إن الشيخ عبدالوهاب خلاف إذ كان في حياته المادية شخصًا واحدًا، فإنه في حياته العلمية الباقية شخصيات متعددة، فأبناؤه القضاة الشرعيون، وأبناؤه القضاة المدنيون، وأبناؤه المدرسون، والشعوب الإسلامية التي انتفعت بتفسيره وأحاديثه وبحوثه ومؤلفاته، كل أولئك الشيخ خلاف.
الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت

لم يأتِ التميّز الحضاريّ للعلماء العرب والمسلمين قديمًا إلا من ربطهم للأسس النظرية بالواقع العملي، ومكابدة اختبار هذه الأسس ومقارنتها بمثيلاتها، ثم الخروج من تلك المكابدة بخبرة تجديدية ذات نتاج حقيقيّ ومؤثّر وملموس. ومع تراجع هذه الممارسة انحسر التميّز الحضاري حتى انعدم تمامًا، وسادَ الجمود النظري والاضطراب التطبيقيّ.

وقلّ أن تظفر في الأزمنة الأخيرة بعقليات يحتمل تكوينها مكابدة هذه الممارسة، فيما عدا استثناءات لافتة أقرّت أولاً بموات الممارسة التجديدية، ومن ثمّ أعادت إحياءها ثانيةً عبر ربط الأسس الأصولية التشريعية والفكرية باخباراتها عبر التطبيق العملي في واقع جديد ومختلف تمامًا، مع مقارنة هذه الأسس الأصولية بقريناتها من منظومات فكرية وتشريعية مغايرة، ومحاولة الخروج بنتاجٍ تجديديٍ أصيل. من هذه الاستثناءات: الشيخ الأصوليّ والفقيه القانوني «عبد الوهاب خلاف».


ميلادٌ وثورةٌ وتجديدٌ

في مدينة «كفر الزيات» بمحافظة الغربية بجمهورية مصر العربية، وفي (رجب 1305هـ/ مارس آذار 1888م)، وُلِد «عبد الوهاب عبدالواحد مصطفى خلاف»، ونشأ في أسرة طيبة محافظة، وألحقته أسرته بالكتّاب، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ علوم اللغة العربية وعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث وغيره.

في عام 1900م، التحق الصبيّ عبد الوهاب بالأزهر، وتلقّى عن أعلامه في ذلك الوقت، وتأثّر كثيرًا بأستاذه الإمام الشيخ محمد عبده، وبعد سبع سنوات التحق بمدرسة القضاء الشرعي، وتخرّج منها بالشهادة العالية بتفوّق في (1915م)، وعُيّن مدرسًا فيها.

ومع عنفوان شبابه واستواء عوده، شارَك في الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي (1919م) كاتبًا وخطيبًا؛ وكان لابدّ أن يدفع ضريبة هذا الدور المؤثّر، فتمّ إقصاؤه من التدريس بمدرسة القضاء الشرعي، فالتحق في العام التالي مباشرة بالمحاكم الشرعية المصرية وعيّن فيها قاضيًا شرعيًا، ونظرًا لتميّزه عُيّن مفتشًا في المحاكم الشرعية بعد عامٍ واحد فقط.

في عام (1924م)، تولّى الشيخ خلاف إدارة شئون المساجد بنظارة الأوقاف، والإشراف عليها، ومنحه الملك فؤاد «وسام النيل العظيم» نظير خدماته بنظارة الأوقاف، وذلك في عام (1931م). ثم عاد إلى سلك التدريس مجدّدًا، فعُيّن أستاذًا متفرّغًا للشريعة الإسلامية بكليّة الحقوق بجامعة القاهرة في العام (1934م)، واستمرّ فيها حتى أحيل للمعاش عام (1948م)، إلا أنه واصل العمل بالجامعة كأستاذ غير متفرّغ. ثم عُيّن في عام (1953م) أستاذًا غير متفرّغ بقسم الدراسات الإسلامية والقانونية بمعهد الدراسات العربية العالية. وفي الأثناء – تحديدًا في العام 1946م- كان قد صدر مرسوم ملكي بتعيينه عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.


