قبر متواضع كائن في زاوية منعزلة ضمن غيره من المستطيلات الإسمنتية الساكنة التي تملأ مقابر طنطا، لا يميزه عن غيره إلا شاهد رخامي يحمل اسم صاحبه الأمين، الذي شاء الله أن يُخلق رأي الناس فيه مشتقًا من اسمه فكان الأحمد الخالد.

الطريق إلى قبره لم يكن صعبًا، يكفي أن تصل إلى تُرب طنطا وتسأل أيًّا كان عن مرقد الأديب فيرشدك الجميع إليه، حيث يقبع البناء الصغير وحيدًا، متواضعًا، منكمشًا وسط الآخرين كما عاش صاحبه دومًا، أعرفه فور أن أراه بسيماه، فلا يوجد قبر بالدنيا مغطىً بالقصاصات إلا لواحدٍ فقط… رجل القصاصات.

عبارة حفرت في الرخام بأنه «جعل الشباب يقرأ» ومن حولها وريقات ملأت الواجهة أكد بها كل من مروا عليه معنى اللافتة، وأنه بنَى عقولهم بقراءات ما كانوا ليعرفونها إلا عبره، وأنه صقل حياتهم بمعانٍ ما كانت لتنغرس بأنفسهم إلا من خلاله، بعبارات أدبية بليغة ما كانوا ليتقنون صياغتها لولا أنهم مرّوا عليه.

رسالة من غزة كسرت الحصار رغم الأنوف وبلغت عتبة قبره، أخرى تنزّلت من جبال لبنان حتى مثواه الأخير، قارئ من السودان اكتفى بعبارة وحيدة فريدة «تركتنا بمفردنا يا زول»، أحدهم نعاه بـ«كوميكس» عن لحاقه السريع برفيق دربه رفعت إسماعيل، وآخرون استعانوا بمقتبسات من كتاباته وكأنهم يرثونه بخط يده.

رسائل شديدة الخصوصية تُركت للعلن، كي يعلم الجميع كم كان الرجل «خاصاً» للكثيرين، تقول إحداهن «لا أصدق أنك مت، ولا أصدق أنني أكتب لكَ كشخص ميت، لكني ها أنذا أكتب»… كتب آخر:

أحببتك فوق قُدرتي على الكلام وعلى البوح، لولاك ما قرأت ولا تعلمت ولا كتبت، فكم أدين لكَ بالفضل، وداعًا إلى حين قريب.

حين تصل إليه لا تتعجب من رؤية شاب ينتحب في صمت قبل أن يترك ورقة على الجدار كتب عليها: «لم أرك لكنك غيرت حياتي»، ولا من وجود رسائل من كافة أصقاع الأرض لا تدري متى جاء أصحابها إلى هنا ليرثوا معلمهم ومعلمنا الأول والأخير، ولا حتى من تفرّد قبره وسط غيره شجرة مورقة وسط غابة قصف الخريف أوراقها.

للأبد ستظل بيننا يا عرّاب للأبد، مهما احترقت النجوم وفنت الكواكب… لأنك ربيتنا وأسعدتنا وجعلتنا نقرأ.

أحمد خالد توفيق, مصر, طنطا, قبر
رسالة أحد القراء عُلقت على قبر د. «أحمد خالد توفيق» رحمه الله

أبو الأطباء

لم نعرفه طبيباً قط، وإنما ذاع صيته بيننا كإحدى أيقونات الأدب المصري المعاصر، صحيح أنه لم يفتتح عيادة ولم يمارس الكشف على المَرضى، إلا أنه ظلَّ طوال سنواتٍ طوال يُدرّس طب المناطق الحارة في كلية الطب بجامعة طنطا، التي حظي خريجوها بالفرصة المثلى للتعرف على العرّاب بكلا وجهيه؛ الأدبي والطبي.

كان ظاهرة مش طبيعية.

بهذه العبارة بدأت الدكتورة «إيمان أبو المعاطي زكي»، الطبيبة المتخرجة في كلية الطب جامعة طنطا عام 2018، حديثها مع «إضاءات»، وتضيف:

بعد وفاته بأسبوع زرته في المقابر لأول مرة، وأنا ماشية سألت سيدة مسنة بتبيع حاجات في الشارع بقول لها: فين المقابر؟ ردت عليّ: إنتي جايه لدكتور أحمد خالد توفيق؟ قلتلها: عرفتي منين؟ قالتلي: كل شوية حد يجيله… والناس هنا مستغربين من كمية الزيارات له.
وتتبع:
أنا أعرف دكتور أحمد ككاتب من أولى ثانوي، ومن أول ما بدأت أقراله لقيت فيه حاجة مختلفة كأسلوب وككتابة… بيحطك في تاريخ ويضعك في مناطق مسمعتش عنها قبل كده، ويديك معلومات جديدة، ومن وقتها وأنا بقرأ له، وعقلي تشكّل على إيده.

وتابعت، أنه كان نموذجًا لشخص يشبهها للغاية، لا تشعر وهي تقرأ له أنه «من كوكب تاني»، كما أنه لم يخذلها أخلاقيًا ولا مرة، خصوصًا خلال فترة التقلبات الأخيرة التي مر الجميع فيها بامتحانات إنسانية صعبة لم يرسب في ولا واحدٍ منها.

