إذا كنتَ من المهتمين بقضية الحريّة، فلا بد وأنّك قد قرأت كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي، كونه أحد أشهر الكتب العربية السياسية التي اهتمت بهذه القضية، لكنّ القليل من القرّاء من يعرف حياة الكواكبي وتفاصيلها التي تمتلئ بالعديد من الأحداث الشيقة، من وقت مولده وحتى لحظة وفاته.

وُلد عبد الرحمن الكواكبي في حلب عام 1854 لعائلة لها شأن كبير، وتعود جذورها إلى علي بن أبي طالب، رضيّ الله عنه. فأبوه هو السيّد أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي الذي كان حجة في علم الفرائض (الميراث)، وأمينًا لفتوى الولاية مدة من الزمن، وعضوًا بمجلس إدارة الولاية وقاضيًا لها. ووالدته السيدة عفيفة بنت مسعود آل نقيب هي ابنة مفتي أنطاكية في سوريا. [عمارة، ص17]

وتشير بعض الأوراق إلى أنّ تاريخ ميلاد عبد الرحمن الكواكبي الحقيقي هو سنة 1848 [أمين، ص249]، لكنّ ولده الدكتور أسعد الكواكبي يوضح هذا الأمر بأنّ والده قام بتغيير تاريخ ميلاده في الأوراق الرسمية، حتى يتاح له الترشح في الانتخابات في حلب ليتمكن من مقاومة العثمانيين [الدهان، ص17. العقاد، ص39].

في سن الثانية عشرة، انتظم عبد الرحمن في المدرسة الكواكبية التي عمل بها والده [الدهان، ص17]. ولم يكتفِ الكواكبي بالعلوم التي أتاحتها له بيئته كعلوم العربية والشريعة، بل سعى إلى تعلم المنطق والرياضيات والطبيعة والسياسة، وكان لهذا أثر إيجابي في حياته وأفكاره فيما بعد.


الانتقال بين المناصب لخدمة قضيته

عندما وصل الكواكبي إلى سن الثانية والعشرين من عمره، بدأ يدخل إلى الحياة العامة كشخصٍ له تأثير فيها، فبدأ مسيرته في العمل كمحرر في جريدة رسمية اسمها «الفرات» تحرر باللغتين العربية والتركية، وتميّز فيها خلال عام واحد، حتى أصبح يحصل على راتب قدره ثمانمائة قرش.

ولكن الأمر لم يكن مقبولا بالنسبة للكواكبي، بسبب إشراف الوالي العثماني على الجريدة والتحكم في كيفية عملها، فقرر الكواكبي الاستقالة، وبدأ إنشاء أول جريدة له وهو في عمر الرابعة والعشرين، بالاشتراك مع السيد هاشم العطار، وكان اسمها جريدة «الشهباء». ولم تستمر الجريدة أكثر من 15 عددًا، بسبب الموهبة المميزة للكواكبي وقدرته على التأثير في القرّاء من خلال مقالاته، الأمر الذي جعل الأتراك يغضبون ويغلقون الجريدة.

لم يصمت الكواكبي من جانبه، وقرر إنشاء جريدة أخرى في العام التالي باسم «الاعتدال»، ليستمر من خلالها في تقديم أفكاره، وانتهى الحال أيضًا بقرار إغلاق الجريدة [عمارة، ص22]. وقد أدت أفكار الكواكبي إلى استقالته من العديد من المناصب التي تقيّده، ففي عام 1886، استقال من «مأمورية الإجراء» و«محكمة التجارة»، ومرة أخرى في عام 1892، استقال من رئاسة «غرفة التجارة» و«المصرف الزراعي» [عمارة، ص26].

