لعل أحد أهم أسئلة الأدب والكتابة، وأكثرها تواردًا على أذهان الكثيرين هو مدى التأثير والفعالية التي تحدثها الكتابة والكلمة في النفوس والشعوب. ولئن كانت مقولات الشعراء خالدة في دواوين الشعر وكتب الأدب، إلا أنها لا تأخذ بريقها إلا إذا ترددت في حناجر الناس وهتافات المظلومين المطالبين بالحرية والعدالة، لذا كانت أبيات الشابي محركة للشعوب، وتحوّلت إلى شعارٍ أقام ثوراتٍ بالفعل وأسقط أنظمة يوم قال: «إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر».

في أحد أيام الحراك الشعبي الأخير في السودان، والذي سقط على إثره البشير ونظامه، كتب أحد المتظاهرين تلك الكلمات، وأرسلها عبر فيسبوك إلى الروائي عبد العزيز بركة ساكن، الذي يتابع ما يحدث في السودان بحماس وتشجيع للثورة والثوار:

قلت له: هنالك سؤال يحيرني الآن: من الذي يقود الشارع؟ قال مبتسمًا: الشارع يقود نفسه. فالجوع والظلم والمرض والتساقط والفساد السياسي، والمحسوبية … إلى آخره، هي المولد الحقيقي لهذه الثورة الشعبية، أما القيادات العمالية والنقابية والسياسية فهي كما تعلمين إما مشردة، إما خارج الوطن، إما مدفونة تحت ترابه، أو مُقيدة في السجون ومنهم من باع، ومنهم من خاف فصمت.

لم تكن هذه الكلمات سوى مقطع من رواية «الطواحين» لعبد العزيز بركة ساكن، كتبها عام 1997 مستشرفًا فيها المستقبل، وسرعان ما دارت الأيام ووجد الناس يطبقونها عمليًا، ويتناقلون كلماته في مظاهراتهم وحراكهم الشعبي الكبير الذي أسقط النظام بالفعل.


من كسلا إلى أسيوط

في مدينة «كسلا» بشرق السودان في عام 1963 ولد عبد العزيز بركة ساكن في بيئةٍ تزخر بالقصص والأساطير والحكايات الخرافية، ولذلك ما إن بلغ الثالثة عشر حتى تفتحت موهبته الأدبية، وكتب أول قصة طويلة في حياته، تلقفها منه أستاذ مادة التعبير، وجعله يقرأها على طلبة المدرسة جميعهم. من هذه اللحظة أدرك الفتى عبد العزيز أن للكتابة الأدبية جدوى وجمالاً وأهمية، فوضع نصب عينيه أن يركز في دراسة الأدب والتعرف عليه. كان طموحه أن يدرس الأدب في أكاديمية الفنون، ولكن عائلته رفضت ذلك بشدة، وأرسلته إلى أسيوط ليتعلم هناك التجارة وإدارة الأعمال.

يحكي عبد العزيز بركة في لقاءٍ تلفزيوني على قناة DW الألمانية عن بدايات حياته الأدبية، وكيف استغل فترة دراسته وشبابه في أسيوط في قراءة الكثير من الكتب في مكتبة الكلية، وكيف فتحت له تلك التجربة عالمًا رحبًا للكتابة والإبداع، ولا يزال حتى اليوم يذكر هذه الأيام وأصحابها بالخير، ويكتب عنها ممتنًا للصداقات والأصدقاء الذين اكتسبهم في مصر والذين أثروا في تكوينه الأدبي بشكلٍ بالغ.

في عام 2005 صدرت مجموعته القصصية الأولى «على هامش الأرصفة» وقامت السلطات بمصادرتها رغم أنها صادرة عن وزارة الثقافة السودانية لاعتقادهم أنه يهاجم فكرة «الخرطوم عاصمة الثقافة العربية» في ذلك العام. واستمرت المضايقات الأمنية والملاحقة الرقابية لكتاباته بعد ذلك.

تحولت الكتابة الأدبية عند عبد العزيز بركة إلى هواية وغواية، أصبح يكتب الروايات، ويجد أن لها صدى واسعًا في نفوس الناس والقرّاء، وأدرك أن لا شيء يؤثر في الناس مثل التعبير عن همومهم وقضاياهم شديدة الخصوصية، فكتب العديد من الروايات المعبرة عن المقموعين والمظلومين في السودان، حتى حاز على جائزة السودان الأدبية الكبرى، جائزة الطيب صالح، وذلك في عام 2009 عن روايته «الجنقو مسامير الأرض»، ولكن ذلك لم يرضِ السلطات الحاكمة.

