لقد هبط النسر.

جملة شهيرة قالها «نيل أرمسترونج» إبان هبوط الرحلة أبولو 11 على سطح القمر منذ خمسين عاماً اليوم؛ فكل عام وأنتم بخير بمناسبة هذا الحدث الفضائي الأول من نوعه، وأرجو لكم أجواءً احتفالية رائعة أينما كنتم؛ أقترح عليكم مشاهدة الفيلم الوثائقي الجديد الذي يؤرخ أحداث الرحلة أبولو 11.

لقد جاء حدث الهبوط على سطح القمر كالصاعقة على العالم أجمع. فشخصياً، كُنتُ لأطير فرحاً وانبهاراً لو كُنتُ أشهد هذه الأحداث بنفسي. فهبوط الإنسان على القمر غَيَّر الكثير من وجهات نظر العامة في أمور مثل تدريس العلوم وميزانية الاستكشاف والبحث العلمي. كما أعطى الهبوط على القمر نوعاً من أنواع النشوة والانتصار لرغبة البشر الداخلية في الاستكشاف والتحليق بعيداً.

ولكن، إن كنتم في عام 1969 تشاهدون هبوط نيل على القمر، كنتم لتتوقعوا أنه بعد 50 عاماً ستخطو قدم البشر على جميع الكواكب الصلبة (ربما ليس على كوكب الزهرة على أي حال) في المجموعة الشمسية.

على الصعيد الآخر، ليس هذا ما حدث على أرض الواقع كما نعلم. فبعد الهبوط على القمر، أُعلِن ضمنياً أن أمريكا فازت في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، وبهذا الفوز استكفت الولايات المتحدة وتناست أمر إرسال البشر من جديد إلى القمر أو أبعد.

ولكن ولله الحمد، تتبدل القلوب وتتغير الأحوال ويتذكر الإنسان حلاوة النشوة ولذة التحليق خارج غلاف الكرة الأرضية والهبوط على الكواكب الأخرى، فتعلن ناسا عن برنامج جديد يؤهل البشرية للهبوط على المريخ، البرنامج هو Explore Moon to Mars الذي يُتَرجم إلى: «اكتشف من القمر إلى المريخ»

إعلان ناسا لبرنامج اكتشف من القمر إلى المريخ:


من القمر إلى المريخ

الذهاب إلى القمر للمرة الثانية لن يكون عشوائياً كالمرة الأولى، فلقد وضعت ناسا جدولاً زمنياً مفصلاً بدءاً من الآن وحتى العِقد الثالث من القرن الحالي، ولكن قبل الحديث على هذا الجدول الزمني المكثف، دعونا نتحدث أكثر عن أهداف البرنامج المختلفة.

اسم هذا البرنامج يدل على أهدافه، فهو يضرب عصفورين بحجرٍ واحد؛ فالهدف المبدئي هو هبوط البشر على القمر مرة أخرى والهدف النهائي هو هبوط البشر على المريخ. وفي الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف يتم تحصيل إنجازات عظيمة تمهد لنا الطريق.

وأول سؤال يتبادر إلى الأذهان هو «كيف سيتم إرسال البشر إلى القمر أو المريخ؟» «هل صواريخنا الحالية لديها القدرة على ذلك؟»

فلك، فضاء، ناسا، القمر، المريخ، العودة للقمر
صورة تخيلية لمركبة Orion وهي تدور حول القمر

ولإرسال البشر إلى القمر أو المريخ تقوم ناسا ببناء مركبة فضائية خاصة سمتها «أوريون – Orion»، نسبة إلى المجموعة النجمية Orion أو الجبّار. المركبة أوريون مصممة لكي تحمل 4 رواد الفضاء إلى القمر أو إلى المريخ، ونقلاً عن ناسا، فإن أوريون مجهزة بحيث تحافظ على سلامة رواد الفضاء بالرغم من بعدهم عن الأرض بآلاف الكيلومترات. ولكن الادعاء وحده لا يكفي، فمن المقرر إطلاق أوريون بدون رواد فضاء في عام 2020 في مهمة سُميت «مهمة الاستكشاف 1 – Exploration Mission 1»، التي ستجوب فيها أوريون إلى ما وراء القمر لمدة 3 أسابيع ليتم اختبارها في البيئة النهائية لها والتأكد من عملها وسلامتها.

فلك، فضاء، ناسا، القمر، المريخ، العودة للقمر
رسم توضيحي يعبر عن المسافة التي ستصل إليها المركبة الفضائية Orion خلال مهمة الاستكشاف 1 مقارنة بمسار دوران القمر ومحطة الفضاء الدولية حول الأرض.

مركبة خاصة، صاروخ خاص

حيث إن المركبة الفضائية «أوريون» مركبة ذات طابع خاص في أنها لن تقوم بنقل المعدات العلمية والقطع الإلكترونية فحسب، ولكن سيكون على متنها 4 من خير رواد الفضاء، تطلب هذا نوعاً خاصاً أيضاً من الصواريخ، وهي ما يُسمي بنظام الإطلاق الفضائي Space Launch System أو SLS اختصاراً. هذا الاسم العملاق يليق بضخامة الصاروخ الذي يصل طوله إلى ما يقرب من 100 متر، ووزنه إلى ما يقرب من 2500 طن!

فلك، فضاء، ناسا، القمر، المريخ، العودة للقمر
صورة لنظام الإطلاق الفضائي Space Launch System SLS

نظام الإطلاق الفضائي هو الصاروخ الوحيد الذي صُمِّمَ لكي يحمل رواد الفضاء في مركبة فضائية جنباً إلى جنب مع الحمولة الفضائية في نفس المهمة. فلقد قُدِّر الوزن الذي يمكن أن يتحمله نظام الإطلاق الفضائي بأكثر من 25 طناً في التصميم المبدئي له، ويُقَدَّر أن يصل إلى ما يقرب من 40 طناً في التصميم النهائي.

