في العام 127هـ/744م، وبينما كانت الدولة الأموية تعيش أيامها الأخيرة بعد أن أثخنت جراحها الثورات المتعاقبة في سوريا والأردن وحمص وشمال العراق، استضافت مكة المكرمة مؤتمرًا عقدته أفرع متشعبة من الهاشميين شملت العباسيين (أحفاد العباس) والعلويين (أحفاد علي بن أبي طالب) والجعفريين (أحفاد جعفر بن أبي طالب) والعقيليين (أحفاد عقيل بن أبي طالب)، وذلك لبحث كيفية استغلال حالة أعدائهم المُذرية لتحقيق الحلم الذي طال انتظاره؛ إعادة الحُكم إلى آل بيت الرسول.

مثّل العباسيوين في هذا المؤتمر أبو العباس عبد الله السفاح (أول الخلفاء) وأخوه لأبيه أبو جعفر جعفر الله المنصور (ثاني الخلفاء). أما العلويون من نسل الحسن فناب عنهم عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وابناه محمد النفس الزكية وإبراهيم، أما من نسل الحسين فحضر منهم جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وكان من جملة القرارات أن تكون الدعوة ضد الأمويين «هاشمية» لا علوية ولا عباسية يكون شعارها «الرضا من آل البيت»، وأنها إذا أتت بثمارها وقضت على الأعداء، فإن الخلافة تكون من نصيب محمد النفس الزكية.


الحق الإلهي في الحُكم

إذا كانت لحظة امتلاك الشيء هي بالتبعية أولى لحظات العدِّ التنازلي لفقدانِه، فيمكننا إسقاط هذه المقولة سياسيًا على توحد الحزب الهاشمي الذي احتاج 86 عامًا كي يتم. وبعد 10 أعوام وحسب على نشأة هذه العُصبة الهاشمية، أُشهرت سيوف آل البيت على آل البيت وبلغت العداوة بينهما مبلغها.

مع بداية حُكم معاوية وانتهاء دور «أهل الحل والعقد» في اختيار الحاكم، فُتح الباب واسعًا أمام كل طامح لعرش الخلافة أن يحلمَ بِإمامة المسلمين في الصلاة وتسيير جيوشهم وسكِّ اسمه على العُملة، وإن عزَّ السبيل إلى السُلطة لاحتكار عائلة واحدة لها، بزغت الحاجة إلى الثورة. الأسباب سهلُ إيجادها فما مِن حاكم على وجه الأرض إلاَّ وله وجوه مُظلمة يسهل تسويد سمعته بها إن تمَّ تصديرها بِاستمرار للناس، لكنها لن تكون وحدها كافية إن لم يحمل النداء صاحب راية سهل الالتفاف حولها، وهنا أتى دور أحفاد علي والعباس.

إذا كانت أوروبا عرفت في العصور الوسطى نظرية «الحق الإلهي للملك» اعتبر بها أصحابها أنه امتداد للدين وبالتالي لا يحق لقوة أن تنازعه أو تعارضه، فإن العالم الإسلامي عرف أيضًا نظرية مشابهة قليلاً يمكننا تسميتها «الحق الإلهي في الحكم»، بعدما اعتبر الأحفاد والأسباط أن حُكم المسلمين حقهم الأبدي لا لأي إنجاز نفذوه على أرض الواقع، وإنما فقط لأنهم منحدرون من الشجرة المُباركة.

«الرضا من آل محمد» شعار رفعه رفاق/فرقاء مؤتمر مكة، وبطبيعة العصر لم يكن مطلوبًا منهم تقديم برامج سياسية أو خطط تنفيذية دقيقة، فقط الوعود السطحية البراقة بأن مجرد عودة آل البيت للعرش ستعدل الكفة المائلة، وعود غاب عن أصحابها الأوائل حِنكة إدارتها فظلّت حركاتهم مجرد فورات يسهل قمعها واحتواؤها، نهج لم يتغير قط طوال معارضتهم لأبناء معاوية؛ لم يكفوا عن الثورات ولم يكفوا عن الفشل.


