مازالت معاناة ارتفاع الأسعار مستمرة بعد أن أرهقت كاهل الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل على السواء، جراء تعويم الجنيه المصري في 3 نوفمبر من العام الماضي. وبعد ثلاثة شهور على التعويم (الكبير) بدأ الجنيه المصري في تعافٍ أشار إليه البعض بالتعافي القوي بعد أن ارتفع الجنيه المصري بمقدار 14% منذ مطلع شهر فبراير الجاري.

غير أن أزمة الدولار مازالت تسيطر على السوق الحقيقي، إذ أثر تعويم الجنيه على ارتفاع الأسعار بمقدار مضاعف حتى أصبحت السلع الأساسية، كالزيوت النباتية والسكر والأرز والعدس وغيرها من سلع الفقراء، في منأى عن الطبقة منخفضة الدخل والمتوسطة على السواء، وأضحت مشكلة الأسعار معضلة رئيسية تواجه ملايين الأسر المصرية.

ويثار تساؤل رئيسي حول ما ستشهده الأيام القادمة من تحسن في مستوى الأسعار وعودتها إلى سابق عهدها. ولكن الأجدى التساؤل حول مدى قدرة الجنيه المصري على الصمود أمام العملات الأجنبية، وبالأخص الدولار، وهل هذا الارتفاع في قيمة الجنيه المصري حقيقي أم سرعان ما سيزول؟


ضغوط تضخمية

شهدت الفترة التالية على تحرير سعر الصرف تضافر عدد من العوامل التي أدت إلى ارتفاعات متتالية في معدل التضخم، كان أهمها سلة من الارتفاعات الضريبية، كضريبة القيمة المضافة، فضلا على الضرائب الجمركية على نحو 400 سلعة مستوردة، وتقليص الدعم على المحروقات جنبا إلى جنب مع تخفيض العملة المحلية. فتعويم العملة وما صاحبها من ظروف دفعت معدل التضخم إلى أرقام قياسية في بلد يعيش الملايين من سكانه على خط الفقر، فقد ارتفع معدل التضخم إلى 20% في شهر نوفمبر 2016، شهر تعويم العملة، ثم ارتفع إلى نحو 24% في ديسمبر الماضي، وأخيرا سجل مستوى قياسيا جديدا بعد أن وصل إلى 29.6% في شهر يناير 2017.

لا شك أن المستهلك هو المتضرر الأول جراء خطة التقشف التي اتبعتها الحكومة، في محاولة منها للإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، ورغم قسوة إجراءات التقشف الحكومية فإن شركات الصناعات التحويلية المحلية وشركات التصدير قد انتعش نشاطها.

وحقيقة الأمر أن اتساع العجز التجاري بين الصادرات والواردات أحد العوامل الكبيرة التي ساهمت في الضغط على الجنيه المصري، إذ بلغت هذه الفجوة نحو 42.6 مليار دولار في عام 2016. فالاقتصاد المصري في حاجة مستمرة للعملة الأجنبية من أجل تأمين الواردات السلعية الغذائية وواردات المحروقات، بعد تحول مصر إلى مستورد صافٍ للغذاء والمواد النفطية.


الجنيه المصري إلى أين؟

وهنا نصل إلى تساؤل مهم مفاده ما هي مقومات صمود الجنيه المصري في سوق النقد الأجنبي؟ لا شك أن تحرير الجنيه المصري تبعه قفزة كبيرة للدولار أمام الجنيه المصري أو ما يعرف بـ Over Shooting، أي ارتفاع سعر الدولار فوق السعر العادل، وذلك وفق تقديرات عدد من المنظمات الدولية، منها بعثة صندوق النقد الدولي.

ومن المؤكد أن تدفق النقد الأجنبي إلى الجهاز المصرفي بعد تعويم الجنيه يقف خلف تحسن قيمة الجنيه المصري. فقد اختفت السوق السوداء لتجارة العملة، علاوة على حصول مصر على الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي، وكذلك اكتساب مصر ثقة المستثمر الأجنبي للاستثمار في سندات الدين الحكومي، إذ نجحت مصر في طرح سندات دولارية تعادل نحو 4 مليارات دولار أسهمت في تعزيز الاحتياطي من النقد الأجنبي.