قد يظن البعض أنّ الكواكبي كان يفعل ذلك بسبب افتقاده إلى مكانة معينة في المجتمع، أو شعوره بالحرمان الذي يسعى إلى تعويضه بالتنقل بين المناصب المختلفة، لكنّه في الواقع كان من أصحاب التجارات الرائجة، وبالنظر إلى مكانة عائلته في المجتمع، فإنّ الكواكبي لم يكن يحتاج إلى خلق مكانة أخرى له، ولم يكن يسعى بأي حال من الأحوال إلى منصبٍ لوجاهة مجتمعية أو سلطة، فما فعله كله كان من أجل أن يخدم قضيته التي يؤمن بها فعلًا في المجتمع.


مؤلفات الكواكبي مرآة لأفكاره

إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
حديث شريف

طوال حياته، اهتّم الكواكبي بقضيتين رئيسيتين هما: الحرية ومقاومة الاستبداد؛ وحال الأمة الإسلامية. وتفرّعت عنهما بالطبع مجموعة مختلفة من القضايا الأخرى، الأمر الذي جعل الكواكبي يستحق أن يكون واحدًا من المجددين المشهودين. يقول عن ذلك العقاد (ص61):

توفَّر الكواكبي على قضيتين اثنتين لم يشتغل زمنًا طويلًا بقضية غيرهما، وهما: قضية البحث في أسباب تأخر الأمم ولا سيما أمم العالم الإسلامي وقضية البحث في عوامل الاستبداد في حكم الدول
ولا سيما الدول العثمانية. وأودع زبدة آرائه عن قضية العالم الإسلامي في كتابه «جمعية أم القرى»، وأودع زبدة آرائه عن الحُكم والاستبداد في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».

1. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

لقد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواؤه هو الشورى الدستورية.
عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

يقدم الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» صورة عن تعريفه للاستبداد بالضبط في بداية الكتاب، وكيف يظهر أو يؤثر في جوانب حياتنا المختلفة، فيتعرض في الفصول التالية للرابط ما بين الاستبداد مع كلٍ من: الدين، العلم، المجد، المال، الإنسان، الأخلاق، التربية، الترقي. وكيف كان لشكل الاستبداد في كل صورة من هذه الصور الأثر على حياة الإنسان لكي يصل في النهاية إلى مرحلة الخضوع.

وفي الفصل الأخير من الكتاب يذكر كيف يمكننا القضاء على الاستبداد بخطوات عملية يمكن السير عليها للوصول إلى الحل المناسب لهذه المشكلة، يلخصها في 11 نصيحة للقارئ يمكن الاعتماد عليها كتصور للتخلّص من الطغيان والاستبداد.

2. أم القرى

يقول الكواكبي في كتابه «أم القرى»:

يناقش الكواكبي في كتابه «أم القرى» كل القضايا التي تواجه الأمة الإسلامية، من خلال عرضه لتصور تخيلي عن جمعية يحضرها العلماء من كل الدول الإسلامية، ويبدأون في تحليل أسباب الضعف التي واجهت الأمة الإسلامية، واستقروا في النهاية على تسميتها بـ «الفتور العام»، وعرض كلٌ منهم تصوره للحلول المناسبة لكل القضايا والمشاكل التي تواجه الأمة الإسلامية.

وفي نهاية الكتاب يتفقون على إنشاء جمعية تكون مسئوليتها البدء في تنفيذ الحلول في الواقع.

على الرغم من كونه كتابًا تخيليًا، لكن يمكن أن يتم استخدام الأفكار الموجودة به وتنفيذها فعلًا، لا سيّما وأن الكواكبي في الكتاب قدم أيضًا نموذجًا لآلية التعاون ما بين كل أفراد الجمعية، وصورة لما ينبغي أن يكون عليه الحوار بين الأطراف المختلفة، وهو ما يجعل تنفيذ هذه الحلول في الإمكان، فقط يحتاج إلى أخذ خطوة فعلية.


