أحدث تصريح الكاتب المصري «يوسف زيدان» عن القائد العربي صلاح الدين الأيوبي، في حلقة يوم الأربعاء 10 مايو 2017 من برنامج «كل يوم» الذي يقدمه الإعلامي «عمرو أديب»، جدلا واسعا في الأوساط المصرية والعربية. وصف زيدان صلاح الدين بأنه «من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني». ثم ذكر في معرض حديثه الفيلم المصري «الناصر صلاح الدين» للمخرج «يوسف شاهين» كأحد الأسباب الرئيسية في تبجيل صلاح الدين لدى جموع المصريين والعرب.

لم تكن تلك هي المرة الأولى، فقد ألقى زيدان تصريحات مشابهة منذ عام تقريبا على قناة «أون تي في» برفقة المذيع يوسف الحسيني. كما كتب بشكل تفصيلي عن وجهة نظره فى مقاله المنشور فى عام 2010 بعنوان «الناصر أحمد مظهر» في جريدة المصري اليوم.

ذكر زيدان في كل هذه المرات مصادر تاريخية لتبرير رأيه، بالإضافة لإشارته لمعايير فنية في حكمه على فيلم شاهين، فهل كان منصفا في حكمه؟ سنحاول الإجابة في التقرير التالي.


الناصر جمال عبد الناصر

صورة أرشيفية تجمع من اليسار الممثل أحمد مظهر والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر

في عام 1963 عُرض فيلم الناصر صلاح الدين للمرة الأولى في دور العرض المصرية، لم ينجح الفيلم حينها جماهيريا، ولكنه وبمجرد عرضه على شاشة التليفزيون المصري الذي كان في بداياته أصبح علامة سينمائية راسخة في وجدان المصريين. بدأت حكاية الفيلم قبلها بخمس سنوات بمشروع سيناريو ضخم كان من المفترض أن يخرجه «عز الدين ذو الفقار». تنازل ذو الفقار عن المشروع نتيجة ظروف مرضه، وحينها أوصى منتجة الفيلم «آسيا» بأن تسند المشروع للمخرج المصري يوسف شاهين.

نحن إذن أمام مشروع فيلم بدأ تصويره في نهاية الخمسينيات، عن قائد عسكري صاحب كاريزما من نوع خاص، ولأن السينما ليست بمعزل عن الحياة فيجب علينا أولا أن نتذكر كيف كانت الخمسينيات والستينيات، صورة عبد الناصر في كل مكان، «عبد الحليم حافظ» ينشد ناصر يا حرية، تأميم لقناة السويس، وعدوان ثلاثي – تم وصفه بالمنهزم- ومشروع قومي عروبي في أوجه يتم الترويج له في كل ربوع مصر.

يضيف صناع الفيلم كلمة «الناصر» قبيل اسم صلاح الدين لتكتمل الصورة. وحينما نستمع لحوار الفيلم وتلتقط أذننا وصف «سلطان العرب» بدلا من سلطان «المسلمين» تتبخر كل الشكوك. نحن هنا إذن أمام تجسيد لجمال عبد الناصر سلطان العرب بإسقاطات تاريخية بُنيت على شخصية قائد عسكري قديم هو صلاح الدين. نحن هنا أمام خليط ينتمي لناصر أكثر من انتمائه لصلاح الدين.

لذا لم يكن من المستغرب أن يشارك الجيش المصري، حسب تصريح لشاهين، بأكثر من 20 ألف عسكري للمساهمة في تصوير معارك الفيلم. ولم يكن هناك بالطبع خير من «أحمد مظهر» -ضابط سلاح الفرسان السابق وزميل عبد الناصر فى حمل السلاح- لتأدية دور عبد الناصر في ثوب صلاح الدين.

لم يكن هذا السبب الوحيد بالطبع لاختيار مظهر الذي نقدر موهبته، كما لا ينفي كل ما ذكرناه مسبقا باقي عناصر قوة الفيلم، وهذا ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية. ولكننا هنا حينما نُسأل عن وصف زيدان للفيلم بأنه «مشروع تم بدعم من السلطة لعمل دعاية سياسية» فلا يمكننا إلا أن نتفق معه.


