على خلفية التأثير المهيمن لأطروحات كارل ماركس وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عن «الاستبداد الشرقي» و«الحكم السلطاني» على دارسي العلوم الاجتماعية، ظل هناك تقدير مبالغ فيه لقوة الدولة في الشرق الإسلامي، خلال العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، لدى كثير من الأكاديميين والباحثين وحتى بين غير المتخصصين.

في مقابل تلك الصورة التي رسمتها تلك الأطروحات عن الطغيان السياسي والحكم المطلق في تلك الحقبة الممتدة، ثمة هناك صورة أخرى توفرها لنا كثير من المعطيات التاريخية عن واقع الحكم اللامركزي في العالم الإسلامي، الذي كانت تشترك في تسييره قوى اجتماعية متعددة مثل الطوائف المهنية والحرفية، ومؤسسات الوقف التي كانت توفر الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية بشتى أشكالها، والزعامات التقليدية في أحياء وضواحي المدن وقرى الريف.

في هذا السياق يطرح تاريخ الطوائف الحرفية والمهنية، التي انتهت في مصر عام 1890م، تساؤلًا ضمنيًا مفاده: هل كان هناك ثمة حداثة شرقية أخرى ممكنة؟ قادمة من البنى والتراكيب الاجتماعية المحلية والحراك الطبقي الخاص بالمصريين، في سياق التطور التاريخي الطبيعي لمصر والمنطقة، عوضًا عن النمط التحديثي الغربي ذي الطابع العسكري الذي فرضه محمد علي مرتكزًا على مؤسسة الجيش كقاطرة للتحديث، وعلى الأجهزة البيروقراطية التابعة للدولة كأداة للتنمية وتعبئة الموارد، من خلال سياسات الاحتكار العام التي انتهجها.

قبل أن نجيب على هكذا سؤال، يحتاج إلى مشاركة واسعة من الدارسين والمتخصصين في إطار دراسات تاريخية/ اجتماعية متعددة ومعمقة، دعونا نتعرف أولًا على أبرز ملامح نظام طوائف الحرف، ودور تلك الجماعات التاريخي في الأحداث الكبرى التي ألمت بالبلاد في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر.

تشكل طوائف التجار والحرفيين

تعددت الآراء حول بداية نشأة جماعات وطوائف الحرف في مصر، حيث يردها البعض إلى العصر الروماني، بينما يعزي آخرون بدء هذا النظام إلى القرن العاشر الميلادي، وفي هذا السياق تبدو بدايات الطوائف الحرفية موغلة في القدم بالفعل، ولكن يمكن أن نرصد تحول تلك الظاهرة الاجتاعية إلى ظاهرة بارزة ومرتبة في العصر الأيوبي، الذي انتظم خلاله مختلف أرباب الحرف في طوائف خاصة بهم.[1]

أخذ نظام طوائف الحرف صفة الثبات والاستقرار في العهد المملوكي، وترسخت قواعده وأعراف تنظيم معاملاته بين أبناء الحرف بعضهم البعض وبينهم وبين الجمهور. ثم استمر في فترة الحكم العثماني، حيث كان ملائمًا لسياسة العثمانيين التي كانت تقضي بالعزوف عن التدخل في حياة السكان، ولا تتعدى فيه مسئوليات الدولة حدود جمع الضرائب والدفاع عن الولايات ضد الأخطار الخارجية والفصل في الخصومات بين الناس.[2]

بسبب حدود الممارسة العثمانية تلك لمسئوليات الحكم، كان الناس ولا سيما في المدن ينتظمون في طوائف حسب مهنهم مثل: «الصاغة والحدادين والجزارين والخبازين والقياسين والوزانين والنحاسين والسروجية والبزازين والعطارين..الخ»، وكانت كل طائفة لها رئيس يسمى شيخ الطائفة، يتولى تنظيم شئونها، والفصل في المنازعات بين أفرادها، وتنظيم العلاقة بينها وبين الحكومة، وكانت الطوائف توفر لأعضائها الرعاية الاجتماعية التي تعينهم على تحمل أعباء الحياة، كدعم المرضى والمسنين والمنكوبين.[3]

لم تقتصر طوائف الحرف في مصر في هذا الإطار، على فئات التجار والصناع، بل ضمت فئات مهنية أخرى كالكتبة والسماسرة والمداحين، وتكاد ألا تكون هناك مهنة أو حرفة مهما تواضعت، إلا ونجدها انتظمت في طائفة، كما نجد في طوائف الحمالين والعربجية وخدم المنازل، بل حتى الحرف السيئة والإجرامية انتظمت في طوائف، حيث كان هناك طائفة للنشالين مقرها القاهرة ولها رئيس هو شيخها، وكثيرًا ما كان الناس يطالبوه بالبحث عن مسروقاتهم وتقديم السارقين إلى المحكمة. وحتى العاهرات انتظمن في طائفة خاصة بهم، كما كان هناك أيضًا طائفة للشحاذين والمتسولين.[4]