شروخ في البيت الهاشمي

لطالما اتسمت مواقف عمُّ الرسول العباس بن أبي طالب بتأييد ابن أخيه علي بن أبي طالب، ودعمه له كي يتولى الأمر بعد وفاة النبي وتأخره عن بيعة أبي بكر سعيًا لهذا الغرض، وعتبه عليه قبوله دورًا استشاريًا، وهو ما برره له علي قائلاً: «كان أمرًا عظيمًا من أمور الإسلام، لم أرَ لنفسي الخروج منه».

لذا لم يكن مُستغربًا أن يساند بنو العباس عليًا بشدة خلال فترة خلافته، حاربوا معه كل معاركه، فشهد عبد الله بن عباس وقثم بن العباس وعبيدالله بن العباس معركة الجمل وصفين والنهروان إلى جانب الإمام، كما أنه اختار منهم ولاة على الأمصار، فعين الأول على البصرة والثاني على مكة والطائف والثالث على البحرين واليمن، وتمام بن العباس على المدينة.

التغير الجذري في العلاقة بين الطرفين هي عند تنازل الحسن عن حقه في الحُكم لمعاوية، وكان العباسيون من ضمن من بايع الأمويين في عام الجماعة، لم يدعموا الحسين حين أراد الخروج على الخليفة يزيد فلم يرافقه إلا بنوه وإخوته وبنو أخيه، ولم يزد دورهم على نصيحة قدّمها عبد الله بن العباس إلى الحسين قال فيها: «يا ابن عم، إني أتصبّر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال»، لم يسمعها حفيد النبي ومضى في طريق حتفه.

بعد وفاة عبد الله بن العباس ارتحل أهله بعيدًا عن الخليفة عبد الله بن الزبير الذي دانت له معظم الأمصار عدا الشام، ولجأوا إلى جوار عبد الملك بن مروان، وسكنوا الحمية في الشراه من أرض البلقاء جنوب الأردن حيث تقوقعوا بها، وامتنعوا تمامًا عن نصرة ثورات العلويين التي راحت تتفجر ضد حُكام دمشق من آنٍ لآخر، فتخلّفوا عمدًا عن نصرة ثورة زيد بن علي (122هـ)، وها هو كبير العباسيين محمد بن علي في رسالة له إلى كبير دعاته بكير بن ماهان يقول: «وحذّر شيعتنا التحرك في شيء مما يتحرك فيه بنو عمنا من آل أبي طالب»، وهو ما ترجمه الرجل في خطاب شهير لرجاله خلال ثورة زيد قال فيه: «الزموا بيوتكم وتجنّبوا أصحاب زيد ومخالطتهم، فوالله ليقتلن وليصلبن بمجمع أصحابكم». نفس الصمت العباسي استمر عند اندلاع حركة ولده يحيى (125هـ)، وانتهت الحركتان إلى هزيمة، وصُلب صاحباهما.


الرضا لآل العباس

تحت راية سوداء تدعو بشكل مبهم إلى «الرضا من آل محمد» والثأر لقتلة آل البيت، وخاصة العلويين، اكتسحت الدعوة العباسية الأخضر واليابس في خراسان بفضل جهود أبي مسلم الخرساني، وبعدها تمددت الدعوة وبلغت الكوفة دون تسمية حاكم بعينه، وعلى الرغم من نجاح الأمويين في قتل القائد العباسي إبراهيم بن محمد بن علي، فإن أخيه تمكن من الفرار بأهله إلى الكوفة، وبلغها في شهر صفر عام 132هـ، حيث بايعه الناس هناك خليفة للمسلمين في المسجد الجامع، وكان هذا هو الإعلان الرسمي لقيام الدولة العباسية والذي دعمته قوة السلاح بالنصر الساحق على بني أمية في معركة نهر الزاب 132هـ.