ربما كانت أحداثا غير حقيقية ولكنه كان فيلما جيدا

الدعاية الرخيصة لا تحيا، ولم يكن عبد الناصر بكل نفوذه –أو أي حاكم على وجه الأرض- قادرا على إجبار الجماهير على الارتباط بفيلم أو أي منتج فني. ارتبط الناس بالناصر صلاح الدين لأنه كان جيد الصنع على كل المستويات، ولا نبالغ حينما نصفه بأنه كان سابقا لزمانه، خصوصا على مستوى حركة المجاميع وتصميم وتنفيذ المعارك الحربية.

يوسف شاهين كان عبقريا على مستوى التكنيك السينمائي بلا شك. وحينما نقارن ما فعله هنا بما كان يتم في الستينيات في الأفلام التاريخية والحربية في هوليوود، فيبدو كما لو كان قادما من المستقبل. لشاهين أيضا لمحات واضحة في تصوير المشاهد ذات البُعد المسرحي، والتي بني أغلبها على أحداث غير حقيقية، ولكنها أكثر ما ظل عالقا في وجدان الجماهير.

رؤية شاهين البصرية لم تكن لتكتمل إلا بنص غني للغاية. هذا النص الذي ألف قصته «يوسف السباعي»، وكتب له السيناريو والحوار عملاقان مصريان هما «عبد الرحمن الشرقاوي»، و«نجيب محفوظ». كل هذه الأسماء اكتملت بعبقري مصري آخر هو «شادي عبد السلام» الذي قام بالإشراف على اختيار الأزياء وشارك شاهين فى تصميم المعارك.

من منا ينسى مشهد المحاكمة العبقري، على جانب الشاشة الأيمن محاكمة الراهبة الصليبية «لويز» بعد اكتشاف علاقتها بالقائد المسيحي العربي عيسى العوام وبتهمة «نزع الكراهية المقدسة من قلبها وسقوطها في الحب»، وعلى الجانب الأيسر محاكمة والي عكا بتهمة «اقتلاعه الحب من نفسه وكراهيته لبلده وعروبته».

مشهد بصري بليغ للغاية، نص مسرحي في غاية القوة، دعوة واضحة للحب ومنتج فني قوي على مستوى الشكل والمضمون. ولكن كل هذا لا ينفي أن المشهد بالكامل مبني على أحداث غير حقيقية، فلا لويز كانت موجودة، ولا عيسى العوام كان مسيحيا، ولا والي عكا كان خائنا.

هنا نصل لسؤال ثانٍ عن وصف زيدان لنص السباعي ومحفوظ والشرقاوي بأنه نص مترهل، وهنا نجد أنه وصف غير دقيق إذا قصد وصفه أدبيا وفنيا. أما على مستوى الحجية التاريخية فقد كان النص بعيدا عن الأحداث الحقيقية في كثير من الأحيان، ومنافيا لها في مواضع أخرى. ربما تعرض هؤلاء المبدعون لضغوطات لإضافة هذه الأحداث وإضافة وصف عربي وعروبة في نهاية كل جملة، أو ربما صنعوها تطوعا تأثراً بلحظة صناعة الفيلم. حينما كان ناصر زعيما يتغنى بحبه الجميع.

يدعم هذا الرأي تصريحات يوسف شاهين -في حواره مع الناقد السينمائي نبيل فرج- بأنه كان في لحظة صنع الفيلم متأثرا للغاية بعبد الناصر، منتميا لحلم الاشتراكية العربية. ولذا خرج الفيلم بجرعة زائدة من الانتصار والفخر بانتصارات منتقاة من تاريخ تم إغفال سلبياته وكبواته. يؤكد شاهين لاحقا أنه أعاد التفكير فيما صنعه بعد نكسة 67 التي غيرت في رؤيته للتاريخ كما أثرت في رؤيته لحقبة ناصر بالطبع.


نصف الحقيقة مساوٍ للكذب

أحمد مظهر، جمال عبد الناصر،

كنا إذن أمام مشروع سينمائي جيد الصنع استند لنقاط مضيئة منتقاة وسط تاريخ قائد عسكري يعود للقرن السادس الهجري، كان هذا الانتقاء لغرض واضح في رسم صورة ناصعة البياض تلائم صورة قائد عسكري وزعيم عروبي في الخمسينيات والستينيات. هذا الانتقاء اكتفى بسرد نصف الحقيقة المضيء، وأخفى عمدا نصفها المظلم. والطريف هنا أن أحداث الفيلم قام بمراجعتها مفكر إسلامي شهير هو «محمد عمارة» عضو مجمع البحوث الإسلامية.

