغزو السواحل الأندلسية فإنه لم يتوقف عن العناية بالحركة العلمية طوال عصره.

أشهر مخترعات ابن فرناس

اشتهر العباس بن فرناس في كافة أنحاء الاندلس بأنه من العلماء الذين لا يتوقفون عن حصد العلوم في أذهانهم وحسب وإنما يخضعونها دومًا للتجربة العملية.

اعتاد القيام بتجارب يُخضع فيها ما تعلّمه للدراسة، وأن يصنع لنفسه آلات وأدوات علمية لم يتطرّق لها أحد من قبل، مثل:

برع في علوم الكيمياء، وتوصّل إلى طريقة لاختراع الزجاج من نوع حجارة منتشرة في الأندلس، وبهذا يسّر على الأندلسيين صناعته محليًّا بثمن بخس بدلاً من استيراده من الخارج، سريعًا أقبل الأندلسيون على طريقته، وانتشرت طريقته في كل مكان في الأندلس، كما أجرى تجارب حثيثة لتحويل المعادن إلى ذهب، واخترع أحد الأشكال الأولية لقلم الحبر بدلاً من الأقلام التي تعتمد على محابر خارجية.

أيضًا، في علوم الفلك اعتاد مراقبة النجوم والكواكب في مداراتها، فابتكر آلاتٍ تُساعده على هذا الرصد، مثل آلة «ذات الحلق»، وهي آلة تشبه الاسطرلاب، ورفعها إلى الأمير محمد بن عبدالرحمن.

كما ابتكر ابن فرناس آلة «الميقاتة»، والتي تعادل ساعة الحائط الآن، لأنها كانت تعمل على تحديد الوقت في اليوم بدقة.

وبلغ من شغفه بالنجوم والفلك، أنه حوّل سقف داره إلى هيئة السماء، صوّر فيها الشمس والقمر والكواكب ومداراتها، والغيوم والرعد والبرق، فكان من أعجب ما رآه الأندلسيون من اختراعات.

وبالطبع فإن تجربته التاريخية في الطيران هي حديث العالم حتى الآن، ومن فرط أهميتها سنتحدث عنها بكثيرٍ من التفصيل.

تجربة الطيران

قبل الشروع في تجربته المهمة، قام ابن فرناس أولاً بالعديد من التجارب المهمة درس بها ثقل الأجسام ومقاومة الهواء لها وتأثير ضغط الهواء عليها.

ساعده على ذلك علومه المتفوقة في  علوم الفلك والرياضة والكيمياء، واعتقد أنه يمتلك ما يكفي من معلومات تعينه على القيام بتجربة الطيران.

ارتدى ابن فرناس رداءً من الحرير المتين كساه بريش الطيور، ثم صنع لنفسه جناحين من الحرير أيضًا، وأجرى حسابات دقيقة اختبر بها قُدرة الجناحين على رفع جسمه، وتيقن من أن هذه الوسائل ستعينه على الطيران بجسمه في الفضاء.

سريعًا، أعلن ابن فرناس للناس عن تجربته التاريخية، وأنه سيطير من الرصافة (مدينة قُرب قرطبة)، فاجتمع الناس فيها وتلمّسوا رؤية تجربة أبي القاسم، الذي صعد فوق مرتفع بالقرب من جبل العروس، وحرّك جناحيه وقفز بهما في الجو.

نجحت التجربة، وطار ابن فرناس في الفضاء مسافة بعيدة عن المرتفع الذي وقف فوقه، وسط دهشة الناس الذين أخذوا يُهللون له.

الفشل الوحيد الذي صاحب هذه التجربة هو مرحلة النزول، بعدما غاب عن ابن فرناس تصميم ذيل يُعين جسده على الهبوط بأمان، ولهذا اصطدم جسده بشدة بالأرض ونالته إصابات متعددة منها كسر في إحدى فقرات ظهره أبقته قعيد الفراش لفترة طويلة، لكنه لم يمت وبقي حيًّا بعدها.

