في سلسلة من أعماله مثل «المواطن 1642» و«اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة 1651»،أوضح توماس هوبز أن طبيعتنا البشرية تجعل من الحياة أمرًا يصعب احتماله خارج نطاق الدولة السياسية. جاء ردّ جان جاك روسو، بعد قرنٍ كامل من خلال «بحث في منشأ وأسس عدم المساواة» (1755) و«العقد الاجتماعي» (1762)، على زعم هوبز معلنًا أن طبيعة البشر جيدة في أساسها، وأن بإمكاننا أن نعيش حياة سالمة وسعيدة بدون تدخل أو وجود الدولة السياسية. من النظرة الأولى، يتضح أن هوبز وروسو قطبان متعارضان في الإجابة على أحد أهم الأسئلة القديمة حول الطبيعة البشرية: ما الذي طُبِعنا عليه، شر أم خير؟ إلا أن إجابة كلا الفيلسوفين تحمل تعقيدًا واتصالًا بالحاضر أكثر مما توحي به. فما الذي يمكن أن نجنيه من العودة إلى هذا النقاش الفلسفي العتيق؟ وما علاقته بكيفية تقييمنا للعالم السياسي الذي نعيش فيه الآن؟يبدو السؤال حول ما إذا كانت طبيعة البشر جيدة أم شريرة كـ «ديجافو» (Deja vu) متكرر (الديجافو هو شعور الإنسان بأنه عاش الموقف نفسه من قبل). في النهاية، البشر مخلوقات معقدة تقدر على فعل الخير والشر. لكن ما رآه هوبز وروسو كلاهما يختلف عن هذه الإجابة السهلة؛ وهو أن أحكامنا حول المجتمعات التي نعيش فيها تتشكل بصورة كبيرة من خلال رؤيتنا للطبيعة البشرية وللإمكانيات السياسية التي ترتبط بهذه الرؤية.حاول الكاتب روبن دوجلاس في كتابه «روسو وهوبز: الطبيعة، الإرادة الحرة، والعواطف» الذي نشر في عام 2015، أن يشرح ما اختلف فيه الفيلسوفان، وكيف أصبحت سياسات المجتمعات الحديثة نقطة التقائهما معًا.وفقًا لدوجلاس، فإن هوبز لا يعتقد أننا مطبوعون على الشر على عكس ما يتردد عنه، وإنما وجهة نظره هي أننا لسنا مصمَّمين للعيش معًا في مجتمعات كبيرة سياسية. بمعنى أننا لسنا حيوانات سياسية طبيعيًا مثل النحل أو النمل مثلًا الذين يتعاونون غريزيًا معًا من أجل الصالح العام. على الجانب الآخر، نحن أكثر اهتمامًا بأنفسنا، ونبحث عن مصحلتنا أولًا وقبل كل شيءٍ آخر. كما أن محاولاتنا للوصول لمكانة اجتماعية أعلى تدفعنا إلى الصراع المستمر.يجادل هوبز أننا إذا أردنا العيش معًا بسلام، علينا أولًا أن نسلم أنفسنا إلى مؤسسة موثوقة تقدر على سنّ القوانين وحل النزاعات. وقد كانت الطريقة الوحيدة لمنع القتل الحر التي تسببها الحالة الأصلية للإنسان هي تأسيس دولة ذات سيادة والعيش بموجب القوانين المسنونة. وفي هذه الحالة المدنية، يقدم الجميع حريتهم قرابين لإنهاء حالة العنف واردة الحدوث. وبما أن هذه السيادة تحفظ السلام فلا يجب علينا أن نُسائله أو نتحدى شرعيته، لأن هذا من شأنه أن يعود بنا إلى طبيعتنا البشرية وأن نتصرف من تلقاء أنفسنا. وبحد رأيه، فإن هذا هو أسوأ مكان محتمل يمكن أن نجد أنفسنا فيه. كما يرى أنه ليس من المهم أن نتفق شخصيًا مع قرارات السيادة، لأنه لا بد من وجود مجالٍ للاختلاف. وإن كانت قناعاتنا الدينية أو السياسية أكثر أهمية بالنسبة لنا من التعايش السلمي، فإن مرجعياتنا هي المشكلة الأساسية وليست الحل. عايش هوبز أهوال الحرب الأهلية الإنجليزية ولمسها، ويرى أنها هي الحالة الأكثر توضيحًا لنتائج طبيعتنا البشرية. من يقرأ هوبز عادةً ما يميل إلى رفض أفكاره واصفًا إياها بالظلمة والتعسف، لكن هناك احتمالًا آخر، وهو أن هذا الوصف يشرح قائليه أكثر مما يشرح هوبز نفسه. زعم هوبز أن السلام الدائم هو مجرد إنجاز هشّ، وهو الأمر الذي ننساه دومًا، نحن المحظوظين بشكلٍ كافٍ لأننا لم نتذوق مرارة الحرب. لكن صلة هوبز بحاضرنا ما زالت قائمة، لأن الجزء الأكبر من تاريخنا البشري ممزق بالحروب، كما أن هناك كثيرين ما زالوا يختبرون الصراعات والحروب.