في بواكير حُكمه قدّر الخليفة العباسي الأول أبو العباس عبد الله أن بني عمه هم الخطر الأول على عرشه، فاستخدم معهم سياسة متزنة؛ أقطعهم الأراضي وبذل لهم الكثير من الأموال، إلا أنه في الوقت ذلك أهملهم تمامًا في المناصب القيادية بالدولة فلم يعين منهم ولاة ولا وزراء، خوفًا من أن يتخذ الواحد منهم المِصر الذي يتولاه تكئة لإقامة دولة علوية تزاحمه المُلك.

ومن بعده وضع أخوه الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور جُل اهتمامه على تصفية أي خطر محتمل قد يصدر من زعيمهم محمد النفس الزكية (الذي بايعه أبو جعفر قديمًا في مؤتمر مكة) وأخيه إبراهيم اللذين تواريا عن الأنظار، فقاد حملة شعواء لإيجادهما لكنه فشل، ولمّا علم باختبائهما في المدينة المنورة، حظر التجوال فيها 7 أيام كاملة منع أهلها من الخروج من منازلهم، حتى يتسنى لجنده تفتيش جميع الدور ولكن دون جدوى.

وفي العام 140هـ، أمر أبو جعفر بسجن عبد الله بن حسن بعدما عجز عن العثور على ولديه الثائرين، على أمل أن يستحثهما هذا الفِعل على الظهور ولما ظلاَّ في الخباء أضاف إلى السجن بني حسن أجمعين، وضع القيود في أرجلهم وزج بهم إلى الزنازين.

في رجب 145هـ خرج النفس الزكية من مكمنه ثائرًا واستولى على المدينة، وصلّى بأهلها الصبح وخطب فيهم معتبرًا أن الخليفة العباسي «طاغية وعدو لله» ولقّب نفسه «المهدي». وخطَّط حفيد علي بأن ترافق حركته ثورات متتالية في الشام ومصر والعراق واليمن إلا أنه فشل بها جميعًا، ولمّا أقبل عليه جيش العباسيين حفَرَ حول المدينة خندقًا تأسيًا بما فعله النبي في معركة الأحزاب، إلا أن النصر كان حليفًا للعباسيين فقتلوا محمد في شوارع المدينة، وقطعوا رأسه وأرسلوا به إلى أبي جعفر المنصور، وهو ذات المصير الذي لاقاه أخوه بعدما أخفق تمرده في البصرة، وبهذا انضم آل البيت لأول مرة إلى زُمرة قتلة آل البيت، الذين ثار العباسيون أصلاً للثأر لهم!

بعدها عمد أبو جعفر إلى تعقب كل الذين شاركوا في الثورة العلوية وطاردهم في كل صقيع، فمن وقع في يديه منهم قُتل وصُلب، كما لم تسلم الكوفة والبصرة قاعدتا الثورة فأمر الخليفة بهدم دور كل من خرج عليه، أما المدينة فأمر بتجويعها وقطع المؤن عن أهلها.

اشتعلت نفوس العلويين بنار الغضب، لكنها ظلّت تحت الرماد تنتظر فرصة مناسبة احتاجت إلى 25 عامًا كاملة لتظهر على يدي الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وانتهت بهزيمته وقتله مع 100 من عشيرته، في معركة عُرفت تاريخيًا بموقعة «فخ»، تم جزّ رأسه فيها وبعثها للخليفة الهادي، لم ينجَ منها إلا يحيى بن عبد الله بن حسن الذي حاول حشد الناس حوله في الديلم (175هـ) وكان ذلك في عهد هارون الرشيد، إلا أنه فشل في جذب الأنصار من حوله فقبض جُند الرشيد عليه، وتم وضعه في السجن ببغداد وظلَّ به حتى مات، والآخر هو شقيقه إدريس الذي هرب إلى بلاد المغرب، وهناك نال رضا قبائل البربر، ونجح في إقامة دويلة بسطت نفوذها بهذه البقاع البعيدة عن العاصمة، دامت قرنين من الزمان، لم يستطع العباسيون إزالتها واكتفوا بحصارها بدولة الأغالبة التي كانت حليفة لهم.