والجدير بالذكر هنا أن ابن فرناس عندما قام بتلك التجربة لم يكن شابًا قويّ الجسد، وإنما كان في الـ60 من العُمر.

قصة هذه التجربة شاعت بين الناس سريعًا، ليس في قرطبة وحدها ولكن في كل أرجاء الأندلس، وخلال رحلة انتشارها روُيت بطرقٍ متعددة، فاكتسبت إضافات معينة وزيدت عليها تفاصيل أخرى خرجت بها من كونها حقيقة وحدثًا تاريخيًا إلى اعتبارها قصة ذات مسحة أسطورية، وهكذا عاشت زمنًا ليس بالقصير حية ماثلة في أذهان الناس، وظهر صدى هذا في الآداب الشعبية الإسبانية سواء العربية منها أو اللاتينية.

ولابد أن شعراء التروبادور في إسبانيا قد تداولوا هذه القصة وتناقلوها من مكانٍ لآخر في أنحاء أوروبا وبلا شك فإن قصة طيران ابن فرناس ظلّت حية في الآداب الإسبانية حتى القرن الـ17 الميلادي على أقل تقدير.

منها قصيدة إسبانية كانت تُلقى على المسرح أمام الجمهور قبل تقديم العرض المسرحي، نُسبت هذه القصيدة للأديب الإسباني أوجستين دي روخاس (1572م – 1618م)، والذي تحدّث فيها عن مغامرة سمعها أحد طلبته المنحدر من مدينة بلنسية.

حكت القصيدة عن فلاح إسباني صنع له ابنه جناحين عظيمين، طار بهما لفترة وجيزة ثم سقط على الأرض لأنه نسي تركيب ذيل لنفسه يُعينه على الطيران.

وهكذا تتطابق مغامرة ذلك الفلاح البلنسي مع تجربة ابن فرناس، لتتحوّل إلى قصة هزلية تُروى على مسارح إسبانيا حتى القرن الـ17. 

ابن فرناس: الشاعر المتفوق

كما لمع أبو القاسم في الجانب العلمي، حقق نجاحًا كبيرًا في قرض الأشعار التي راقت للأندلسيين، وعلى رأسهم الأمراء الأمويون، الذين تمتّع بعلاقة جيدة معهم جميعًا.

قال عنه المستشرق الإسباني إلياس تيرس: من بين كل هذه المهارات والهوايات المتعددة، كان هناك ما يُمارسه ابن فرناس عن حُب وعاطفة، ألا وهو قرض الشعر، ولذلك فقد كان هو شاعر البلاط القرطبي طيلة حياته تقريبًا».

ومن أشهر هذه الأشعار التي وصلت إلينا عبر كتب التاريخ.

ما نقشه ابن فرناس على آلة مسمّاة «المنقانة» (الميقاتة في أوراق بحثية أخرى) لمعرفة الأوقات، والتي أهداها للأمير محمد بن عبدالرحمن بن الحكم (خامس أمراء الدولة الأموية، حكمها طوال 35 عامًا بداية من 852م-238هـ وحتى 886م-273هـ)، وكتب عليها هذه الأبيات:

ألا إنّني للدين خير أداة   إذا غاب عنكم وقت كل صلاة
ولم تُرَ شمس بالنهار ولم تُنر   كواكبُ ليلٍ حالِك الظُلمات
بيُمن أمير المسلمين محمدٍ   تجلّت عن الأوقات كل صلاة

ولم يكن هذا هو الشعر الوحيد الذي أنشده ابن فرناس على اختراع قدّمه ابن فرناس للأمير محمد، فسبق وأن قدّم له الآلة الفلكية «ذات الحلق»، منقوشًا عليها:

قد تم ما حملتني من آلةٍ   أعيا الفلاسفة الجهابذ دوني
لو كان بطليموس ألهم صنعةً  لم ليثقل بجداول القانون
فإذا رأته الشمس في آفاقها  بعثت إليه بنورها الموزون
ومنازل القمر التي حجبت معاً  دون العيون بكل طالع حين
يبدون فيها بالنهار كما بدت بالليل في ظلماتهن الجون

عكست هذه الأبيات العلاقة الوطيدة التي جمعت بين ابن فرناس والأمير محمد، والتي عبّر عنها أكثر من مرة في أشعاره، منها: 

رأيتُ أمير المؤمنين محمدًا   وفي وجهه بذرُ المجرة يُبصر
همامٌ كأن الشمس تلقي شُعاعها   على الخلق منه حين يبدو ويظهر

وأيضًا كتب فيه:

ما غابت الشمسُ حتى أشرقَ القمرُ    محمد فارتضاه اللَه والبشرُ
يا ليلةً أسفرت قبل الصباح عن ال   مهديّ يفديك مني السمعُ والبصر
لتطبقنَّ على الدنيا خلافته    سماءَ جودٍ لها ماءُ اللهى مطرُ
ويهلك الشركُ في أقصى مداخله  حتى يغيب فلا يُدرى له أثر
بذاك تخبرنا غر النجوم كما   أوحى إليها بذاك الشمسُ والقمرُ

وفي سنة 244هـ، هاجم الأمير محمد طليطلة بسبب ثورتهم عليها، وهي الخطوة التي امتدحه عليها ابن فرناس قائلًا:

يا ابن الخلائف يا محمد يا   من سيفه في راحة النصر
ما إن تقوم لحر بأسك في ال   دنيا محصنةٌ من الدهر
أضحت طليطلة معطلة    من أهلها في قبضة الصقر
تركت بلا أهلٍ تؤهلها     مهجورة الأكنافِ كالقبر
ما كان يُبقي اللَه قنطرةً     أضحت سبيل كتائب الكفر

أيضًا، اعتاد عباس بن فرناس أن يكتب للأمير محمد قطعًا من الشعر الرقيق، التي تغنّيها القيان، وعندما يستمع إليها الأمير وتعجبه فيجزل له العطاء بسببها، منها 4 أبيات كتبها ابن عباس على تفاحة ثم رفعها إليه، قال فيها:

تفاحةٌ مصفرّة البعض   بخوفها من ألم العضّ
أمِّنتها ذاك وكتّبتهُها   حُسنًا بذا من ذهبٍ محض
وقلتُ فيها الحقَّ من بعد ذا  وما لقول الحقّ من نقض
محمد أكرم مستخلفٍ   من خلفاء الله في الأرض

أُعجب الأمير بالأبيات، وأمر جارياته أن يغنين بها، ومنح عباسًا 400 دينار، وقال للملأ من حوله: لو زادنا لزدناه.

ليس الطائر الوحيد

ألهمت تجربة ابن فرناس العديدين للقيام بمثلها، أشهرها محاولة عالم اللغة إسماعيل بن حماد الجوهري، الذي ألّف كتابًا شهيرًا في علوم اللغة عُرف بِاسم «الصحاح»، لكنه رغم هذه المكانة الأدبية الرفيعة سعى لتقليد ابن فرناس والطيران بجناحين مثله.

عام 1007م، صعد فوق جامع نياسبور، وخطب في الناس قائلًا «إني علمتُ في الدنيا مالم أسبق إليه، فسأعمل للآخرة أمرًا لم أسبق إليه.

إلا أنه لم يمتلك علم ابن فرناس ولم يخطط للتجربة بدقة وبوسائل تعينه على أداء المهمة، ضمَّ الجوهري إلى ذراعيه ضلفتي باب، وربطهما في جسده بحبل، واعتقد أنهما كفيلتان بحمله للفضاء وهو مالم يحدث بالطبع، فما إن قفز في الهواء هوى أرضًا ومات سنة 393هـ/1003م.