اقرأ أيضًا:رواية شوق الدرويش عندما تسرق الثورات

يكشف بركة ساكن في رواياته ويعرِّي الكثير من ممارسات الحكومات العربية القمعية، سواء كان ذلك في السودان أو غيرها، ولذا فهو يواجه بالسجن والقمع والمصادرة طوال الوقت، ولكنه يواجه ذلك بكل بساطة. فحينما تم اعتقاله أول مرة وطلبوا منه أن يكتب قائمة بكتبه وإصداراته، فكتبها لهم بحسن نيّة ليفاجأ بعد ذلك أن السلطات قامت بمصادرة كل إصداراته من السودان.

في أحد حواراته المنشورة في كتابه «ما يتبقى كل ليلة من الليل»، يعبّر بركة ساكن عن ضيقه من هذا الرقيب الذي يتتبع خطواته وكتابته فيقول:

الرقيب، ذلك الوحش الوفي والقارئ المواظب لأعمالي، ناقدي المَهْوُوس المنحاز دائمًا ضد كتاباتي، المصاب بجنون العظمة وعقدة النقص في ذات اللحظة، الذي لا يؤمن إلَّا بأفكاره الخاصة عن الدين والأدب، وهو لَمْ يَسْمَع بهما بعد، والذي لديه مَقْدِرة خارقة على وزن الأدب بميزان الدين والأخلاق وقانون النظام العام و«المشروع الحضاري» للسلطة، وكل شيء آخر ما عدا ذائقة الفن. هذه العلاقة الملتبسة سببها سوء فهم لا أكثر، حيث يظن البعض أنَّ في كتابتي ما يسيء لمشروعاتهم الأيديولوجية، ويخترق خطاباتهم المستقرة، بالطبع لا أقصد ذلك، كل ما أفعله هو أنني أنحاز لمشروعي الإنساني؛ أي أكتب عن طبقتي: أحلامها، آلامها، طموحاتها المذبوحة، وسكينتها أيضًا التي تَذْبَح هي بها الآخر.

في 2012 وبعد أن قامت وزارة الثقافة السودانية بمصادرة كل روايات وكتب عبد العزيز بركة ساكن، قرر أن يترك السودان ويذهب إلى المنفى مختارًا، لأنه شعر أنه ﻻ يستطيع الحياة في هذه البيئة القمعية، واستقر بالنمسا متابعًا لكل ما يحدث في السودان، متشوقًا للحظة الثورة والخلاص حتى يعود إلى بلاده التي يحبها.


الأدب في مواجهة الظلم والقمع

بلغةٍ شاعرية، واهتمامٍ بالغ برسم التفاصيل الدقيقة في الحياة، يصوّر بركة ساكن في رواياته السودان، فيكتب في «ثلاثية البلاد الكبيرة» عن الأنساب والأعراق المختلفة الموجودة في السودان، وأثر الحرب الذي تركته في نفوس أبنائها. وفي «الطواحين» نحن أمام المختار فنان سوداني يسعى لتعليم مجموعة من الشباب الفن، تلك المجموعة التي تبرز من بينهم الفتاة التي يسمونها القديسة لانهماكها الشديد في عالم الفن، وغيرها من شخصيات يتعرض الكاتب لعالمهم، وما يواجهونه في المجتمع من مشكلات، وهي في النهاية تطرح سؤالاً عامًا حول مدى قابلية المجتمع لتلقي الجمال وتعلمه وسط ما يحيط به من قهر وكبت وقبح.

كما يحكي في «العاشق البدوي» قصة سارة حسن ضحية سجون النظام الذي لا يعجبه جرأتها وتعبيرها عن رأيها بحرية، التي يقف لها الضابط الذي يتشدق بالصلاح والإيمان بينما يعذبها هي ورفاقها في السجن، في كشفٍ واضح لسياسات النظام السوداني القمعي، وما يجره على أبناء شعبه من ويلات ومصائب.

