عندما قرر «أبو العباس المرسي» أن يترك تونس، وعمله فى تدريس الفقه وتعليم القرآن ويتجه صوب مصر، تحديدًا الإسكندرية، ليلحق بالعارف الشيخ «أبو الحسن الشاذلي»، كان بحثه من ذلك النوع الأصيل، بحثًا عن شيخ مربٍّ يأخذ بيده في دروب السماء. كان أبو العباس فتىً ممن رُبّوا في الكتاتيب وبين الكتب والدروس والمطالعة والتأديب، ولد بالأندلس، بقرية «مرسية» وإليها ينسب، وتعلم بها، حتى ترقى ليصير مؤدبًا ومحفظًا للقرآن ومدرسًا لعلوم الشريعة.

وفي عام 640هـ، خرج مع والديه وأخيه في رحلة الحج، وبينما زورقهم في البحر هبت عاصفة أودت بوالديه، وألقت بأبي العباس وأخيه على شواطئ تونس. عمل الأخ في التجارة، وعمل أحمد أبي العباس بالتأديب، حتى كان قراره بالخروج إلى مصر بحثًا عن الشيخ، ومذ ذلك الحين والصحبة لم تنقطع.

لازم أبو العباس شيخه أبو الحسن الشاذلي في حله وترحاله، في الحرب والسلم، خرج معه إلى تونس وعاد ثانية إلى مصر، لازمه حتى أخذ عنه علومه ورويت عنه سؤالاته لشيخه وأجوبة الشيخ، وأخذت عنه أيضًا ابنته فكان زوجًا لها، والأهم أنه أخذ عنه العهد، ففي رحلة الشاذلي الأخيرة إلى الحج، وبينما هو في راحة بـ(حميثرة) جنوب مصر، أعطى الشيخ العهد لأبي العباس خليفة من بعده وقال لأصحابه: «أبو العباس أعرف بطرق السماء منه بطرق الأرض». ثم مات عنهم في ليلته، ودفن صاحب الطريقة حيث قُبض، وبدأ عهد أبي العباس، شيخًا للطريقة وإمامًا للمريدين.

كان أبو العباس فقيهًا مالكيًا لكنه مع هذا أحب الحديث في التصوف عن الفقه لكثرة المشتغلين به، وكانت من أهم إسهامات أبي العباس في نظام الطرق الصوفية هو إعادته رسم علاقة المريد بالشيخ، وتوثيق الرابطة بينهما، وجعل للشيخ حق الاطلاع على أحوال تلاميذهم ظاهرًا وباطنًا.

أرسى أبو العباس دعائم المدرسة الشاذلية من بعد مؤسسها، وصرف جهده في التربية والتسليك، فكان من أهم تلامذته صاحب الحكم: ابن عطاء الله السكندري، وصاحب البردة: الإمام البوصيري.

أبو العباس شيخ الإسكندرية في حياته ومماته، مريد طالت صحبته لشيخه حتى خلفه فكان فرعًا عنه؛ فمن الشيخ؟


الشيخ

علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، ولد بالمغرب بعام 593هـ بقرية «غمارة»، وفيها طلب العلم، ثم رحل إلى بغداد، حاضرة الدنيا آنذاك طلبًا للشيخ المربي، فنصح بالعودة للمغرب إذ فيه طلبه، فعاد ليجد شيخه عبد السلام بن مشيش فلزمه حتى أمره بالخروج إلى «شاذل» بالمغرب ليعتزل فيها ويتعبد بجبل زغوان، وهناك سيشتهر اسمه، وينسب لشاذل، ثم يخرج إلى تونس للدعوة، وفور مجيئه إليها يلتف حوله الناس، ليأخذوا عنه العلم، حتى تقلق شهرته قاضي القضاة ابن البراء فيبدأ في الكيد له عند السلطان فيحبسه، إلا أنه سرعان ما يعدل عن قراره.

ثم يخرج في حجته الأولى فلما يصل مصر حتى كانت رسائل أبو البراء قد سبقت إلى حاكمها وأوغرت صدره على الشاذلي، فيأمر بحبسه في الإسكندرية ثم يعود ويتركه بعد أن ذاعت أخبار كراماته، فيخرج للحج ثم يعود إلى تونس فترة ثم منه إلى مصر ليمكث في الإسكندرية ويتزوج وينجب بها ويجلس للتعليم والتربية، كان يحضر مجلسه ثلة من العلماء والفقهاء أمثال العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وابن الصلاح، وابن الحاجب، وجمال الدين عصفور.

وفي عام 656هـ، خرج أبو الحسن الشاذلي في طريقه إلى الحج فخيم وأصحابه بـ (حميثرة) جنوب مصر بمحاذاة مكة، فلما خلا بنفسه بعد أن أشهد بالعهد لأبي العباس، فاضت روحه إلى ربه.

