يهدف هذا التحليل إلى التعاطي مع إشكالية محورية لابد وأن تكون سابقة على تناول أدوار ووظائف الفن بداخل علم السياسة، ألا وهي التأسيس الأكاديمي للفن داخل علم السياسة. وهى تلك الإشكالية المولدة لتتابع الإشكاليات الفرعية الأخرى الرافضة للتعاطي العلمي المنهاجي مع الفن، والاعتراف بإمكانات تأثيره التبادلي مع علم السياسة، وتجاوز دوره كأحد المنتجات المادية لخيال الفنان التشكيلي أو الأديب أو الروائي أو الشاعر بحسب المنتج الفني محل التناول، وإنكار لأحقية الفن في شغل مساحة للدراسة الجادة بداخل علم السياسة.

وعليه تهدف تلك الدراسة إلى التأصيل الأكاديمي للفن بداخل علم السياسة عبر تشريح إشكاليتين فرعيتين رئيسيتين: أولاهما، التأسيس لدور الفن كمستوى معرفي يُمكّن عالم السياسة من فهم وتحليل مستويات مختلفة من الظاهرة السياسية. وتتمثل الإشكالية الثانية في التأسيس لدور الفن على مستوى الحركة السياسية والنشاط السياسي، ببحث دور الفن في إحداث التغيير السياسي، سواء من خلال الإنتاج الإبداعي للفنون المختلفة، أو من خلال الدور الفاعل للفنانين كفاعلين سياسيين، ودور ذلك في إحداث التغيير السياسي.


أولًا: التأسيس لدور الفن كمستوى معرفي

عند التأسيس لدور الفن كمستوى معرفي قادر على منح الباحث في العلوم السياسية مساحة أكثر رحابة في التعاطي مع الظواهر السياسية وقدرة أكبر في امتلاك أدوات جديدة ومتنوعة تمكنه من فهم مستويات مختلفة من الظاهرة السياسية، وكذلك منحه تحليلًا أكثر عمقًا واستبصارًا وشمولًا لأبعاد مختلفة من الظاهرة؛ فإنه لابد هنا من إزاحة التصور النمطي الشائع عن الفنون باعتبارها محصلة الإنتاج المادي للخيال الواهم للمبدع، الفارغ من أي دلالات ومضامين فكرية.

بل هنا لا بد من الدفع بتأصيل جديد للفن باعتباره بالأساس «عملية فكرية» للمبدع، بل الإنسان، مستندة على ذلك المستوى المعرفي المانح لها. هنا التأصيل الأكاديمي للفن باعتبار الخيال ملكة فكرية من ملكات العقل، ومستوى من مستويات الإدراك التي تخلَق وتولَد الإبداع الفني، وليس باعتباره ذلك المرادف للوهم أو الزيف أو الخروج عن الواقع كما هو دارج.[1]

وعليه، فإن التعاطي مع الفن هو باعتباره عملية فكرية يؤسس لها الخيال. فنحن نتحدث عن الفن كخبرة إدراكية ووسيط معرفي تعمد إلى تأويل الظواهر من حولها، سياسية كانت أو اجتماعية، بواسطة الخيال، ومن ثم تخرج لنا بتوليد نوع من أنواع المعرفة ساهمت هي في كشفه والإفصاح عنه، بل وتشكيل إدراكه. ومن هنا تبرز أولى جوانب أزمة التأسيس الأكاديمي للفن، بالتغافل عن أهميته كعملية فكرية وكوسيط معرفي وخبرة إدراكية، وتسطيح التعامل معه بقصره في جوانب إنتاجه المادي دون النظر في مضامينه وتأويلاته.

تبرز كذلك ثاني جوانب الأزمة في «مسألة الانتقاء والتحديد The problem of Selection» لأي الأعمال من داخل الإنتاج الفني بإمكانها منح عالم السياسة رؤية وتحليل للظاهرة السياسية، بمعنى آخر كيفية اختيار الأعمال ذات الصلة بالعلوم السياسية في المحتوى والمضمون، فليس بالضرورة كل ما أنتجه الفن يناقش محتوى سياسيًا ويعالج مسائل سياسية تجد مكانها بداخل الدراسة الأكاديمية لعلم السياسة، وهنا تبرز مسألة هامة وهى الانتقاء لأعمال الفن التي اتخذت من ذاتها منبرًا لبحث مسائل السياسة أو الكشف عنها [2].