وعن طريقه تعامله مع طلبته كأستاذ في الكلية، تحكي أنه كان يسير دائمًا بالجامعة وهو يضع يديه في جيبه وينظر للسماء، وكان منضبطًا جدًا في مواعيده، ومدرسًا «شاطر جدًا»، كما أنه كان شديد التواضع ولا يخاطبهم إلا بـ«يا صديقي، ياعزيزتي». تضيف:

في امتحان الشفوي، لما كنا ما بنعرفش سؤال كان بيشرحهولنا.

وتابعت أنها أحيانًا كانت تعتمد على سلسلته الطبية «سفاري» في مذاكرة الدروس الصعبة عليها. تحكي إنها استعدت لأداء أحد الامتحانات بقراءة عدد «هواء فاسد» الذي شرح ضمن أحداثه مرض الملاريا.

أما الدكتورة «صباح عبيد»، أستاذ مساعد بقسم الروماتيزم والتأهيل بكلية الطب جامعة طنطا، فتؤكد أنه كان مثالاً للأستاذ الجامعي القريب من الطالب، فلم تكن بين الطرفين أي رهبة أو خوف في التعامل معه وسؤاله عن أمور في الدراسة أو خارج الدراسة أحيانًا.

وتضيف أنها كانت تتمنى أن تسأله:

إنتَ كنت واخد الحياة ببساطة قوي كدا إزاي؟ منين كنت بتجيب القُدرة على إنك تكتب مواقف بنمر بيها يوميًا لكن لسانّا معندوش الاستطاعة إنه يعبّر عنها زيك؟

فيما تحكي «هدير عيسى»، طبيب امتياز بكلية طب طنطا، أنه درّس لها حين كانت في السنة الخامسة بالكلية، وتصفه بعبارة واحدة: «من أكتر الدكاترة المتواضعة جدًا، أب بكل معنى الكلمة»، مضيفة أنه عقب الانتهاء من المحاضرة كان الطلبة يحرصون على التقاط الصور معه، لكن هذا لم يجعله مغرورًا قط، وإنما كان مثالًا للتواضع.

عن لحظات جنازته، تروي إيمان:

وإزاء هذا الاحتفاء الشديد وشبه الإجماع على حُبه من قِبَل الطلاب، لم يكن بالغريب أن تختار الدفعة رقم 55 التي ستتخرج هذا العام، أن تكرّم اسمه في احتفال رسمي بين الجنبات التي لطالما أفاض فيها بعلمه على طلابه.


شارع أحمد خالد توفيق

الناس كانت جاية من كل مكان عشان تحضر الجنازة، كلنا ماكناش نعرف بعض، العدد كان كبير وكله شباب، ولما شوفتهم فرحت لأنه هو كان مراهن على الشباب واللي كان عايزه لاقاه. وصلنا المقابر ودفناه والشيخ دعا حوالي نصف ساعة والجميع يبكي ويرتجف، وبعدها واحد علّق عليها ورقة (جعل الشباب يقرؤون) تحقيقًا لأمنية قديمة للدكتور بأنه يتمنى أن يوضع على قبره عبارة تحمل نفس المعنى.

عقب وفاته بيوم واحد،أعلن محافظ الغربية السابق اللواء «أحمد ضيف صقر»، أنه سيُطلق اسم العرّاب على الشارع الذي كان يعيش فيه، وهو العهد الذي لم يتحقق حتى الآن، فلا تزال اليُفط على البيوت حتى الآن تحمل اسم «حسن رضوان».

شارع حسن رضوان, طنطا, مصر
شارع «حسن رضوان» — طنطا

وأكد مصدر في المحافظة لـ«إضاءات»، أنه بالرغم من صدور قرار بالفعل، فإنه تم تجميد تنفيذه بعدها بدعوى أنهم تلقوا بعض الاحتجاجات عليه، لأن الاسم القديم كان لأحد نواب البرلمان السابقين الذي قدّم خدمات جليلة للمواطنين. وأكد المصدر أنه لا توجد أي نية حاليًا في المحافظة لإعادة تفعيل هذا القرار.

أخلفت مدينته المفضلة وعدها معه، إلا أن غيره لم يفعل، بعدما أ علنت مؤسسة مرسال عن إطلاق اسمه على وقف خيري تابع لها عبارة عن دار ضيافة لإيواء المرضى وأسرهم بالمعادي الجديدة، وهو الوعد الذي تحقق هذه المرة.

دار مرسال, مصر, أحمد خالد توفيق, وقف خيري
تقول «شيماء سامي» المنسقة الإعلامية للمؤسسة لـ«إضاءات»: إن الدار قائمة حاليًا وبها طابقان كاملا التجهيزات لاستقبال المرضى المغتربين من خارج القاهرة.

وأضافت، أن كل غرفة تحوي سريرين، واحد للمريض المغترب الذي يضطر للجوء إلى القاهرة لتلقي العلاج، وآخر لمُرافِقه الذي يصاحبه في رحلته الشاقة لنيل الاستشفاء.

وتابعت، أن وجود اسم الدكتور «أحمد خالد توفيق» على واجهة المكان أسهم في زيادة التبرعات التي يتلقونها بشأنه، وهم الآن بصدد القيام بأعمال تطوير وتوسعة في دورين إضافيين.