الطبيعة أم عدم المساواة؟

حتى لو كان هوبز قد نجح في وصف ما تأتي به الحروب الأهلية من هلاك ودمار، فهل وُفّق في كشف حقيقة الطبيعة البشرية من خلال وصفه للحرب؟يرفض روسو ذلك رفضًا قاطعًا، بل إنه يتهم هوبز بأنه ثبّت ما رآه وعايشه في فترةٍ مظلمة في تاريخ العالم وعمّمه على كل المجتمعات وكل العصور، حيث صارت خبرته الخاصة والتاريخية هي نفسها رؤيته الخالدة للطبيعة البشرية. إن نقد روسو لهوبز يتمحور حول تغير الوقت والظروف وتغيرنا معه، وحتى لو كنا الآن مخلوقات ذاتية وتنافسية فإننا لم نكن هكذا دائمًا. وفقًا لتحليل هوبز، فإن وجود حكم سياسي موثوق هو الحل للمشاكل التي تتسبب بها طبيعتنا والتي تغلب عليها النفعية والتنافسية. لم ينفِ روسو ذلك وإنما تناوله من جانبٍ آخر، حيث جادل بأننا أصبحنا هكذا نتيجةً للطريقة التي تطورت بها المجتمعات الحديثة. عرض روسو مجتمعات ما قبل الزراعة كمثال على ذلك، والتي أوضح من خلالها أنه يمكن للبشر أن يعيشوا حياة مسالمة حيث تربطهم علاقات مودة تطغى على الرغبات التنافسية والأنانية.بالنسبة لروسو، بدأ كل شيء في الخروج عن مساره الصحيح بمجرد إتقان البشر لفنون الزراعة والصناعة، مما ترتب عليه وجود الملكيات الخاصة والاعتمادية الاقتصادية المتبادلة وعدم المساواة. والانقسام الاجتماعي وليد عدم المساواة، حيث إن العلاقات التي جمّعت أعضاء المجتمعات الواحدة ذات يوم، أذابتها عدم المساواة واستبدلتها بمنافسة عمياء من أجل المكانة والسيطرة. من أهم أسباب روسو للاعتقاد بأن طبيعتنا خيّرة، أن المؤسسات السياسية والاجتماعية هي من تصقل الشرّ فينا. كما آمن أنه ما إن فسدت طبيعتنا فإن فرصنا في الخلاص والتطهر ضئيلة جدًا. في أيامه، لم يكن أمله كبيرًا في أكثر دول أوروبا المتقدمة تجاريًا، وعلى الرغم من أنه لم يشهد بداية الرأسمالية الصناعية، إلا أنها أكدت أسوأ مخاوفه حول عدم المساواة.


التقاء الأضداد

الأمر الأغرب في تحليل روسو هو أنه يرفض فكرة هوبز حول الطبيعة البشرية، إلا أنه يرى أن المجتمع الحديث انعكاس لما خشيه هوبز ولم تعد هناك نقطة عودة. هذا يغيّر من السرد المعتاد للفيلسوفين، حيث من المفترض أن يكون هوبز هو المتشائم وروسو المتفائل، إلا أن الوضع قد تبدّل فيما يخص تقييمهم للسياسة الحديثة وتأثيرها. عند التفكير في الأمر، لو رأيت أن الحياة الحديثة مليئة بالمصالح الشخصية والتنافس الأعمى فعليك أن تتساءل كيف استطاعت هذه المخلوقات الأنانية أن تكوّن مجتمعات مسالمة في أوقات ما. ولكن إن كنت تعتقد أن هنالك جانبًا لطيفًا للطبيعة البشرية وأننا مطبوعون على الخير، فربما عليك أن تسأل نفسك: من أين جاءت كل الأخطاء الحادثة الآن؟ رأى هوبز مجتمعاتٍ قسّمتها الحرب وحاول تقديم حل آمن، وما رآه روسو هو مجتمعات قُسّمت أيضًا ولكن على يد عدم المساواة وتنبأ بهلاكها تمامًا.ما زالت رؤى هوبز وروسو موجودة حتى الآن، وما زالت المجتمعات ممزقة لأسباب متعددة. هل حوّلتنا الرأسمالية إلى أعداء في صراع لا ينتهي من أجل ربح أكثر ومكانةٍ أعلى، أم أنها اكتشفت طريقة جيدة نسبيًا لتنظيم علاقات ملايين الأشخاص واحتياجاتهم دول أن يحدث صراع؟ تختلف إجابة كل واحدٍ باختلاف رؤيته للبدائل المتاحة ومدى صلاحيتها، وفكرة الواحد عن البدائل تستند إلى افتراضات شخصية حول الطبيعة البشرية وما إذا كنا جيدين أم أشرارًا أصلًا. بمعنى؛ هل من الأفضل أن نبني مجتمعات تحكمها جوانب طبيعتنا الجيدة مثل التعاطف والتضامن والكرم؟ أو ما إذا كان الحل يكمن في إيجاد طرقٍ أخرى لتحويل رغباتنا الشريرة والأنانية إلى نظامٍ سياسي يقدم حلًا مؤقتًا؟ وحتى لو كانت طبيعتنا فعلًا جيدة، فهل يمكن أن نظل كذلك في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحديثة؟ وفقًا لروسو المتفائل، فإن الإجابة قد تدفعنا لليأس والخيبة وقلة الحيلة.