يدرس طلاب المدارس المصرية منذ المرحلة الابتدائية أحداث الثورة العرابية؛ كيف بدأت؟ وكيف وقف أحمد عرابي أمام الخديوي توفيق ليقول له: «لقد خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا»؟ وكيف تآمر الخديوي مع الإنجليز لإنهاء الثورة؟ وكيف انتهت الثورة بإلقاء القبض على عرابي باشا ورفاقه ونفيهم إلى جزيرة «سيلان»؟ لكن لا يذكر أي من هذه الكتب الرسمية، ماذا حدث لعرابي ورفاقه في المنفى؟ كيف عاشوا حياتهم؟ هل تغيرت آراؤهم؟ ما هي طبيعة علاقتهم ببريطانيا والخديوي خلال فترة نفيهم؟ كيف عاد بعضهم إلى مصر؟ هذا ما نسعى للإجابة عليه مسترشدين بكتاب «عرابي ورفاقه في جنة عدن» للدكتورة لطيفة محمد سالم.


كيف كانت الحياة في المنفى؟

كانت قائمة المنفيين تضم إلى جانب عرابي 6 آخرين، هم: علي فهمي، عبد العال حلمي، محمود سامي البارودي، يعقوب سامي، محمود فهمي، وطلبة عصمت. سُمح لهم باصطحاب 48 شخصًا من أسرهم وخدمهم، حسبما ذكر عرابي في مذكراته. صادرت الحكومة المصرية أموال وممتلكات المنفيين، وخصصت لكل منها مبلغ 30 جنيهًا شهريًا، لكن هذا المبلغ لم يكن يكفي احتياجاتهم وهو ما أدى إلى مرورهم بظروف مالية بالغة الصعوبة. ومما يروى في هذا الصدد أن علي فهمي لم يكن يستطيع دفع ثمن علاج وأدوية زوجته، وأن بناته وزوجته امتنعوا عن الخروج من المنزل لعدم وجود ما يرتدينه من ملابس صالحة.

بلغ ضيق الحال أن علي فهمي لم يستطع دفع ثمن علاج وأدوية زوجته، وأن بناته امتنعن عن الخروج من المنزل لعدم وجود ما يرتدينه من ملابس صالحة.

وأسهم وقوف الحكومة المصرية أمام الرغبات الشخصية للمنفيين في مفاقمة تعاستهم. فعند سفرهم لم يصطحب إلا ثلاثة منهم زوجاتهم، وتركت باقي الزوجات في مصر، إما لكون الحالة الصحية لبعضهن لم تسمح بالسفر، وإما لأنهن لم يعرفن كيف تكون الإقامة في سيلان فرفضن، وإما لأنهن فضلن انتظار ما سيتم بخصوص أملاك أزواجهن. وعندما استقرت الأوضاع، لم تنقطع طلبات المنفيين لإحضار زوجاتهم، وهو ما أخذ وقتًا طويلًا وعشرات المراسلات، فكان أحد منغصات حياة عرابي ورفاقه.

يضاف إلى هذا أن بعض المنفيين عانوا من تدهور حالتهم الصحية، خاصة طلبة عصمت الذي كان مصابًا بالربو من قبل نفيه، وفاقمت رطوبة الجو في سيلان من مرضه، ولم تستجب التماساته بتغيير منفاه إلى بيروت أو قبرص. وأصيب عبد العال حلمي في عام 1891 بحساسية في صدره تفاقمت بعد رفض نقله من سيلان مما تسبب في حدوث نزيف في المخ أدى إلى وفاته. وعانى الزعيم عرابي من الروماتيزم الذي لا يتفق مع الرطوبة الموجودة في سيلان.

عانى المنفيون أيضًا من حالة نفسية صعبة بسبب طول البقاء في المنفى، إذ كانوا يقدرون أن سنوات البعد عن الوطن ستكون معدودة، وبعضهم كان يعتقد أنه سيعود إلى مصر ليلعب دورًا في الحياة السياسية. ولما طال مقامهم في سيلان واجتمع الفقر والمرض عليهم أصيبوا باليأس والإحباط.

وكما كانت للمنفيين أوقات سيئة كانت لهم أوقات جيدة أيضًا، خاصة في الفترة التي تلت وصولهم إلى الجزيرة، إذ استقبلوا استقبال الأبطال، وزارهم أعيان المسلمين من سيلان وجاوة والهند والملايو، بل وحضرت بعض الطوائف البوذية الاستقبال. وشارك عرابي وعدد من رفاقه في بعض الأنشطة الثقافية خلال تواجدهم في سيلان، إذ أسهم الزعيم في التعبئة لإنشاء دور العلم على الأسس الإسلامية، وقام البارودي بتدريس اللغة العربية وعلوم الدين، وتفرغ محمود فهمي لكتابة سفر ضخم بعنوان «البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر». ويمكن القول إن الرسائل والالتماسات والطلبات كانت جزءًا أساسيًا من حياة المنفيين.


