لماذا علينا اليوم أن نقرأ أبو القاسم حاج حمد؟

كثيرا ما يتعرض المفكر أو العمل الفكري للأرشفة، أي أن يتم تصنيفه، ومن ثم الحكم القبلي عليه للتخلص من عناء معالجته أو من تواضع التوقف عن تقييمه. أبو القاسم حاج حمد أحد الأسماء التي يمكن أرشفتها بسهولة أكثر من غيره، أحد المثقفين الرُّحَّل من الماركسية إلى الإسلام، يريدون التماس شرعية جديدة لأحلامهم الثورية، أو أحد أصحاب القراءات الحداثية للقرآن الذين يريدون أن يسقطوا أفكارهم العلمانية على القرآن.

حاج حمد هو مفكر سوداني ولد عام 1941 وعرف بنضاله السياسي ضد نظام عبود ودعمه للثوار في إريتريا أصدر في 1979 عمله الأشهر العالمية الإسلامية الثانية

قيل هذا بالفعل عن حاج حمد، لكن هذا المقال يطرح أبو القاسم باعتباره المشروع الأصدق في صفة التجديد، كونه يعيد قراءة النص قراءة لا تسقط حلولها المسبقة عليه، بل «تكشف» حلوله «المكنونة» فيه لإشكالات الحداثة والتراث، بل وغوامض النص نفسه التي لم يتمكن التراث التفسيري من اكتشافها؛ لكن كل ذلك يتم دون انقلاب على سلطة النص (أو حاكميته).

ومحمد أبو القاسم حاج حمد هو مفكر سوداني ولد عام 1941 وعرف بنضاله السياسي ضد نظام عبود ودعمه للثوار في إريتريا. أصدر في عام 1979 عمله الأشهر العالمية الإسلامية الثانية أثناء إقامته في لبنان بعد تجربة وجدانية طويلة في ظل الحرب الأهلية اللبنانية، وهي التجربة التي دفعته لدراسة العلاقة بين الغيب والواقع.

استقبلت أطروحة العالمية باهتمام من قبل مؤسسات من بينها حركة الجهاد الإسلامي، فضلا عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي عمل حاج حمد كمستشار له، وأصدر في مطلع التسعينات كتابه الهام منهجية القرآن المعرفية. استمر نضال حاج حمد السياسي المثير للجدل في علاقته بإريتريا والإمارات والسودان جنبا إلى جنب مع أعماله الفكرية إلى أن توفي في السودان عام 2004، فرحمه الله.

يقدم التجديد اليوم كمهمة حضارية أو رسالة إنسانية، لكن حفرا أعمق وراء دوافع التجديد يكشف عن مأزق نفساني يعانيه المسلم اليوم مع دينه.

ففي ضوء ما يتلقاه من فهوم رسمية تراثية للدين، بل ما يتناوله مباشرة من النصوص الدينية، يجد المسلم نفسه أمام حشد من المقولات التي ترسخ شعورا بالاستلاب اللاهوتي للإنسان، بدءًا من مقاربة مفهوم العبودية لله بمعنى الاسترقاق الإنساني، مرورا بنفي قيمة إمكانات الإنسان العلمية والتقنية ومنجزه الحضاري، واحتقار المرأة والذمي فضلا عن غيره من المشركين، وترسيخ سلطة ولاة الأمور المفسدين، وتشريع الحدود الجسدية، ونفي حق الإنسان في البحث والتساؤل؛ كلها سلوب تصير معها «المذاهب الوضعية مع جزئيتها وقصورها تبدو أقرب إلى الإنسان المعاصر من منظومة تلك المفاهيم».

لكن كل محاولة للتجديد تبقى مسكونة بهاجس السلفية، مما يجعله دوما تجديدا شكليا؛ ليس فقط لأن التجديد نفسه يستبطن معنى إحياء الماضي، ولكن لأن افتراض تجاوز الماضي يتولد عنه نفسه تساؤلا أو مشكلا آخر: كيف يمكن أن نقول أن الإسلام لم يفهم على وجهه على مدى أربعة عشر قرنا حتى جاء اليوم من تفتق ذهنه عن ذلك؟!

الافتراض الممكن الباقي هو التخلص دفعة واحدة من هذا الماضي كله، عبر ما يعرف بالتاريخانية، سواء تاريخانية نصية تجعل النص الديني نفسه ابنا لبيئته، ومن ثم فاقدا لسلطته/حاكميته العابرة للزمن والممتدة إلى عصرنا، أو تاريخانية حداثية تقيم ما تسميه «قطيعة معرفية» مع كل ما كان سابقا على الحداثة، ولا تستبقي منه إلا ما تقبله تلك الحداثة. وفي كلتا الحالتين فإن ما سيبقى لن يكون قائما بذاته وإنما سيبقى كأثر متهدم نزوره لنستعمل بجماليته الفارغة من المضمون أو ليثير فينا نوستالجيا لذيذة.

يرفض حاج حمد التعامل مع القرآن كنص تاريخي ليس فقط من منطلق إيماني ولكن أيضا لعجز المناهج الوضعانية عن تفسير الظاهرة القرآنية ومضامين القرآن وبناه

يرفض أبو القاسم التعامل مع القرآن كنص تاريخي، ليس فقط من منطلق إيماني، ولكن أيضا لعجز المناهج الوضعانية عن تفسير الظاهرة القرآنية ومضامين القرآن وبناه، مما يعني ضرورة تواضعها أمامه، وإفساح المجال لمن يتعامل معه باعتباره نصا إلهيًا يتعالى على التاريخ.