تشييد التجديد على أرضٍ أصوليةٍ

الكاتب الصحفي أنيس منصور، جريدة الأهرام، 14 فبراير 2010م

ربما تصلح هذه الشهادة مدخلاً لتوضيح الرابط العضويّ بين أصالة المعارف وبين التجديد في منظومتها. وفي حالة الشيخ خلاف، تأتي اللغة – كمجال معرفيّ أداتيّ متنوّع وأصيل – مكونًا عضويًا في عملية التجديد الأصولي والنظر التشريعي. وقد انتمى الشيخ عبدالوهاب خلاف إلى مدرسة تجديد الدرس الديني بكافة مجالاته، التي كان على رأسها الشيخ محمد عبده، واستمرّ على النهج ذاته في مدرسة القضاء الشرعي التي جمعت في مناهجها الدراسية بين العلوم الشرعية والعلوم العصرية من قوانين معاصرة وإجراءات قضائية علمية، ثم واصل الأمر ذاته في تدريسه بنفس المدرسة مُخرّجًا جيلاً من القضاة الشرعيين المؤمنين بالتجديد، ثم في تدريسه بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وإسهاماته العلمية في تجديد الفقه والشريعة، والدفاع عن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، من خلال مؤلفاته التي سيأتي ذكرها.

انطلق الشيخ خلاف من أرضية أصولية تُعلي قيمة النصوص التشريعية وتجعل لها الأولوية دائمًا. يؤكّد ذلك في مجلة كنوز الفرقان – عدد محرم وصفر 1371هـ – بقوله «القرآن الكريم هو دستور المسلمين، وقانونهم الأساسي الذي يجب أن ترجع إليه حكوماتهم وأفرادهم في العقائد، والمعاملات، والأخلاق، والتشريع، والسياسة وكل شأن من شئون الدنيا والدين».

ويعيد نفس المعنى ببعض التفصيل في مجلة «لواء الإسلام» – عدد يوليو 1951م- بقوله «إن القرآن والسنة الصحيحة التشريعية – التي ليست زمنية- ليس فيهما ما يقف عقبة في سبيل مصالح الناس الاقتصادية؛ بل فيهما الأساس الصالح لكل تشريع مالي يساير تطورات الناس، ويحقق نفعهم، ويدفع الضر عنهم».

غير أن النظر التشريعي للشيخ خلاف لم يكن تنزيليًا جامدًا، وإنما كان تحليليًا استقرائيًا متبصّرًا، واطّرد هذا في طرحه الأصولي والتشريعيّ. من ذلك ما ذكره في مجلة كنوز الفرقان – العددين الخامس والسادس، السنة الثالثة – في تحليل المخطّط التشريعي في الدين الإسلاميّ، يقول «مَن استقرأ تشريع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العبادات أو المعاملات أو أي نوع من أنواع الأحكام، يتبين أنه كانت له في تشريعه خطة قويمة تقوم على عدة أسس؛ أولها: مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم، ومسايرة هذه المصالح في تطورها وتبدلها. وثانيها: التيسير والتخفيف واجتناب ما فيه المشقة والحرج. وثالثها: التقليل من تشريع الأحكام، فلم يشرع رسول الله حكما لواقعة فرضية ولم يفتح لأصحابه باب السؤال عن حكم واقعة فرضية، بل كان تشريعه على قدر الحاجة. ورابعها: المشاورة والوقوف على آراء أولي الرأي من صحابته».