في روايته «الرجل الخراب» يتعرض بركة ساكن لفكرةٍ طالما أثّرت في الأدب العربي الحديث، وهي العلاقة بالغرب، ويستعيد القارئ معها ما رواه الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولكننا هنا إزاء بطلٍ آخر مغايرٍ تمامًا، نحن مع «درويش» المولود لأبٍ سوداني وأم مصرية، لم يتمكن من الالتحاق بمدرسة في مصر لأنه أجنبي، ثم يتطور الأمر به حينما يهاجر إلى النمسا ساعيًا للتأقلم مع عالمٍ جديد مختلف عنه كليةً، وهناك يقطع علاقته بعالمه العربي والإسلامي تمامًا، وبذلك يتحول فعليًا في نظر الراوي إلى «الرجل الخراب» الذي لا أساس له ولا هوية.

نجده يجيد التعبير عن المهمشين والفقراء الذين يسمون أنفسهم مسامير الأرض في روايته «الجنقو» التي تتحدث عن العمال الموسميين الذين يتركون قراهم الفقيرة بحثًا عن لقمة العيش، وما يجدونه في طريقهم من مذلةٍ وهوانٍ وصعوبات.

الإنسانُ هو مَشروع فاشل لمخلوق أسمَى، ولو أنه لا يزال يحتفظ بقدر ضئيل من ملامح ما كان يجب أن يكونه، وبقدرٍ وافٍ من صفات المَسْخ الذي هو عليه الآن. وأنا أكتب ذكرياتي وأسجل وقائع حياةٍ ما كانت ستصبح قاسية ومؤلمة لولا ذلك الكائن السامي، وما كانت تغدو جميلة وثرية لولا ذلك المسخ الحطيط، سوف أحكي هُنا عن الإنسان؛ فقيرًا ومؤلمًا كما العقرب، ولطيفًا حلوًا كالفراشة، وبعيدًا عن هذه الثنائيات أحاول أن أكون صادقة وواضحة، وأحاول أن أقول أشياء هي غائمة الآن في ذهني، ولكن آثارها جلية في روحي وفي جسدي، سوف أحاوِل ألَّا أخجل للآخرين أو منهم. أقول إنني سوف أكشف عُري العُراة، وعورة جحيمٍ عشته بعمق، على الرغم من ذلك أرجو أن أكون رحيمة بجلَّادي، ولو أنني أصبحت جلَّادته؛ فلقد قتلته عدة مرات.
من رواية «العاشق البدوي»

يتميز أسلوب عبد العزيز بركة ساكن بشكلٍ عام بالثراء والتنوع، والاعتماد على تقنيات جديدة ومختلفة في كل رواية. فالموضوع عنده هو الذي يفرض أسلوب الكتابة؛ فمرة نجد بناء الرواية على شكل مقاطع قصيرة كل مقطع منها يسلم للذي يليه (كما يفعل في رواية الطواحين)، ومرة يتداخل الكاتب/الروائي مع بطل العمل في النص فيما يعد كسرًا لإيهام القارئ (كما نجد في رواية الرجل الخراب)، وتارة يعود إلى التاريخ ويرصد عددًا من التغيرات الاجتماعية والثقافية التي حدثت في أزمنةٍ ماضية (كما نجد في رواية سمهاني)، وهكذا تختلف طريقة بناء كل رواية والتكنيك الذي يتتبعه فيها، كما يبدو لدى عبد العزيز بركة ولع خاص بعالم الشعر واللغة الشاعرية التي تنحو إلى الصوفية حينًا وإلى العوالم الغرائبية والفانتازية أحيانًا كثيرة.

كان من حُسن حظ قارئ عبد العزيز بركة ساكن أن رواياته كلها أصبحت متاحة إلكترونيًا، وذلك من خلال مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر، التي أتاحت نسخًا إلكترونية شرعية من رواياته، وجعلت قراءة رواياته والتعرف على عالمه أمرًا ميسورًا من خلال نقرة إصبع، ولعل ذلك كان أحد أهم أسباب انتشاره عربيًا وإقبال القراء على قراءة إنتاجه الأدبي المتميز.

تجدر الإشارة إلى أن عبد العزيز بركة ساكن قد حاز على جائزة «سين» للآداب في سويسرا عام 2017 عن روايته التي ترجمت للغة الفرنسية «مسيح دارفور» ونالت إعجاب الكثير من القراء والنقاد عربيًا وعالميًا.