ومن ثم فإن القطيعة المعرفية غير مقبولة بحسب هذا التصور «وذلك لأن ما بيننا وبين التراث (ثوابت الإسلام). فكما لا يختلف ابن رشد مع الغزالي على هذه الثوابت، كذلك نحن لا نختلف مع تلك الحقبة على مستوى الثوابت».

لكن القطيعة المعرفية تبقى مع ذلك مسوغة ما لم يكن لدى هذا النص ما يضيفه إلى المعرفة البشرية اليوم، فإذا لم يكن لديه ذلك فإن الإبقاء عليه لا يضيف سوى زينة/ديكور للبناء المعرفي الحديث القائم سلفا باستقلال عنه.

هنا تأتي أطروحة أبو القاسم التي تنطلق من سؤال «علاقة الغيب بالواقع». فبينما يقوم العلم المعاصر وفلسفته بتفسير الطبيعة تفسيرا عليا مغلقا تحتاج الظاهرة الطبيعية لفهم انسجامها وتطورها الخلّاق، الأمر الذي يستلزم إحالة للبعد الغيبي (الأمر والإرداة والمشيئة الإلهية) الذي يكوّن مع القانون الطبيعي والإرداة الإنسانية جدلية تصنع حركة التاريخ والواقع.

وبينما لم يكن الإنسان قد توصل بعد إلى تحليل الطبيعة والتاريخ لإدراك هذا البعد الغيبي الكامن فيها، كان التدخل الإلهي يتم بصورة مباشرة تستلب الحرية الإنسانية والقانون الطبيعي، وهو الأمر الذي يكشف عن نفسه في التجربة الموسوية. ففي التجربة الموسوية يستلب القانون الطبيعي في فرق البحر ونتق الجبل، وقد كانت قصة موسى عليه السلام في صغره وقصته مع العبد الصالح إرشادًا لإمكان التدخل الإلهي الجدلي دون استلاب القانون الطبيعي.

أما التجربة المحمدية فتمثل تجاوزا تاريخيا لا يعرف الخوارق الطبيعية ولا ينتهك المبدأ العلمي في اطراد القانون الطبيعي، بل يؤكد البعد الغيبي في حركة الواقع دون نفي لا لحرية الإرادة الإنسانية ولا للقانون الطبيعي. هذه الأفكار لا تمثل عصرنة مسقطة قسريا على النص حيث أنها على العكس قد تسهم في تطوير أجوبة جديدة على كثير من مسائل فلسفة العلوم.

إن هذه الأفكار تنتظر إنضاجها عبر البناء الفلسفي المحكم، لكن هذا لا ينفي إبداعيتها وعقلانيتها، وهو الأمر الذي انتقد على أبو القاسم حيث كثيرا ما تم تقديمه باعتباره عرفانيا يطلق تأملاته الخاصة في القرآن. ولكن إذا كان لدى أبو القاسم حقا تأملاته العرفانية، وهو أمر لم يزل يختلط عند كبار الفلاسفة بأطروحاتهم المنطقية الصارمة، فإن هذا كذلك لا ينفي عقلانية أطروحات حاج حمد وإمكان تأسيسها فلسفيا.

يرى حاج حمد أن القرآن يجعل من المفردة القرآنية مصطلحا لا يعرف الترادف أو الاشتراك اللفظي وهو الأمر الذي لقي دراسة كبيرة ونقدا من بين أطروحاته

لكن كيف كان يمكن الكشف عن تلك الرؤية القرآنية من رحم المنظور السلفي نفسه؟ إن نفي حاج حمد للسلفية ليس إدانة لها وإنما شعور بعدم جدواها اليوم. فالعربي عندما تناول القرآن لم تكن ثمة دوافع ضمن «الخصائص المعرفية لعصره» وضمن «تجربته الفكرية»، لتجاوز «المبنى اللفظي للقرآن»، ومن ثم كان الاعتماد على «القدوة والتطبيق النبوي» الذي يمثل خلاصات عملية للمنهج دون ضرورة استيعابه نظريا.

أما اليوم فمع «التغير النوعي» الذي مرت به المجتمعات، وما قدمته المعرفة المعاصرة من «محددات نظرية معرفية» فتحت إمكانات جديدة لتصوراتنا لمعاني النصوص، ففي مقابل الخلق المفاجئ نشأت مفاهيم التطور والتشيؤ، وفي مقابل مفهوم التعاقب نشأ مفهوم الصيرورة، وفي مقابل التدخل المباشر نشأ مفهوم الجدل.

الأمر إذن ليس «الفارق في قدرات الذكاء بيننا وبين أسلافنا، ولكن في اختلاف الشروط المعرفية الضابطة للإنتاج الفكري وقياساته». عبر هذه «المحددات المعرفية» الجديدة صار بالإمكان إعادة قراءة نصوص الاستلاب واستيعابها ضمن «منهجية معرفية قرآنية» تنفي ما فيها من استلاب لاهوتي للإنسان والطبيعة.

ولا يمكن أن يمر ذلك دون إشارة إلى نظرية أبو القاسم عن «التوظيف الإلهي للغة»، حيث يرى أبو القاسم أن القرآن يجعل من المفردة القرآنية مصطلحا لا يعرف الترادف أو الاشتراك اللفظي، وهو الأمر الذي لقي دراسة كبيرة ونقدا من بين أطروحات أبو القاسم، من بين تلك الانتقادات مقالة الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي: «كيف نفهم آراء صاحب العالمية الإسلامية الثانية؟».

لم يكن من الممكن استيعاب مشروع ضخم ومتداخل، يجمع بين قواعد نظرية وتطبيقات معرفية، ومثير للجدل، في مقال محدود، فكان المطلوب وحسب عرض الخطوط العريضة لمشروع أبو القاسم حاج حمد وأبعاد فرادته، تمهيدا للاطلاع على أعماله وبحثها.