الخلافات تدب بين رفاق الثورة والمنفى

لم تستمر حالة الوئام التي ظهر عليها عرابي ورفاقه في بداية منفاهم كثيرًا، إذ سرعان ما انعكست حالة الإحباط واليأس والعوز، التي دخلوا فيها بعد استقرارهم في سيلان، على علاقاتهم البينية، فانقسموا على أنفسهم، وفرضت المنازعات نفسها عليهم. كان أحد أسباب هذه النزاعات عدم توزيع رواتب متساوية عليهم، إذ خُص عرابي براتب أكبر من غيره رغم أنه كان يعول أقل من بعضهم. كما لم يمنح محمود سامي وعلي فهمي ويعقوب سامي رواتب مساوية لغيرهم بدعوى أنهم ميسورو الحال، رغم أن بعضهم كان مدينًا بديون كبيرة في مصر. وهو ما ولد مرارة وضغينة بينهم.

اتسع نطاق المشاحنات حتى وصلت إلى آذان الصحافة السيلانية التي سجلت فقدان التآلف بين رفاق المنفى وتعرضت لمنازعتهم.

بالطبع ألقت أحداث الماضي، التي أدت إلى احتلال مصر ونفيهم بهذه الطريقة المهينة، بظلالها الثقيلة على علاقات الرفاق. وأصبح مرور الزمن فرصة للتدبر والتفكر في الأحوال والمآل، وهو ما أدى إلى اتساع نطاق المشاحنات حتى وصلت إلى آذان الصحافة السيلانية التي سجلت فقدان التآلف بينهم وتعرضت لمنازعتهم. ووصلت أخبار الخلاف إلى مسامع عبد الله النديم في مصر، فأرسل إلى عرابي قائلًا «ائتلفوا قبل الإياب، واقتلوا الضغائن بالعقاب، وحققوا لمن عندكم ترك العدوان حتى تتركوا لكم ذكرًا جميلًا في سيلان».

وأعطى الاحتفال بالعيد الخمسيني لحكم الملكة فيكتوريا المثل على هذا الانقسام، إذ شكل يعقوب سامي وعلي فهمي ومحمود فهمي مجموعة، وعرابي والبارودي وعبد العال حلمي وطلبة عصمت مجموعة أخرى، كل منها تجلس في مكان بعيدة عن الأخرى. وعندما كتبت إحدى الصحف عن مشاركة المنفيين بزعامة عرابي وفهمي، كتبت المجموعة الأولى للصحيفة توضح أنهم «لم يكونوا بصحبة عرابي، وأن كل واحد مسؤول عن تصرفاته الشخصية. كما طالبت مجموعة فهمي من الصحيفة تعريف العامة بعدم استعمال كلمة عرابي ورفاقه حيث لا بد من ذكر الأسماء».


الهزيمة النفسية والانسحاق أمام الاحتلال

قد يعتقد البعض أن عرابي كن البغض والكره وأظهر العداء للإنجليز الذين هزموه واحتلوا مصر وكانوا سببًا في نفيه هو ورفاقه خارجها، لكن الوثائق الإنجليزية والمصرية بل ومذكرات عرابي الشخصية تقول عكس ذلك. مع بدء محاكمة «العصاة»، رأى عرابي في حكومة دولة الاحتلال طوق النجاة الذي يستطيع إنقاذه هو ورفاقه من حبل المشنقة، فأعلن الخضوع والطاعة، ووصل الأمر إلى مطالبته بأن ينفى في لندن «أرض الحرية»، مقسمًا بشرفه ألا يتدخل في الأمور السياسية عندما يكون بعيدًا عن بلده حتى يأتي الله أمرًا كان مفعولًا»، حسبما ذكر في خطاب أرسله إلى صديقه الحقوقي البريطاني «بلنت».

ولما استقر الأمر على نفي عرابي ورفاقه إلى سيلان، وجهوا جميعًا الشكر إلى المبعوث البريطاني لمصر، كما وجه بعضهم الشكر إلى بريطانيا على إكرامها للمنفيين ودعوا لها بالبقاء، لدى وصولهم إلى الجزيرة. ولم يفوت المنفيون فرصة للقاء مسؤول أو شخصية أو حتى صحفي إنجليزي دون أن يلتقوه ليتحدثوا عن أحوالهم ويطالبوه برفع شكواهم إلى حكومة جلالة الملكة. وكثيرًا ما تخلل هذه اللقاءات ثناء على الحكومة البريطانية ورأفتها ورحمتها.

تجلت الهزيمة النفسية للمنفيين أمام الاحتلال خلال الاحتفال بالعيد الخمسيني لحكم الملكة فيكتوريا، عام 1887، إذ أعد ثلاثة منهم (يعقوب سامي وعلي فهمي ومحمود فهمي) كلمة بهذه المناسبة، وكان مما جاء فيها أن «الألم الداخلي الذي ألم بهم لمعيشتهم كغرباء قد زال نتيجة المعاملة الحسنة والراحة والعدالة ووسائل الرحمة والإنسانية والاحترام الذي يلاقونه، وأن إخلاصهم للولاء وخضوعهم نابع من القلوب، وأنهم يلتمسون الركوع تحت أقدام عرش جلالتها (الملكة فيكتوريا)».