في الإصلاح المجتمعي والعمل السياسي

لم يقف التخصّص الأصولي بالشيخ عبد الوهاب خلاف وراء حجاب الكُتب وجمود التنظير، وإنما نزل به إلى معامل الواقع مستخدمًا نفس أدواته التحليلية والاستقرائية في تقديم خطواتٍ إصلاحية ملموسة تنطلق من الأرضية الأصولية ذاتها. وقد ارتبطت رؤيته في الإصلاح بالتصدّي النظري التحليلي للأمراض الاجتماعية، وتقديم حلول عملية جذرية لحلّها، وهو يرى أن «وسائل نجاح المشاريع الإصلاحية في أمرين؛ الأول: الوفاء بحق الدين الذي ندين به… والاعتراف بفضل هذا الدين الذي لم يهمل شؤون الأمة الاجتماعية، وشرع لكل شأن من شؤون الجماعات ما يكفل إصلاحه. والثاني: ضمان نجاح مشروعات الإصلاح الاجتماعي مرهون بإيمان الناس بأن فيها خيرهم ونفعهم».

كما ارتبطت رؤيته تلك بنقد الحلول المأزومة القائمة، مع طرح حلول بديلة أنجع وأنسَب. ومن ذلك نقده لسياسة التطهير الإداري التي اتبعتها الحكومة، حيث أعلن أنه «ينبغي أن توجه الحكومة عنايتها إلى تطهير الأساس، وهو تطهير العقول والأخلاق، لأنه ما دامت العقول معتلة، والأخلاق فاسدة، فالتطهير في أفراد الموظفين ظاهري ووقتي، ولا ضمان لأن يخلق الموظف الفاسد موظفًا صالحًا، وما دام أصل الشجرة فاسداً، فكلما بترت ثمرة مصابة خلفتها ثمرة مصابة».

غير أنه اتخذ موقفًا عنيفًا من قضايا الفساد – الإداري والمجتمعي – ووصف المتورّطين فيها بأنهم «زائغون ملحدون إباحيون مستهترون بهيميون، يريدون أن يتحللوا مما حرمته الأديان»، مقدّمًا في مقالة له بعنوان «التطهير» طريقين لا ثالث لهما يُقتدى فيهما بالرسول – صلى الله عليه وسلم – في التعامل معهم، حيث «دعا أولاً بالبينة والبرهان، ومن كابر قاوم مكابرته بالسيف والقتال، ولابد لنصرة الحق من اتخاذ الطريقين، فطريق البرهان ينفع مع من ليست في قلوبهم أمراض، وطريق القوة والسيف. وهو الذي يقمع الآخرين».

وانسحب نشاط الشيخ خلاف الفاعل، إلى المشاركة في العمل السياسي العام، مع التحفظ على فكرة الانتماء إلى أحزاب أو جهات نفعية. ولذا شارك في ثورة 1919م ضد الاحتلال الإنجليزي خطابةً وكتابةً، وبعد انتهائها لم يلتحق بأي جهات حزبية.

كما كانت له مشاركات في نقد الحالة السياسية والقضائية السائدة في مصر، ومن ذلك نقده للمرجعية القانونية في البلاد، محاضرة «الشريعة الإسلامية مصدر صالح للتشريع الحديث»، التي ألقاها عام 1940م، حيث قال فيها: «إن أخذ قوانيننا المصرية عن القوانين الفرنسية ما كان سببه أن شريعة البلاد الأصلية – وهي الشريعة الإسلامية – لم تصلح لأن تكون مصدراً للنفسيين، أو أن مبادئها وأحكامها قورنت عند النفسيين بغيرها، فكان غيرها أصلح للأمة وأعدل، أو أن تطبيقها أظهر فشلها في تحقيق مصالح الناس والعدل بينهم، أو أن علماءها طلب منهم أن يصوغوا قوانين من أحكامها فعجزوا، ما كان من ذلك كله، وإنما هي الامتيازات الأجنبية، والحرص على رضا الأجانب، ودولهم قضت بأن يهمل جانب الأمة المصرية في التشريع لها، وبأن تفرض عليها قوانين غيرها».