كان لمنهج أبي الحسن الشاذلي تمايز عن مناهج الصوفية المتبعة في تربية النفس، فلم يكن يميل إلى إفقارها وإلباسها الخشن والرث، بل كان يلبس الثياب الفاخرة ويعتني بهيئته ولا يلبس الخرق ولا لباس الصوفية المعهود، ولا يحبذ التفرغ بل كانت له الضياع والبساتين والمواشي يباشر شئون رعايتها، وكان يحث على ذلك ويحبب في العمل وكسب المعاش.

سأله أبو العباس عن ذلك مرة فقال: «اعرف الله وكن كيف شئت»، وكان يقول: «ليس هذا الطريق رهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة، ولا بقبقة الصناعة، وإنما بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية»[1].

ومن أهم ما حث عليه أبو الحسن وبنيت عليه الطريقة الشاذلية الترغيب في طلب العلوم الشرعية قبل سلوك طريق التصوف، وهو السنة التي واظب عليها أبو العباس وابن عطاء الله وياقوت العرش من بعده، فكانوا لا يسمحون بأخذ العهد لأحد إلا أن يكون وصل مرتبة من المقدرة على المناظرة في العلم.

الأهم من ذلك أن في سيرة أبي الحسن ما يخالف الروايات المعتادة عن تخاذل الصوفية عن نصرة الحق والجهاد والحياة عمومًا، فبخلاف ثراء أبي الحسن ومباشرته عمله، نزل أبو الحسن الشاذلي بنفسه إلى أرض القتال، وقاتل بين صفوف المصريين في موقعة المنصورة عام 1249م صدًا للاعتداء الصليبي على مصر، وكان لوجوده وطلبته أكبر أثر في تحميس المصريين وإثارة حميتهم للقتال وتثبيتهم، وكان يقيم بالجند الليل في المعسكرات فيعظهم ويحبب إليهم طلب الشهادة.

كان للشاذلي حال مع الحكام، فكان مهابًا ذا شأن، توسع في الشفاعة منهم لمن يطلبها حتى روجع في ذلك فلم يرجع، لذا كان مقصد كل من له حاجة عند سلطان أو صاحب جاه.

ترك أبو الحسن الشاذلي خلفه فرقة من أهم الفرق الصوفية في مصر وطريقة ذات تاريخ ممتد ومتقاطع مع نقاط هامة من التاريخ المصري ولليوم، فالحكم العطائية ما هي إلا نتاج ابن عطاء الله السكندري، تلميذ أبي العباس، وعلم متوارث عنه، لها من الانتشار والتأثير ما لها، يكفيها عدد الشروح التي كتبت لها والمجالس التي تقام لقراءتها. وبردة الإمام البوصيري ما هي إلا قصيدة في المديح النبوي كتبها تلميذ آخر لأبي العباس، فصارت أشهر قصائد المديح في التراث الإسلامي على الإطلاق، ودار حولها ما دار من جدل، فلم يفقدها ذلك مكانتها التاريخية.

خرجت لنا العديد من شعاب الطريقة الشاذلية، أهمها الحامدية الشاذلية.


فما التصوف والطريق؟

من بين أكثر الكلمات جدلاً من حيث إمكان الوقوف على حد لها كلمة «التصوف»، فلها تعريفات بعدد من كتبوا في التصوف أو نظروا له أو حتى عارضوه، وربما يرجع ذلك إلى أن التصوف، هو تجربة روحية لا يخضع لقوانين العلوم المنطقية، وكل تجربة روحية أو شعورية مهما بلغت بساطتها يكون التعبير عنها بألفاظ الغرض منها الإفهام تعبير قاصر يدور في المجازات، كالحب، شعور رئيس مارسته البشرية مذ وجدت، ومع ذلك كل محاولات التعبير عنه وتعريفه شعرًا أو نثرًا أو صورة تبقى عاجزة عن وصف حقيقته في نفس صاحبه، وتبقى محاولات اقتراب لا أكثر.

فكيف بالتعبير عن تجارب تتعلق بوصف الصلة والعلاقة مع المحبوب الأعظم والمرجو الأوحد؟ فجماع تعريفات التصوف تدور حول معنى واحد هو «صدق التوجه لله عز وجل وإفراده بالعبادة والقصد»، وجماع حديث الصوفية بعد ذلك هو محاولات لوصف ما ينبت في قلب الصوفي من معانٍ رُزقها في ذلك الطريق.

أما الطريقة، فهي عبارة عن تجسيد لمنهج صاحبها المتبع للوصول إلى هذه الحالة الروحية لكنها تدخل في تشكل هرمي منظم تحت إشراف رائد يدين له أتباعه بالتبعية الفكرية والدينية.

وقد عرف التاريخ الإسلامي العديد من الطرق الصوفية. يقول علي باشا مبارك، إن معظم هذه الطرق ترجع فى نسبتها النهائية إلى أحد أربعة من أقطاب التصوف هم: عبد القادر الجيلاني، أحمد الرفاعي، أحمد البدوي، سيد إبراهيم الدسوقي. ومرجع الاختلاف بين الطرق إلى الأساليب والوسائل المتبعة في كل طريقة لا إلى أهداف الطريقة ومبادئها.