خلال القرنين الأول والثاني من الحكم العثماني، كانت الدولة تعين مشايخ الطوائف بشكل سافر، وهو الإجراء الذي انتقده أعضاء الطوائف وبدؤوا في تجاوزه خلال نهاية القرن الثامن عشر، وصار بإمكانهم انتخاب شيوخ الطوائف مع احتفاظ الدولة فقط بحق مراجعة الاختيار.[5]

وقد أسهم نظام الطوائف في الحيلولة دون استبداد أصحاب رؤوس الأموال واستئثارهم بأرباح الصناعة وتسخير عمالهم لمصلحتهم الذاتية، كما أسهم كذلك على مستوى آخر، في خلق رقابة دقيقة على الصناع، وفي الارتقاء بمستوى الصناعات والحرف من الناحية الفنية.[6]

الدور السياسي للطوائف الحرفية

لا يكاد ذكر الطوائف الحرفية يغيب في المصادر التاريخية، في جميع الأحداث الكبرى في التاريخ المصري خلال بدايات العصر الحديث. في هذا السياق يروي المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار المعروف بـ«تاريخ الجبرتي»، مشاركة الطوائف يوم الثلاثاء 3 صفر 1213 هـ  الموافق 17 يوليو (تموز) سنة 1789، في الاستعداد لمعركة إمبابة مع جيش المماليك، الذي خرج للدفاع عن القاهرة ضد بونابرت، ويقول:

كانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون خيامًا أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والأكل وغير ذلك.[7]

اشترك أيضًا رجال الصناعات والحرف في ثورة القاهرة الأولي، التي بدأت يوم الأحد 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1798، حيث حدثت اتصالات بين قيادة تلك الثورة وشيوخ الطوائف، وأصدر كل شيخ تعليماته إلى طائفته، بإغلاق محالهم عند صدور أول إشارة، وكان الجامع الأزهر هو مكان تجمع التجار والصناع والحرفيين الذين التحموا مع الثائرين ضد الجنود الفرنسيين.[8]

لم يقتصر اشتراك الحرفيين على ثورة القاهرة الأولى، بل شاركوا كذلك في ثورة القاهرة الثانية التي اندلعت في 20 مارس (آذار) 1800 م بشكل واسع وكبير، ويروي الجبرتي في هذا الإطار بعض تفاصيل مشاركة أرباب الصنائع والتجارات في تلك الثورة، ويقول:

أنشأ عثمان كتخدا معملاً للبارود ببيت قائد أغا بخط الخرنفش وأحضر القندقجية والعربجية والحدادين والسباكين لإنشاء مدافع وبنبات وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت، وعمل العجل والعربات والجلل زغير ذلك من المهمات الجزئية، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك، فصار كل هذا يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني.[9]

لعبت طوائف الحرف أيضًا دورًا بارزًا في الثورة التي أدت إلى تولية محمد على باشا واليًا على مصر، بقيادة الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف، الذي استطاع تعبئة 40 ألف مسلح، وفرض ضريبة على الأثرياء، حتى يستطيع أن يشتري السلاح ويوزعه على الأهالي، ولكي يفرض رواتب للصناع الذي تركوا حرفهم لكي يتفرغوا للقتال.[10]

وقد برزت في خضم تلك الأحداث قيادات حرفية لعبت دورًا محوريًا في هذا السياق، مثل حجاج الخضري شيخ طائفة الخضرية بالقاهرة وابن شمعة شيخ الجزارين اللذين ركب كل منهما في موكب النصر الذي ذهب يوم الإثنين 11 ربيع الثاني 1220هـ، الموافق 9 يوليو 1805م لاستقبال القابجي العثماني (الرسول) الذي يحمل أمر تولية محمد على واليًا للقاهرة. وهنا لأول مرة منذ قرون نجد القوى والزعامات الشعبية في مصر هي التي تصنع التاريخ، بعد أن كانت هي التي تعاني دومًا من ويلاته.[11]

في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، ساندت عدد من الطوائف حركة الضابط المصري أحمد عرابي، في مواجهة الشراكسة والأتراك والخديو، من أجل الحصول على سلطة برلمانية أكبر في عام 1882، حيث تكاتفت الطوائف كطائفة الإسكافيين وبائعي البن والخياطين والحمالين من أجل إعادته لمنصبة كوزير للحربية في مايو من ذلك العام.[12]

نهاية طوائف التجارة والحرف

عندما تولى محمد على باشا الحكم، كانت البلاد تتبع نهج الحرية الاقتصادية، فلا تتدخل الحكومة في شئون الصناعات والإنتاج والتجارة، وقد سار محمد على في بداية الأمر على هذا النهج، ثم اتبع بعد ذلك سياسة تقوم على الاحتكار والحمائية التدخل الواسع في الشأن الاقتصادي.[13]