وهذا أعطى السوق إشارات إيجابية ما ساهم في التخفيف من حدة القفزة الهائلة للجنيه المصري وخلق تخوفا لدى صغار المضاربين ودفعهم للتوجه للبنوك لاستبدال العملة التي في حوزتهم خوفا من مزيد من الانخفاض، وبذلك ارتفع المعروض الدولاري لدى الجهاز المصرفي في الوقت الذي شهد فيه الطلب الكلي، السلعي، تراجعا نسبيا لارتفاع معدل التضخم مما قلل الطلب على الدولار لدواعي الاستيراد.

وهنا نرصد ملاحظة مهمة تتمثل في أن توسع البنك المركزي في الاعتماد على أدوات الدين لرفع الاحتياطي النقدي قد يعمق من أزمات الاقتصاد المصري، فطرح السندات الدولارية الدولية بمعدل عائد مرتفع يعكس ارتفاع مخاطرها كأدوات للدين. ناهيك عن أن إثقال الاقتصاد بالديون يعرقل من حركة التنمية ويكبد الموازنة العامة خسائر بالغة، إذ خصص نحو 298 مليار جنيه فوائد دين في الموزانة الجاري تنفيذها لعام 2017-2018.

ويرتهن الاستقرار في سعر صرف الجنيه المصري، في الأجل المتوسط والطويل، على تحسن المدخول الدولاري من خلال عدد من العوامل المهمة، يأتي في مقدمتها تضييق الفجوة بين الاستيراد والتصدير، والذي بلغ نحو 42 مليار دولار، وقد يحسن من هذا فرض عدد من القيود على الاستيراد كالضرائب الجمركية، ولكنه لن يفي بالغرض. ثانيها تنشيط قطاع التجارة الخارجية وزيادة الصادرات السلعية وبالأخص الزراعية، وتنشيط حركة التصنيع المحلية. ثالثها تنشيط قنوات النقد الأجنبي وإنشاء أوعية ادخارية مناسبة لجذب تحويلات العاملين في الخارج، علاوة على إفراد مساحة كافية لتنشيط قطاع السياحة، وإعادة التفاوض مع السياحة الأوروبية الغنية.


هل ستعاود الأسعار الانخفاض مجددا؟

لا شك أن هناك عددا من السلع ذات الارتباط الوثيق بالدولار، والتي شهدت تحسنا ملحوظا، إذ انعكس تراجع سعر الدولار بشكل إيجابي على أسعارها، حيث شهدت بعض المنتجات المرتبطة ارتباطا وثيقا بأسعار العملة الأمريكية كالذهب والسيارات انخفاضا ملحوظا. وهناك عدد من السلع التي تراجعت أسعارها أيضا، ولكن يبقى الركود وتراجع الطلب عليها أحد الأسباب الدافعة لتراجع أسعارها كحديد التسليح ومواد البناء والأجهزة المنزلة.

وبالإشارة إلى خفض وزارة المالية للدولار الجمركي من 18.5 لكل دولار لنحو 16 جنيه، أي بنحو 2.5جنيه، حتى نهاية نوفمبر الجاري، ويعرف الدولار الجمركي بأنه هو ما يدفعه المستورد من رسوم بالعملة المحلية بما يوازي الرسوم الدولارية المفروضة عليه نظير الإفراج عن البضاعة المستوردة والمحتجزة في الجمارك. ويعد انخفاض الدولار الجمركي من العوامل التي ستخفض جزئيا من أسعار السلع المستوردة المطروحة بالسوق المحلي.

وتبقي نقطة غاية في الأهمية قد تشكل عامل ضغط على ارتفاع الأسعار مستقبلا متمثلة في الإقبال الكثيف على تغيير الدولار في البنوك المصرية، بعد أن كانت بمثابة مخزن للقيمة لعدد من المواطنين، وهذا سيزيد من حجم السيولة النقدية بالجنيه المصري خارج الجهاز المصرفي، وبالتأكيد جزء كبير من هذه الأموال ستوجه إلى الإنفاق الحقيقي على السلع، وبالأخص السلع المعمرة وكذلك الخدمات، وإن لم يقابل تلك الزيادة على الطلب زيادة مماثلة في المعروض السلعي فسيفضي إلى مزيد من الضغوط التضخمية، علاوة على أن تراجع الأسعار سيتطلب المزيد من الوقت، خاصة أن المخزون السلعي لدى التجار مازال بسعر مرتفع لارتفاع سعر الدولار عند شراء هذا المخزون.