فالمكون الأساسي للطرق الصوفية هو الشيخ والمريد، تحديدًا هو العلاقة بين الشيخ والمريد، ومحور الطريقة هو الأوراد والأذكار التي يكلف بها المريد السالك، ويؤديها في أوقات محددة في جماعة أو منفردًا بحسب الورد. فالشيخ في الطريقة هو الأب للمريد، بل تزداد مكانته عن ذلك فيكون واجب المريد تجاه شيخه ألا يخفي عليه شيئًا حتى مما يجول في خطراته، ويجل المريد شيخه تمام الإجلال فيما يتعهد الشيخ تربية المريد ورعايته الوجدانية.

أما الأذكار التي يطلب من المريد المداومة عليها فتختلف بحسب اجتهاد صاحب كل طريقة، ويكون الدخول للطريقة أولاً بإعلان التوبة الخالصة ثم تلقي العهد من الشيخ ثم الانتظام في حلقات الذكر. فيما عدا ذلك تتفرع الطرق في نتاجها السلوكي، فبعض الطرق تشترط لبس الخرق على أتباعها، وبعضها يفرط في «السماع»، وهو سماع الإنشاد والمديح بينما تمنعه طرق أخرى.


تاريخ التصوف المصري

تبدأ الفكرة الصوفية في الظهور مع فجر الحضارة الإسلامية، لكن مختلطة بعلومها، فيشغل موقعه من أركان الديانة (إيمان وإسلام وإحسان)* دون أن يتمايز عن مكونات الديانة بعلم مستقل، ثم يصير إلى التأليف المستقل في التصوف وعلوم التزكية، حتى يأتي القرن السابع الهجري ويبدأ التصوف يأخذ شكلاً تطبيقيًا منظمًا بصورة هرمية تعرف بـ«الطرق»، ويستقر في مصر وبلاد المغرب.

فلدينا 23 وليًا صوفيًا مشتهرًا في مصر في القرن السابع فقط من بينهم عديد ذوو أصول مغربية[2]، مما يعني أن الظرف التاريخي فرض على الطرق الصوفية التركز والحراك في مناطق محددة، فبعد سقوط بغداد بيد المغول كانت معركة (عين جالوت 658هـ) هي الدرع الوحيدة التي أوقف التمدد المغولي في الشطر الثاني من العالم الإسلامي؛ أي مصر ودول المغرب.

وبينما كانت مصر تحاول الحفاظ على هذه الدرع كان العالم الإسلامي يصدر كنوزه من علماء وفقهاء إليها، فانتقل إلى مصر مركز الثقل العلمي بالعالم الإسلامي لكن ليس صوريًا كما انتقلت الخلافة إليها. أما المغرب فكان بلدًا له باع في التصوف، فيه نشأت دولة «المرابطين» ذات الطابع الصوفي المميز، وكان اتصال المغرب بالأندلس وتأثرها بحروب إسقاطها سببًا في نزوح الكثيرين إلى مصر حيث ثقل المنتصف حاملين معهم أفكارهم وعاداتهم وتصوفهم.

يبدأ التصوف في مصر بذي النون المصري (ت: 245هـ)، يليه أبو بكر الدقاق، ثم أبو الحسن بنان الجمال (ت: 336هـ)، ثم يأخذ شكله المنتظم وتظهر الخانقاوات – أماكن لخدمة الصوفية المنقطعين للعبادة – بعام 569هـ، حين بنى صلاح الدين أول خانقاه بمصر، عرفت باسم «خانقاه سعيد السعداء»، ليتبارى الأمراء المماليك بعد ذلك في بناء الخانقاوات والنفقة على المتصوفة، فكانت القاهرة المملوكية مأوى المتصوفة وروضتهم.

ورغم أن التصوف في الأنحاء الشمالية لمصر تأثّر تأثرًا واضحًا بالتصوف المغربي، فقد تأثر جنوبها بمدرستين للتصوف هما مدرسة سيدي عبد الرحيم القناوي (ت: 592هـ)، ومدرسة التصوف السوداني التي تمتد آثارها لأقصى الجنوب المصري بالنوبة وشلاتين.


* إشارة إلى حديث (أم السنة) الحديث الثاني ضمن «الأربعون النووية».
المراجع
  1. عبد الحليم محمود: قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، دار المعارف، ص 40
  2. منال عبد المنعم السيد: أثر الطرق الصوفية فى الحياة الاجتماعية دراسة أنثروبيولوجية فى مصر والمغرب، جامعة الأسكندرية، قسم الأنثروبيولجيا.
  3. عبد الحليم محمود: قضية التصوف (المرسة الشاذلية، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة).
  4. ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام: الدر على الشاذلي في حزبه وما صنفه من آداب الطريق، تحقيق: على بن محمد بن عمران، دار علم الفؤاد.