ولاة للعهد

في عهد المأمون قام العلويون بأخطر ثوراتهم التي قادها العلوي ابن طباطبا والعسكري المُحنك أبو السرايا (199هـ) ونجحت بالاستئثار بالكوفة واليمن لفترة من الزمن، خُطب لهم فيها من فوق المنابر وضُربت النقود بأسمائهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من الحفاظ عليها وتمت تصفيتها، لتكون آخر التحركات الكبرى من العلويين ضد العباسيين.

كان لكل هذه الحركات أثرها ولا شك في القرار «المفاجئ» الذي اتخذه الخليفة المأمون باختيار العلوي علي بن موسى الرضا ليكون وليًا للعهد من بعده (201هـ)، والذي كاد يشكّل تحولاً تاريخيًا في انتقال ناصية الأمر للعلويين أخيرًا، يقول أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام»:

ورغم هذه المحاولة إلا أن الرفض العباسي العارم لهذا القرار دفع المأمون للتراجع عنه سريعًا، وانتهت محاولة الوفاق الأولى والأخيرة بين الطرفين، ليظلا على تنافر حتى اكتسح المغول المنطقة ولم تعد هناك خلافة يتصارع عليها أحد.


لمن الملك؟

أراد المأمون أن يصلح بين البيتين العلوي والعباسي ويجمع شملهما ليتعاونا على ما فيه خير الأمة وصلاحها، وتنقطع الفتن وتصفو القلوب، كما أنه كان واقعًا تحت تأثير وزيريه الفضل والحسن ابني سهل الفارسيين، وإن الفرس كان يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما حتى استجاب لهما وأقرها ونفذها، وكان المأمون أيضاً يرى إن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا تولّوا الحكم ظهروا للناس وبأن خطأهم وصوابهم فزال هذا التقديس.

من هو الوارث الأقوى؟ ابن البنت أم ابن العم؟ قد لا يكون من المبالغة التأكيد على أنه لو توفرت إجابة قاطعة لهذا السؤال لأمكن إنقاذ عشرات الأرواح، فبعدما دان الأمر لأفراد آل البيت دار الجدل البيزنطي بين طرفي المعادلة أيهما أحق بالحُكم، هو ما تجلّى واضحًا في المناظرة التي دارت بين الإمام الكاظم العلوي والخليفة هارون الرشيد العباسي، وفي الرسائل التي تبادلها المنصور لحظة حصاره لمحمد النفس الزكية.

كلا الحديثين اعتمدا على نفس الثوابت تقريبًا؛ فالعباسيون يحتجون بشرف جدهم ويلمزون الطالبيين بكُفر أبي طالب وبعدم صحة الميراث من النساء، وبالتالي فلا عظمة لأحد بالانتماء لفاطمة بنت النبي. أما العلويون فيرون أنهم الأحق بموجب النسب لفاطمة والمجد المبين للأصل الأعظم علي، وبين الاثنين أخذ الكلام يروح ويجئ بلا نهاية للخلاف حتى حسمه العباسيون بسيوفهم وقطعوا رأس النفس الزكية فأسكتوه إلى الأبد.

المراجع
  1. محمد أمين غالب الطويل، تاريخ العلويين، دار الأندلس للطباعة، 2000.
  2. مريم رزوقي وليد عباس، الثورات العلوية في مرويات المؤرخين المسلمين، كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة، 2017.
  3. السيد أحمد إبراهيم حمور، ثورة أبي السرايا والطالبيين في صدر خلافة المأمون، جامعة اليرموك: رسالة دكتوراه، 1980.
  4. محمد ضيف الله بطانية، العلاقات بين العباسيين والعلويين، جامعة الأزهر: كلية الدراسات الإسلامية،1987 .
  5. أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين، دار المعرفة – بيروت، 2010.