ولقد خلّد الشاعر عبدالرحمن الشهبندر  كلا المحاولتين معًا في أبياتٍ نظمها أراد بها إثبات تفوق المسلمين في مجال التجارب العلمية، فقال: 

إن يركب الغرب متن الريح مبتدعًا  ما قصَّرتْ عن مداه حيلة الناسِ 
فإنَّ للشرق فضل السبق نعرفه  للجوهريِّ وعباس بن فرناس 
قد مهّدا سبلاً للناس نسلكها  إلى السّماء بفضل العلم والباس 

بعد الجوهري، كرّر المحاولة الفاشلة راهب إنجليزي عاش في أوائل القرن الـ11، يُدعى إيلمر مالمسبري.

عام 1066م، صنَع إيلمر جناحين وحاول الطيران بهما من فوق برج. فشلت التجربة وتحطمت ساقه وعاش بقية حياته يعرج. المثير في قصة إيلمر أنه اعترف بارتكاب نفس خطأ ابن فرناس عبر الطيران بدون ذيل. فهل قصة «الراهب الطائر» كلها أسطورية ملفقة مقتبسة من حكاية ابن فرناس؟

وبقي حلم طيران البشر بجناحين حاضرًا في أذهان الكثير من المبدعين؛ فظهر في محاولات دافنشي ابتكار آلات طيران خاصة به، مرورًا بالتركي هزارفن أحمد جلبي (1609م – 1640م)، والذي أجرى تجربة طيران ناجحة في إسطنبول بحضور أهالي المدينة وعلى رأسهم السلطان العثماني مراد الرابع شخصيًا، والذي كافأه على هذه التجربة الناجحة بكيسٍ مملوء بالذهب.

ومن بعده حقق الألماني أوتو ليلينثال (1848م -1896م) نجاحًا كبيرًا القيام برحلات جوية فردية بِاستخدام الطائرات الشراعية، وبالرغم من أن إحداها تسببت في وفاته، فلقد استمرت مساعي البشر للطيران في التطور والتحسن، للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في صناعة المحركات. وفي عام 2006م، أجرى الطيار العسكري السويسري إيف روسي تجربة طار بموجبها فوق منطقة جبلية في سويسرا.

استعان روسي في تجربته بأحدث الابتكارات العصرية، وهذه المرة استخدم جناحين مزودين بمحرك ساعداه على البقاء في الجو  لمدة 10 دقائق. وهو الحدث الذي علّقت عليه وكالات الأنباء العالمية بقولها «إن حلم عباس بن فرناس قد تحقق».

علاقته بعدوه اللدود

امتلك عباس بن فرناس علاقة تنافس حامية بين شاعر أندلسي آخر كبير هو مؤمن بن سعيد. 

وبحسب كتاب «قرطبة.. عروس الأندلس» لرانيا عدلي، فإن العلاقة بين الرجلين (عباس ومؤمن) لم تكن بهذا السوء، وإنما كانا صديقين.

وتنقل عن المؤرخين: كان عباس بن فرناس صديقًا لمؤمن بن سعيد الشاعر دهرًا -أي زمنًا طويلاً- ثم مازال مؤمن تبذؤ لسانه (كثرة التطاول والسباب) وخبث طويته، فتحكك بعباس حتى استفسده، فتكاشفا وتصارما وساء ما بينهما جدًّا، فتهاجيا وتماضيا وجرت بينهما نقائض مفحشة».

بسبب هذه الأجواء الملبّدة بينهما، جرت بينهما العديد من المناوشات الشعرية اعتاد فيها مؤمن السخرية من ابن فرناس.