ويأتي عنصر التحديد لأيها يرتبط بعلم السياسة وأيها لا يجد لنفسه مكانًا، بالوقوف على المضامين السياسية التي تربط بين أنشطة الإبداع الفني ودراسة السياسة متخذة من الخيال مستوى معرفيًا كاشفًا تمنحه لدارسي السياسة، كما أنه ليس بالضرورة أن تأتي تلك المضامين سياسية في إجمالها وإنما من الممكن أن تحوي فقط عناصر سياسية معينة في جملة العمل الفني الإبداعي لكنها غاية في العمق والكشف والاستبصار.

تحضر مسألة التحديد والانتقاء كذلك بشكل مشابه في النشاط البحثي الأكاديمي كما في «دراسات الحالة Case Studies» حيث يكون إحداث التوازن ضرورة من ضرورات الانضباط العلمي المنهاجي بين ما هو نموذجي لموضوع الدراسة، لدرجة صارمة حد الجمود إن لم توازن من جانب آخر بين ما هو فريد مميز ملائم لطبيعة الدراسة وأهدافها وطبيعة مجرى البحث الذي يكاد يكون متغيرًا، بل هو كذلك بالفعل مع ازدياد عمق الدراسة وجديتها بحثًا وتحليلًا [3].

تأتي كذلك أهمية مسألة التحديد والانتقاء للأعمال الفنية الملائمة له في الدراسة والتحليل، حيث يلجأ الباحث لتلك الأعمال أو النصوص حمالة الأوجه ليدعها تتوالد لتكشف عن بنيان تتولد الحقيقية من داخله وتعلن الحقيقة عن نفسها وسط هذه العملية الحيوية من التفاعلات، وهي كذلك مشابهة لتلك المناهج التي تعتمد على الباحث كعامل رئيسي في تسيير عمليات البحث والتحليل ببناء المعاني وإضفاء التأويلات لما يستخدمه من نصوص ومصادر يخرج بها باستنتاجاته المميزة، مثال ذلك «النظرية البنيوية الاجتماعية Social Constructivism»، وكذلك «النظرية النقدية Critical Theory» التي يلعب فيها الباحث دورًا محوريًا بتأويلاته وتحليلاته وفهمه الخاص.[4]

تأتي صعوبة مسألة الانتقاء للأعمال الفنية كوسيلة لدراسة العلوم السياسية كونها عرضة لعدد من المخاوف والشكوك وبخاصة إن أردنا بها الدراسة المقارنة والتحليلية للمؤسسات ونظريات الحكومات، حيث تظل نتائج تلك الدراسات المعتمدة على الأعمال الفنية والنصوص الأدبية تخضع لتقييم المجتمع البحثي على مدى أهمية ما توصلت إليه من نتائج أو باعتراف المجتمع الأكاديمي به إن جاز التعبير، ومدى وقوفه على حقائق يمكن الاعتداد بها علميًا وأكاديميًا حيث يظل التشكك في وساطة صانع العمل الإبداعي سواء الأديب أو الفنان التشكيلي أو الشاعر، وليس عالم السياسة، بين الحقائق التي تتعلق بالظاهرة السياسية محل الدراسة وبين خياله الإبداعي الناقل لتلك الحقائق للقراء، وهنا نقصد الباحث السياسي.[5]

يبرز كذلك جانب آخر من أزمة التأسيس المعرفي للفن بالدراسة الأكاديمية للعلوم السياسية من عدم الوثوق في قابلية التحقق مما يقدمه الفن من إسهام معرفي وعلمي، والنظر إلى أن ما يمكن أن يقدم المتعة لا يمكن أن يقدم العلم والمعرفة، أو يسهم بأي شكل في الإضافة المعرفية لبنية العلم؛ إلا أن تلك القابلية للتحقق مما يقدمه الفن من إسهام يمكن اختبارها عبر تتبع نهج الكاتب ومهارته في تقديم إبداعه بشكل لا ينفصل عن الواقع بل يسعى لاكتشافه والتعبير عنه. فإن كان العمل الفني يأتي معبرًا عن مهارة وموهبة لا تستهدف الواقع بل تناقضه في إنتاجها، فهنا تأتي الاستجابة من القراء والباحث على السواء بتكذيبه. وإن اتفقت الخبرة المنقولة بداخل العمل الفني مع خبرة الواقع فيكون التصديق هو الاستجابة، كما يكون المجال هنا للباحث لاستخدامه كمادة لبحثه وتحليله.[6]


الخيال السياسي

إن التعاطي مع الفن هو باعتباره عملية فكرية يؤسس لها الخيال. فنحن نتحدث عن الفن كخبرة إدراكية ووسيط معرفي تعمد إلى تأويل الظواهر من حولها

يخلص الباحث «جيمس ديفيدسون» إلى خمس إشكاليات فيما يتعلق بالعلاقة بين الفن وما استند إليه من خيال، وبين دراسة علم السياسة؛ إلا أنه كان يعمد إلى التركيز على دراسة الخيال الأدبي وصلته بعلم السياسة. ولكننا نجد تلك الإشكاليات في جملتها قابلة للتعميم عند بحث إشكالية الفن والخيال كمستوى معرفي.