إرثٌ من التأصيل والتحليل والنقد

كنت أقول ولا أزال إن في مصر أربعة يحببونك في اللغة العربية: طه حسين وفاروق شوشة والشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ محمد رفعت.
ليس هذا المجال يتسع لمآثر الأستاذ عبدالوهاب خلاف، وإن مآثره خالدات، فكتبه وبحوثه ومقالاته منشورة معلومة بين الناس، وما زالت أجواء القضاء يتردد فيها صدى صوته العميق العذب الذي يسترعي الأسماع.
الشيخ محمد أبو زهرة

ترك الشيخ عبد الوهاب خلاف عددًا وفيرًا من الكتب والأبحاث العلمية في السياسة الشرعية وعلوم القرآن وعلوم السنة والسيرة، والفقه الإسلامي وأصوله، والقواعد الأصولية واللغوية، الحافلة بالنظر الأصولي والتحليلي والنقديّ، نورد أهمها فيما يلي:

– فقه السياسة الشرعية، دار الأنصار، القاهرة، 1930م.

– السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1930م.

– أحكام الأحوال الشرعية في الشريعة الإسلامية وفق مذهب أبي حنيفة وما عليه العمل الآن بالمحاكم الشرعية المصرية، مطبعة النصر، القاهرة، 1936م.

– علم أصول الفقه، مطبعة النصر، القاهرة، 1942م.

– خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، طبع أول مرة مع كتاب علم أصول الفقه، القاهرة، 1942م.

– نور من القرآن الكريم، القاهرة، 1948م. وأعيد طبعه بدار الثقافة بقطر، بدون تاريخ.

– شرح قانون المواريث رقم (77) لسنة (1943م)، القاهرة، بدون تاريخ.

– الاجتهاد بالرأي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1950م.

– أحكام الوقف، مطبعة النصر، القاهرة، 1953م.

– مصادر التشريع فيما لا نص فيه، معهد الدراسات العربية العليا، القاهرة، 1954م.

– الأهلية وعوارضها في الشريعة الإسلامية وفي القانون المدني رقم (31) لسنة 1948م وفي قانون الولاية على المال رقم (119) لسنة 1952م، مطبعة دار النصر، القاهرة، 1955م.

– الإسلام والمعاملات، صدر كملحق لمجلة (الإذاعة المصرية)، القاهرة، 1956م.

– السلطات الثلاث في الإسلام، دار آفاق الغد، القاهرة، 1980م.


بعد رحلة عطاء علمي وعملي، توفيّ الشيخ «عبد الوهاب خلاف» يوم الجمعة 20 يناير/ كانون الثاني من العام 1956م، الموافق 7 جمادى الآخرة 1375هـ، عن 68 سنة، ودُفن بمقابر الغفير بالقاهرة. ونظرًا للمكانة التي احتلها لدى تلامذته ومريديه، كتب كثيرون منهم في نعيه وافتقادهم إياه، ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما ذكره عنه تلميذه المعروف الشيخ محمد أبو زهرة:

لقد كان أستاذنا الجليل الذي فقدناه قوة للشريعة بشخصه المهيب، وبيانه الرائع، وأحاديثه العذبة السهلة، وبحوثه الفياضة، وكنا في كلية الحقوق نحس بأن الشريعة، ولها مكانتها القدسية ودقتها الفقهية، تحتاج دائماً إلى شخصيات تجليها، ولها من المكانة في النفوس ما يرد زيغ الزائغين.
المراجع
  1. موسوعة «علماء ومفكرون معاصرون»، المركز العربي للدراسات الإنسانية، تحت الطبع.
  2. عبد الوهاب خلاف الفقيه الأصولى المجدد، د. محمد عثمان شبير، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى، 2010م.
  3. معجم المؤلفين.. تراجم مصنّفي الكتب العربية، عمر رضا كحالة، الجزء الثاني، مؤسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م.
  4. علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، طبعة دار القلم، الكويت، الطبعة السابعة بتقديم الشيخ محمد أبو زهرة، 1972م.
  5. مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، نسخة إلكترونية مفهرسة بدون تاريخ.
  6. مجلة التوحيد، جماعة أنصار السنة المحمدية، مصر، العدد 472، ربيع الآخر 1432هـ.
  7. مجلة «لواء الإسلام»، السنة الرابعة، شوَّال 1370 هـ، يوليو 1951م.
  8. مجلة كنوز الفرقان، السنة الرابعة، محرم وصفر 1371هـ.