الأزمة هنا إذن لم تكن فقط بسبب فيلم الناصر صلاح الدين، كما ذكر زيدان، ولكنها كانت بسبب نسق نفعي في سرد التاريخ الإسلامي قام على أساس انتقاء ما يمكن أن يخدم موقف من ينتقي. تم ذلك حينها لخدمة ناصر، وتم في مرات أخرى لخدمة خصومه السياسيين الذين أرداوا رسم صورة مضيئة ومبهرة لعصور الخلافة. والطريف أن كليهما وجد في هذا الفيلم ضالته.

والآن يقع يوسف زيدان في نفس الخطأ ويستخدمه أيضا لخدمة وجهة نظره المضادة، فقد بنى وصفه لصلاح الدين على سرد مصادر تاريخية حقيقية ولكنها منتقاة. فذكر مثلا أن صلاح الدين حاكم منشق على خليفة المسلمين وكأنها خطيئة كبرى، في حين أن هذا الخليفة لم يأت باختيار شعبي، وإنما هو مُلك يورث وينتقل بالقتال والانشقاق من دولة إلى دولة منذ حكم بني أمية، والغريب أن هذا هو رأي يوسف زيدان نفسه.

ذكر زيدان أيضا أن صلاح الدين دخل مدينة القدس بصلح وليس بانتصار حربي، وكأن الصلح خطيئة، في حين أن زيدان يدرك بشكل أكيد أن صلاح الدين حاصر القدس حصارا شديدا، وحاول اقتحامها في معركة حربية معروفة تاريخيا، وحينما دخلها كان بإمكانه قتل من فيها من غير المسلمين مثلما كان شائعا حينها حين تدخل الجيوش مدنا مهزومة، ولكنه فضل الصلح.

ذكر زيدان أخيرا أن أهم مبرراته لوصف صلاح الدين بالحقارة هو أنه أنهى نسل الفاطميين بفصل رجالهم عن نسائهم، وهو بالطبع عمل غير إنساني وتصفية عرقية لا نرضى بها ولا نسامح فيها. ولكنه لا يقارن بأي حال بما فعله خلفاء وملوك في نفس زمانه حينما قاموا بتصفية مئات من البشر بين ليلة وضحاها من أجل ترسيخ حكمهم. ولا يقارن حتى بما فعله قائد عسكري معاصر قام بتصفية مئات من البشر في ليلة واحدة دون أن يستحق نفس الوصف من يوسف زيدان.

لن نغوص في المصادر التاريخية وننتقي منها ونقع في نفس الفخ، ولكننا سننهي بمصدر سينمائي. فالطريف أن زيدان قد ذكر بنفسه في مقاله «الناصر أحمد مظهر» نصا التالي: «من أراد أن يرى صورة سينمائية، أقرب إلى الواقع التاريخي، وفيها كثير من الفن فعليه بأن يشاهد فيلم مملكة السماء». فى إشارة لفيلم المخرج الإنجليزي «ريدلي سكوت» الذي تم إنتاجه فى عام 2005، والذي استند بشكل كامل لمصادر تاريخية غير عربية، والذي يظهر فيه صلاح الدين بشكل محايد.

وينتهي الفيلم بدخوله للقدس عقب الصلح، وحينما يخبر قائد الحامية الصليبية أنه لن يقتل من قاتلوه وسيسمح لهم بالخروج عقب دفع فدية سيعفى منها غير القادرين ولن يؤذَى منهم أحد. يرد قائد الحامية بسؤاله: «لم تفعل هذا؟، لقد قتل المسيحيون من وجدوه من المسلمين حينما دخلوا هذه المدينة»، ليجيبه صلاح الدين في النهاية: « أنا لست مثل هؤلاء الرجال، أنا صلاح الدين».

وهنا نسأل هل كان «ريدلي سكوت» أيضا متأثرا بعبد الناصر حينما صور صلاح الدين بهذه الصورة، أم أنه كان حقا قائدا مختلفا في هذا الزمان. له نقاطه المضيئة وبالطبع تلك المعتمة، بالطبع لم يكن كما شاهدناه في الناصر صلاح الدين، ولكنه لم يكن أيضا كما صوره يوسف زيدان.

المراجع
  1. حوار يوسف شاهين مع الناقد نبيل فرج- كتاب حوارات سينمائية – صادر ضمن سلسلة مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي عام 2016