مقتل الكواكبي

نعم إن اختلاف الأئمة يكون رحمة إذا حسن استعماله ويكون نقمة إذا صار سببًا للتفرقة الدينية والتباغض كما هو الواقع بين أهل الجزيرة السفليين وبين أهل مصر والغرب والشام والترك وغيرهم من المستسلمين وبين أهل عراق العجم وفارس والصنف الممتاز من أهل الهند الشيعيين وبين أهل زنجبار ومن حولهم من الإباضيين. فهذه الفرق الكبرى يعتقد كل منهم أنهم وحدهم أهل السنة والجماعة وأن سواهم مبتدعون أو زائغون فهل والحالة هذه
يتوهم عاقل أن هذا التفرق والانشقاق رحمة لا نقمة وسببه وهو التوسع في الأحكام سبب خير لا سبب شر.

أصر الكواكبي على مقاومة فساد وطغيان العثمانيين، وظل يستخدم مهاراته وقدراته في فعل ذلك، ولما كان الكواكبي قد بلغ مرحلة متقدمة من القدرة على التأثير فيمن حوله، وكان اهتمامه بقضيّة الأمة وشئون حياتها قويًا وملحوظًا، فقد حظي بمساندة ودعم من الرأي العام.

وقد قام الوالي التركي عارف باشا بتزوير بعض الأوراق التي يدين فيها الكواكبي بأنّه عميل لدولة أجنبية أخرى، ليُحكم عليه بالإعدام، لكن غضب الرأي العام، أدى إلى إعادة محاكمته مرة أخرى في بيروت بعيدًا عن الوالي وسلطته، وفي النهاية حصل الكواكبي على البراءة [عمارة، ص28]. وكان على الكواكبي في كل لحظة أن يدفع ثمن شجاعته، فحتى مع فشل محاولات سجنه،تعرّض الكواكبي لمحاولة اغتيال من شخص مجهول قام بطعنه ليلًا، لكنه لم يمت.

ولم يكن من الممكن أن يستمر جهاد الكواكبي في سوريا في ظل هذا الوضع، فكان عليه أن يترك سوريا ويتّجه إلى مكان آخر، لذلك اختار اللجوء إلى مصر حيث وُجدت حرية التعبير وقتها بالنسبة له بعيدًا عن الطغيان العثماني [عمارة، ص32]. واستقر في مصر في عام 1899 ليستكمل مسيرته الثورية هناك، ونشر كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستبداد» الذي تحدثنا عنه في الفقرة الماضية، فكان السبب في أن يتعرّض للقتل بالسم، حيث وضع له السم في القهوة أثناء وجوده على المقهى الذي اعتاد الجلوس عليه في 14 يونيو/حزيران 1902، وأقيمت له جنازة كبيرة حضرها العديد من الأشخاص، وكتبوا على قبره كلمة «الشهيد».

ولاحقًا تم تجديد قبر الكواكبي ونقله إلى مكان آخر، فقام الشاعر حافظ إبراهيم بكتابة هذه الأبيات على قبره:

هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التقى :: هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب قفوا واقرؤا أم الكتاب وسلموا :: عليه، فهذا القبر قبر الكواكبي

تنتهي حياة الكواكبي، لكن أفكاره ظلت حيّة حتى الآن، ويساهم كتاباه طبائع الاستبداد وأم القرى في تغيير فكر العديد من الأشخاص، ليتحقق واحد من أحلامه، وهو الذي يتلخص في مقولته التي وضعها على غلاف كتابه «طبائع الاستبداد»: «إنها صيحة في واد.. أو حفنة رماد.. إن ذهبت اليوم مع الريح، فستذهب غدًا بالأوتاد». [عمارة، ص41].

المراجع
  1. د. محمد عمارة: عبد الرحمن الكواكبي.. شهيد الحرية ومجدد الإسلام
  2. أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، طبعة القاهرة، سنة 1949.
  3. د. سامي الدهان: عبد الرحمن الكواكبي
  4. مجلة الغد المصرية، بحث في باب «من التراث العربي» تحت عنوان «عبد الرحمن الكواكبي»، العدد 1، يناير 1959.
  5. حوار جريدة الأهرام مع حفيدة الكواكبي.