فسخر من اختراع ابن فرناس للقبة الفلكية قائلًا: قعدتُ تحت سماءٍ لابن فرناس   فخلتُ أن رحىُ دارت على رأسي

ويقول أيضًا:

سماءُ عباس الأديب أبي   القاسم ناهيك حسنُ رائقها
لقد تمنّيتُ حين دوّمها  فكريَ بالبصق في إست خالقها

وسخر من محاولته للطيران بقوله: يطم (يعلو، يتغلب) على العنقاء في طيرانها  إذا ما كسا جثمانه ريح قشعم (المُسن من النسور)

وعندما تحدّث المؤرخ الأندلسي لسيرة الرجلين وصف ابن فرناس بأنه «قرنُ مؤمن ومناصبه في التهاجي» ووصف مؤمنًا بأنه «نِد ابن عباس ورسيله».

ولما أنشد ابن فرناس للأمير محمد شعره: 

رأيت أمير المؤمنين محمدًا   وفي وجهه بذر المحبّة يُثمر
سخر منه مؤمن بدعوى أنه شبّه وجه الأمير بأنه أرض محروثة يُثمر فيها البذر

فهجاه عباس بقوله: ترى أثر الأعراد في جُحر مؤمنٍ   كآثار قُضبٍ في رمادٍ مغربل 

ومن أبرز منافسيه أيضًا الشاعر الأندلسي الشهير ابن عبد ربه، صاحب كتاب العقد الفريد، الذي كان يكره الاشتغال بعلوم الفلك والتنجيم التي برع فيها ابن فرناس، فأنشد ضدهم شعرًا قال فيه:

ما قدر الله هو الغالب  ليس الذي يحسبه الحاسب
فقل لعباس وأشياعه   كيف ترى قولكم الكاذب
تغالبون الله في حكمه  والله لا يغلبه غالب

محاكمة ابن فرناس

أثارت اختراعات ابن فرناس العجيبة قدرًا من الرهبة في نفوس الناس، بخاصة بعد محاولته الطيران وقيامه بتجارب كيميائية متعددة لا ريب أنها كانت تُنتج أصواتًا غريبة على الآذان من داخل منزله.

وفي هذا التوقيت سادت فكرة أن كل من يشتغل في هذه العلوم هم السحرة والكهان الذين يجب أن يقتلوا ويحرقوا جزاء ممارستهم السحر.

اتُّهم ابن فرناس بالكفر والزندقة وإتيان الخوارق الشيطانية، فاعتُقل وقُدِّم إلى المحاكمة أمام قاضي قرطبة سليمان بن أسود الغافقي، والذي ترأّس المحاكمة التي عقدت له في المسجد الجامع.

هرع الناس لشهودها، وباتت حدثًا عظيمًا، قال أحد شهود الإثبات «رأيت الدم تقوم من قناة داره»، وقال آخر سمعت ابن فرناس يقول «مقاعيل.. مفاعيل» بشكلٍ منتظم دون أن يدري أن أبا القاسم يتغنّى بمقطوعة شعرية.

لم ترق كافة هذه الاتهامات للقاضي الغافقي الذي استشار مجموعة من الفقهاء، ولم يقع في صدره شيئًا يُؤاخذ ابن فرناس عليه فأمر ببراءته وإطلاق سراحه.

ما تبقى من سيرته

حتى الآن لا يزال اسم ابن فرناس محفورًا في الثقافة الشعبية والاجتماعية الإسبانية، فهناك جسر ونصب تذكاري في قرطبة يحملان اسمه. لا يبعد هذا الجسر إلا كيلومترات محدودة عن المرتفع الذي وقف فوقه عباس وجرّب محاولته الخالدة للطيران.

كما كرمته «ناسا» بإطلاق اسمه على إحدى فوهات القمر.

أما عن الدول العربية، فخلال حرب أكتوبر كان «عباس بن فرناس» هو الاسم الكودي للرئيس السادات في الرسائل المشفرة.

كما وضع تمثال له أمام مطار في بغداد، كتب عليه «أول طيار عربي ولد في الأندلس». وأصدرت ليبيا طابعًا بريديًا باسمه، وأطلق اسمه على فندق مطار طرابلس، وسمي مطار آخر شمال بغداد باسمه «عباس بن فرناس».