وقال عرابي في حديثه لأحد الصحفيين البريطانيين، خلال زيارته لسيلان عام 1893، إنه في «حالة سماح الحكومة البريطانية بعودته سيذهب كصديق لبريطانيا لا كعدو، وأنه يوافق على وضعه تحت رقابة البوليس أو الحراسة العسكرية. طالبًا العفو والرحمة». ووصل الأمر ببعض رفاق عرابي إلى إرسال خطاب إلى «ولسلي»، قائد قوات الاحتلال التي غزت مصر، يناشدونه ويرجونه الوساطة في قضيتهم.

وهكذا مع كل عام جديد يمر في المنفى، يصبح عرابي ورفاقه أكثر انسحاقًا وخضوعًا، وتتدنى طرقهم في استجداء العطف والرحمة من أجل العودة إلى مصر، حتى أنهم دفعوا زوجاتهم وبناتهم إلى إرسال التماسات وتظلمات إلى ملكة بريطانيا، وإرسال عريضة إلى الخديوي – الذين كانوا يكنون له كل عداء – لاستدرار عطفه.


العودة إلى مصر

كتب بعض رفاق عرابي إلى الملكة فيكتوريا أن «إخلاصهم وخضوعهم نابع من القلوب، وأنهم يلتمسون الركوع تحت أقدام عرش جلالتها»!

عاد 4 من المنفيين إلى مصر تاركين خلفهم في سيلان جثث عبد العال حلمي، الذي توفي في العام 1891 بحساسية الصدر، ومحمود فهمي الذي توفي عام 1894 بالسكتة القلبية، ويعقوب سامي الذي توفي عام 1899 بعد إصابته بشلل في نصفه الأعلى، والإهمال في الكشف الطبي عليه. لكن كيف كانت العودة؟ كان طلبة عصمت أول من عاد إلى مصر من المنفيين، في فبراير/ شباط عام 1899، بعد أن عفا عنه الخديوي عباس حلمي، بسبب تدهور حالته الصحية. ولم تمض سوى شهور قليلة بعد عودته حتى توفي وتوارى في تراب مصر.

في منتصف عام 1899، ساءت الحالة الصحية لمحمود سامي البارودي كثيرًا، وأوشك على فقدان بصره، مما أدى إلى إصابته باكتئاب نفسي راسخ وشديد نتيجة مرضه ووحدته بأرض أجنبية. وبذلت الحكومة البريطانية عدة مساع من أجل الحصول على تصريح من الخديوي بعودة البارودي، وهو ما حدث في يوليو/ تموز 1889. وبعد عودته بـ10 أشهر أصدر الخديوي أمرًا بمنحه الحقوق المدنية وجواز امتلاكه، ورُدت إليه أملاكه الموقوفة، وكان الوحيد من بين المنفيين في سيلان الذي نال رضا الخديوي.

سرعان ما انفض الناس عن عرابي بسبب الحملات التي جندها مصطفى كامل للحط من شأنه مستغلًا تصريحاته المؤيدة للإنجليز.

وهكذا بقي عرابي وعلي فهمي في سيلان وحيدين، فطرقا كل الأبواب من أجل السماح لهما بالعودة، وتشاء الأقدار أن يكون مفتاح باب العودة في يد دوق كورنول ويورك ولي عهد بريطانيا، الذي التقاه عرابي عندما كان يزور سيلان، وترجاه أن يتوسط له من أجل العودة إلى مصر، فأعطاه الدوق وعدًا ملكيًا بأنه سيطلق سراحه حين عودته لبريطانيا. وهو ما حدث بالفعل، إذ طلب الدوق من الحكومة البريطانية السماح بعودة عرابي وفهمي إلى مصر، فسعى اللورد كرومر لتحقيق رغبة الأمير، ونجح في انتزاع تصريح من الخديوي بعودة المنفيين في مايو/ آيار 1901.

عاد عرابي إلى مصر أواخر سبتمبر/ أيلول 1901. ولدى انتشار خبر عودته، زاره العشرات من الفلاحين، ورجال الطبقة الوسطى، وبعض البشوات. وعندما كان يصلي في مسجد السيدة زينب، كان المسجد يمتلئ عن آخره بآلاف الناس الذين حضروا لتحيته وتقبيل يديه. استمر الوضع على هذا الحال لبعض الوقت، ثم سرعان ما انفض الناس عن الزعيم بسبب الحملات التي جندها مصطفى كامل للحط من شأنه مستغلًا تصريحاته المؤيدة للإنجليز، وأثمرت مجهودات الحزب الوطني وكامل عن مقاطعة عرابي بشكل جعل بعض أصدقائه يعتقد أن عودته إلى مصر كانت خطأ، وأن بقاءه في سيلان كان أفضل.

عاش عرابي باقي أيامه يستجدي الخديوي وحكومته تارة، والملك البريطاني وحكومته تارة أخرى، من أجل منحه حقوقه المدنية ورد أملاكه ورفع معاشه، ولم يُستجَب لأي من مطالبه إلى أن توفي في عام 1911.