إجراءات عاجلة

يضع عدد من المراقبين للوضع الاقتصادي المصري نصب أعينهم التخوف من الوقوع في شرك الركود التضخمي، أي أن هناك ارتفاعا في الأسعار يقابله تراجع في الطلب السلعي، وسينعكس هذا بالطبع على معدل النمو الاقتصادي المتراجع بالفعل. لذا هناك عدد من الإجراءات المطلوبة للسيطرة على التضخم من جهة وتنشيط الاقتصاد المصري من جهة أخرى خلال الفترة المقبلة.

أولا: مع قرب حلول شهر رمضان المبارك هناك حاجة ملحة لتوفير السلع الرئيسية الأساسية واللحوم التي تشهد ارتفاعا كبيرا مع قرب شهر رمضان. لذا يتعين ضخ مزيد من السلع الغذائية بالمجمعات الاستهلاكية، فضلا على الحاجة للتوسع في إنشاء سلاسل تجارية بالتعاون مع قطاع الأعمال العام لتوفير السلع الغذائية بجميع المحافظات.

ثانيا: هناك تكهنات برفع أسعار الكهرباء في شهر يوليو، وهنا نحذر من هذا الإجراء فارتفاع الأسعار، المرتفعة فعلا في الوقت الراهن سيزيد الضغط على المزاج العام المصري السلبي. في ظل تدني الأجور، وهناك حاجة ماسة لدور منظم من الدولة للعاملين بالقطاع الخاص الذين يعانون من تدني الأجور.

ثالثا: تشجيع وتوجيه الصناع المحليين لعدد من السلع الأساسية لإنتاجها محليا واتباع إستراتجية التصنيع للاستهلاك المحلي والتصدير، فالوقت الراهن الذي يشهد ارتفاعا ملحوظا لأسعار السلع المستوردة قد يمكن الشركات المتوسطة وبالأخص الغذائية وصناعة الأجهزة المنزلية من الانتعاش، ومن المؤكد أن السوق المصري أصبح أكثر تنافسيا بعد تعويم الجنيه، وهذا سيفتح أعين الكثير من المستوردين الأجانب للنظر إلى مصر مجددا، حيث يمكنهم عقد صفقات أكثر تنافسية.

رابعا: التعجيل من إصدار قانون الاستثمار بما يتواكب مع متطلبات المستثمر الأجنبي وتقديم تسهيلات لجذب الاستثمار الأجنبي للصناعات كبيرة الحجم وبالأخص صناعة السيارات، واستغلال النشاط غير العادي للقطاع الاستخراجي وقطاع النفط ليلعب دورا حيويا في النمو الاقتصادي بعد اكتشافات حقول البترول والغاز بشكل كبير بعد زيادة الاستثمار في هذا القطاع الحيوي.

خامسا: إعطاء أولوية لتنمية القطاع الزراعي، ويتعين على الدولة العمل على تحسين قطاع الزارعة والبحوث الزراعية ودعم الزراعة والإرشاد الزراعي، وتشجيع الاستثمار الخاص في قطاع الزراعة، علاوة على إعلان سعر توريد المحاصيل قبل بدء الموسم الزراعي لتشجيع المزارعين لزراعة المحاصيل الأساسية، لزيادة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي بعد أن أصبح يساهم فقط بنحو 11.5% بدلا من 16% في عام 2000.

سادسا: التخفيف من آثار الضغوط التضخمية واتخاذ إجراءات حمائية، فمد شبكة الحماية الاجتماعية أصبح حتمياً بخاصة توسيع مظلة برنامجي تكافل وكرامة بالتعاون مع البنك الدولي للتخفيف من حدة الفقر، والمراقب للوضع سيجد أن التحويلات الاجتماعية خلال هاتين القناتين قد ساهمتا في رضاء المستفيدين منهما، وهذا قد يعد بارقة أمل من أجل التوسع في برامج الدعم النقدي على غرار «حساب المواطن» الذي تتبعه السعودية للتحول للدعم النقدي. وكذلك تفعيل دور جهاز حماية المستهلك، وإصدار أسعار استرشادية للسلع الغذائية.