 كان نظام الاحتكار في عصر محمد على هو وسيلة الدولة للهيمنة على الموارد المالية، وفي هذا السياق سيطر الباشا على شتى نواحى الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، وتحول كما يقولون إلى الزارع الوحيد والتاجر الوحيد والصانع الوحيد، ولم يترك محمد علي في هذا الإطار حتى الصناعات الصغيرة في القاهرة والمدن الكبرى، حيث بسط سيطرته الكاملة عليها بقصد إنتاج الربح وفرض ضرائب مباشرة على الصناع وغير مباشرة على المستهلكين.[14]

ويروي الجبرتي ضمن حوادث عام 1227هـ/1812 م، تأثر أرباب الحرف بسياسات محمد علي تلك، ويعدد تفصيلًا نماذج منها:

ومنها التحجير على الأجراء والمعمرين المستعملين في الأبنية والعمائر مثل البنائين والنجارين والنشارين والخراطين وإلزامهم في عمائر الدولة بمصر وغيرها بالإجارة والتسخير، واختفى كثير منهم وأبطل صناعته، وأغلق من له حانوت حانوته (…) وتكسب بحرفة أخرى فتعطل بذلك احتياجات الناس في التعمير والبناء، بحيث إن من أراد أن يبني له كانونًا أو مزودًا لدابته تحير في أمره.[15]

وفي سنة 1821م، أصدر محمد على أمرًا ينص على منع كافة الأهالي من تشغيل أنوال الغزل والدوبارة، ويهدد بمعاقبة من يتجاسر منهم على الاستمرار في تشغيل تلك الأنوال، كما غلق مصانع السكر الأهلية عندما بدأت مصانعه الحكومية في إنتاج السكر، وبهذا ألحق محمد علي بالصناعات وأهلها ضررًا بليغًا، من خلال سيطرته الاحتكارية التي أدت إلى هجرة الكثير من الصناع صناعاتهم، على نحو ما فعل الزراع أيضًا الذين تركوا زراعتهم جراء الظلم والقسوة والعسف، بينما تحول باقي المزارعين والحرفيين إلى مجرد أجراء لدى محمد علي.[16]

تسببت سياسات محمد علي في هذا السياق، في إعاقة الحراك الاجتماعي الطبقي، والحيلولة دون تطور طبقة وسطى وبرجوازية صناعية وتجارية مصرية، قادرة على تقليم أظافر الارستقراطية الإقطاعية للشراكسة والأتراك، ودفع البلاد نحو إقامة حياة دستورية وتدشين ديمقراطية برلمانية، كما حدث في أوروبا.

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولت معيشة الحرفيين باستثناء بعض الصناعات إلى عيشة ضنكاً، بسبب انفتاح البلاد للوارادات الأجنبية رخيصة الثمن متقنة الصنع، وبدء عصر الامتيازات الأجنبية، بعد سقوط نظام الاحتكار عام 1841، بعد هزيمة محمد على أمام تحالف القوى الأوروبية، وهو ما أجهض فرصة عودة الازدهار إلى الحرف والصناعات المصرية بعد إلغاء نظام الاحتكار، وعودة الحرية الاقتصادية لطوائف الحرف والتجارة للعمل من جديد في الفترة بين عامي 1841 و1890.[17]

وانتهى، أخيرًا، نظام طوائف الحرف في مصر، نتيجة للأمر الصادر في 9 يناير من عام 1890، الذي قرر حرية احتراف أي مهنة، دون اشتراط أن يكون المحترف صبيًا متمرنًا.[18]

المراجع
  1. نبيل السيد الطوخي، طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009، ص13.
  2.  المرجع نفسه ص13-14.
  3.  المرجع نفسه، ص14.
  4. المرجع نفسه، ص16.
  5. جوان كول، الكولنيالية والثورة: الأصول الاجتماعية والثقافية لثورة عرابي، ترجمة عنان الشهاوي، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، يناير 2016، ص407.
  6. محمد فهمي لهيطة، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، ص29.
  7. عبد الرحمن الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، الجزء الثاني، دار الجيل، بيروت، ص548.
  8. نبيل السيد الطوخي، م.س، ص18.
  9. الجبرتي، م.س، الجزء الثاني، ص227-231.
  10. نبيل السيد الطوخي، م.س، ص22.
  11. المرجع نفسه، ص23.
  12.  جوان كول، م.س، ص398.
  13.  المرجع نفسه، ص23.
  14.  المرجع نفسه، ص24.
  15. الجبرتي، الجزء الثاني، ص 279 – 280.
  16.  الطوخي، م.س، ص26.
  17.  المرجع نفسه، ص202-203.
  18.  المرجع نفسه، ص9.