الفن كعمل خيالي ينير علم السياسة كما ينير الحياة بأكملها، وأن علم السياسة له أن ينهل من أي وسيلة يراها ممكنة لفهمه الحقيقة واستكشاف ما هو خافٍ

يدفع ديفيدسون بإشكالية أولى من جانب علم السياسية، وهي الإخلاص العقلاني لمصطلح «علم السياسة» مما يجعل هناك تشكك في أن تحمل الكتابة الإبداعية وأدب الخيال ما يمكن لعلم السياسة دراسته. وينتقل لإيضاح نقيض آخر، وهو ما يتعرض له علم السياسة من إكراه للتركيز على مناهج يُدَّعى كونها أكثر ضبطًا ومنهاجية إلا أنها تهمل الملاءمة لطبيعة الدراسة التي هي بالأساس دراسة في ظواهر إنسانية. وقد يأتي ذلك الإكراه بنتائج أكثر زيفًا وابتعادًا عن الحقيقة.

أما الإشكالية الثانية فتتمثل في كون الخيال وسيطًا معرفيًا يلعب دورًا حيويًا في تأسيس العلاقات والروابط المفاهيمية بداخل أكثر العلوم ضبطًا، وهي العلوم الطبيعية، ومن ثم يلعب دورًا أكثر اتساعًا في العلوم الإنسانية، ولاسيما السياسية، حيث تحفل بالعديد من الدراسات التي يصعب بل يستحيل فيها التحقق التجريبي.

وتتمثل الإشكالية الثالثة في تشديده كذلك على وجوب الحذر أثناء انتقاء علم السياسة لإنتاج الفنون التي ينهل منها رؤيته، كما يؤكد أهمية التعامل الحذر مع المعالجات الخيالية لأنها حمالة أوجه بطبيعتها، وهذا ما يحمل جوانب مزدوجة في التعاطي معها. إلا أنه رغم ذلك، يشير لكون المخادعة متوافرة كذلك في النماذج النظرية العلمية التي لا بد للباحث أن ينتقيها وبحذر، كما أنه يشير لما يمنحه ذلك للباحث من حذر وحيرة وارتباك، حيث يذهب إلى أهمية ذلك للباحث، حيث يدفعه لدفقات تأويلية أكثر رحابة وأكثر مرونة وتعاليًا مما ينعكس على جودة تحليله وتفرد نتائجه.

يبرز الباحث إشكالية رابعة، وهي أهمية تحديد موقفنا من الخيال عند التعاطي معه أكاديميًا ومعرفيًا، حيث يتم التعامل معه كخادم ووسيط معرفي أو مساعد ومدعم في عمليات التدريس والتعلم كخبرة إدراكية؛ إلا أنه لا يمكن بأي شكل أن يصبح صانعًا للاستنتاجات النهائية في العملية البحثية، بل يصبح وسيلة ترشيحية لاحتمالات البحث والتحليل.

يشير الباحث للإشكالية الخامسة والأخيرة، وهي كون الفن كعمل خيالي ينير علم السياسة كما ينير الحياة بأكملها، وأن علم السياسة له أن ينهل من أي وسيلة يراها ممكنة لفهمه الحقيقة واستكشاف ما هو خافٍ طالما ظل مراعيًا لاعتبارات العلم والمهنية والمصداقية [7].


[1] Michelis, M.(2013). Art as a Thinking Process. In Mara Ambrožicˇ & Angela Vettese. (Eds.) Università Iuav di Venezia: Sternberg Press.Pp 68-75.

[2] James, F. (1961). Political Science and Political Fiction. The American Political Science Review, Vol. 55, No. 4, PP 859-860. Retrieved from: http://www.jstor.org/stable/1952532

[3] Ibid.

[4] Ibid. John, W. (2007). Qualitative Inquiry & Research Design: Choosing among Five Approaches. U.S: Sage Publications, PP20-21, PP 27-28.

[5] James, F.. Ibid.

[6] Ibid.

[7] Ibid, P860.