بناء صاروخ قوي وضخم مثل نظام الإطلاق الفضائي SLS يفتح آفاقاً جديدة تماماً، خصوصاً في مجال الحمولات الفضائية، فمن المرتقب أيضاً أن يتم تعديل الـ SLS لكي يحمل الحمولات الإكترونية والمهمات العلمية غير المأهولة إلى المشتري أو زحل.


محطة توقف في منتصف الطريق

الإنجاز الثالث الذي ستحققه ناسا وشركاءها من وكالات الفضاء العالمية ضمن العمل على الذهاب إلى القمر والمريخ هو ما يسمى بالـ Gateway أو ما يُتَرجم إلى العربية ب «البوابة».

البوابة عبارة عن سفينة فضائية، لا تشبه كثيراً نظيراتها في أفلام الخيال العلمي، ولكن الغرض واحد، وهو أن تكون بيتاً مؤقتاً لرواد الفضاء؛ فكما أن محطة الفضاء الدولية ISS هي منزل لرواد الفضاء في كل ما يتعلق بالتجارب العلمية والاستكشافات في حدود المسارات المدارية المنخفضة Low Earth Orbit، فالبوابة ستكون منزلاً لرواد الفضاء في كل ما يتعلق بالتجارب العلمية والاستكشافات على سطح القمر.

إن كان من الصعب عليكم تخيل فكرة البوابة Gateway، فدعونا نفكر بها على أنها بمثابة محطة التوقف التي يستريح بها المسافرون بعد طريق سفر طويل ويعيدون ملء خزان وقودهم استعداداً لما تبقى من طريق السفر. كذلك، سيستطيع رواد الفضاء التوقف عند البوابة Gateway بعد طريق سفر من سطح الأرض إلى سطح البوابة Gateway امتد لخمسةِ أيامٍ ليتم إمدادهم بما يحتاجونه من مؤن قبل تكملة طريق السفر إلى القمر أو إلى المريخ.

صورة توضح الأجزاء المختلفة للبوابة Gateway وإسهامات مختلف الدول في كل جزء منها

انطلاقاً من شعار البرنامج وهو «نحن ماضون قدماً نحو القمر لنبقى» نرى أن البقاء على القمر هو أحد الأهداف الرئيسية، ولهذا صُممت البوابة Gateway بحيث توفر الاستدامة، وإعادة الاستخدام للمسابر التي تهبط على سطح القمر.


العد التنازلي

الجدول الزمني الفعلي لبرنامج «اكتشف القمر إلى المريخ» يبدأ في نهاية هذا العام. فمن المقرر إرسال تجارب ومعدات علمية إلى سطح القمر على متن مسابر تجارية أمريكية وقد وقع الاختيار على اثنتي عشرة أداة علمية منهم: محلل أطياف يقيس كمية الإشعاع على سطح القمر، محلل أطياف يحلل مكونات سطح القمر باستخدام الأشعة تحت الحمراء، جهاز لقياس المجال المغناطيسي لدى القمر، وغيرها.

في 2020 وحتى 2022 ستنطلق مهمتا الاستكشاف 1 و 2 لاختبار وضمان عمل مركبة أوريون Orion وصاروخ نظام الإطلاق الفضائي SLS.

بنهاية 2022 سيتم إرسال محرك الدفع الخاص بالبوابة Gateway إلى الفضاء ليتم اختباره في البيئة النهائية له، وأخيراً بحلول 2024 سيتم إرسال البشر إلى القمر مجدداً، ولا داعي للقول إن هذا سيكون حدثاً غير هين، خاصةً أننا سنُمنَح الفرصة بأن نرى أول سيدة تضع قدماً تلو الأخرى على سطح القمر.

تغريدة يتحدث فيها مدير وكالة ناسا عن أن برنامج «اكتشف القمر إلى المريخ»؛ سيمنح الفرصة للجيل الجديد من الفتيات لرؤية أنفسهن بشكلٍ مختلف تمامًا عمّا اعتدن عليه من قبل.

يمتد الجدول الزمني للبرنامج إلى ما بعد 2024، فمن المقرر (إن سار كل على ما يرام) أن نهبط على سطح الكوكب الأحمر في العِقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.


حب العلم، أم حب امتلاك؟

فلك، فضاء، ناسا، القمر، المريخ، العودة للقمر
فلك، فضاء، ناسا، القمر، المريخ، العودة للقمر

لا شك أن العودة إلى القمر والطموح في الهبوط على المريخ قبل الغير هو حلم كل شركة تجارية ووكالة فضاء، ولكن هل لذة التحليق خارج غلاف الكرة الأرضية كما ذَكَرتُ في بداية المقال هي ما أعاد ناسا إلى القمر فعلاً؟ أم أن العودة إلى القمر والهبوط على المريخ مجرد إعلان ملكية أكثر منه حباً للعلم والاستكشاف؟

من يضمن أن التاريخ لن يعيد نفسه لنرى نفس الإخفاقات التي أودت سابقاً بحياة رواد الفضاء بسبب منافسة غير عادلة! خاصةً أن الذهاب إلى القمر كان بأمر من الرئيس الأمريكي جون.ف.كينيدي آنذاك، والآن بعد خمسين عاماً، العودة إلى القمر أيضاً بأمر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب! هل لاحظتم التشابه؟