يبدو العنوان غربيًا، وخاليًا من المنطق. لكن هكذا حال إبداعات العلم الفريدة التي تنقل اللامعقول إلى دائرة المعقول ثم الملموس، فالمعتاد كجزء أصيلٍ في حياتنا.

وتتضاعف قيمة كل كشفٍ علمي جديد، مع تزايد قيمة وخطورة المشكلة التي جاء لحلها. ومن هنا سنبدأ.


عن الخطر الذي يهدد حياة ثلثي البشر

في أوائل العام الماضي، دق مجموعة من الباحثين ناقوس الخطر عبر مجلة ساينس أدفانسز، وذلك عندما نشروا نتائج بحثهم التي أثبتت أن أكثر من 4 مليارات من البشر يعانون على الأقل لمدة شهر كل عام من ندرة شديدة في مصادر المياه العذبة، ومن هؤلاء فهناك أكثر من نصف مليار من البشر (حوالي 7% من مجمل سكان الكوكب) يقاسون هذه الندرة طوال العام.

عزا الباحثون هذه النتيجة الصادمة إلى الزيادة السنوية الكبيرة في أعداد البشر، وما يستلزمه من التوسع في الاستزراع لإطعام كل هذه الأفواه، وكذلك ارتفاع مستويات المعيشة في أماكن عدة، وما صاحبها من أنماط استهلاكية غير رشيدة، بجانب التغيرات المناخية السلبية التي تعزز التصحر والجفاف… إلخ. واستمرار الحال على نفس المنوال، سيضع البشرية خلال سنوات على حافة حروب كونية على مصادر المياه، إن وُجِدَتْ.

لكن اختراقات علمية كالذي بين أيدينا هنا، قد تقلب كل المعادلات، وتعيد الكرة مرة أخرى إلى ملعب الأمل والحياة.


الماء والهواء… قصة لا تنتهي

«أحب اتنين سوا .. الميه والهوا ». هذه الأغنية التي كنا نرددها كثيرًا في صبانا قد تكون هي مصدر الإلهام هنا.

اعتاد البشر مصدرين لا ثالث لهما للمياه.. إما غيثُ من السماء، أو منحة من جوف الأرض. لكن البحث العلمي الفريد الذي طالعتنا به مجلة science منذ أيام قليلة سيفتح الباب أمام مصدر جديد يملأ كل نقطة من الفراغ حولنا، ولا نتصور أن به هذا الكنز .. إنه الهواء.

الفكرة بسيطة، هناك الكثير من الرطوبة في كل سنتيمتر مكعب من الهواء حتي في أجواء الصحارى القاحلة، والمناطق شديد الحرارة، هي عبارة عن مليارات المليارات من جزيئات بخار الماء المعلقة، والتي تبخرها الشمس، أو تسرقها الرياح يوميًا من المسطحات المائية. سنبتكر مرشحات من مواد خاصة تلتقط هذه الرطوبة من الهواء، وتجمعها على هيئة مياه صالحة للاستخدام.

باختصار شديد.. المادة الجديدة + هواء الصحراء + طاقة الشمس المباشرة دون خلايا شمسية وسواها = ماء!

والمادة الجديدة – وتركيبها الكيميائي هو [Zr6O4(OH)4(fumarate)6] – والتي أعلنت عنها الدراسة التي نحن بصددها، تمتاز بالخصائص التالية التي تمكنها من القيام بهذه الوظيفة الفريدة:

1. هي إحدى تطويرات ما يسمى بالأنظمة المعدنية العضوية MOF Metal-Organic Frameworks، والتي ظهرت منذ سنوات كتطبيق واعد لتقنيات النانوتكنولوجي، حيث يتم مزج الجزيئات العضوية والمعدنية في إطارها في تراتيبة معينة، مما يمنحها خصائص فريدة تفوق خصائص المواد المعدنية أو العضوية منفصلة. وتحمل المادة المستخدمة هنا الرقم Metal-organic framework 801.

2. المادة مسامية porous مما يمكن الهواء أن يتخلل في أعماقها لتستطيع التقاط الرطوبة منه.

3. كل كيلوجرام من هذه المادة، قادر على إنتاج 2.8 لتر من المياه.

4. لا تحتاج في عملها لمصدر للطاقة، سوى طاقة الشمس العادية في النهار.

5. قادرة على الحفاظ على إنتاجيتها من المياه حتى في وجود معدلات رطوبة أقل (20%). وهذه هي معدلات الرطوبة في أجواء الصحارى القاحلة.

6. تتسم بمساحة سطح هائلة، مما يمنحها قدرًا أكبر على امتزاز جزيئات الماء من الهواء (جرام واحد من هذه المادة يمتلك مساحة سطح تقترب من مساحة سطح ملعب كرة قدم صغير!).

MOF، كيمياء، الأنظمة المعدنية العضوية
شرح مبسط للتركيب الكيميائي للأنظمة المعدنية العضوية MOF

من هو فريق العلماء الذي أنجز هذا البحث؟

فريق العمل الذي قدم هذه الدراسة يضم باحثين من معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا MIT – Massachusetts Institute of Technology، بالتعاون مع معمل الباحث عمر ياغي التابع لجامعة كاليفورنيا، وكلاهما من أهم الجامعات الأمريكية.

وكان البروفيسور الأمريكي من أصل أردني عمر ياغي – الأستاذ بقسم الكيمياء بجامعة كاليفورنيا في بيركلي – قد قدم نسخًا أولية من هذه المادة العضوية المعدنية القادرة على امتزاز الماء من الجو في دراسته المنشورة عام 2014 في مجلة الجمعية الأمريكية للكيمياء. قام الباحثون في دراستنا الحالية بالعمل على نفس هذه المادة، وتطوير تركيبتها الكيميائية وترتيب ذراتها، بحيث تزداد قدرتها على امتزاز المياه، وذلك بالتحكم في المسام متناهية الصغر التي تحتويها، وزيادة مساحة سطح الامتصاص. وتم تصميم وإعداد جهاز مبني على هذه المادة للقيام بدورها بكفاءة.

تقوم المادة العضوية المعدنية بامتزاز الماء من الهواء طوال الليل، أو في النهار عند وضعها في الظل. وعندما تتشبع تماما، يتم تعريضها لضوء الشمس النهاري، فتنعكس آلية عملها مستفيدة من طاقة حرارة الشمس، فتنطلق جزيئات الماء منها، ويقوم مكثف في قاع الجهاز بتجميعها وتركيزها إلى خزان خاص. وهكذا أصبح بقبضتنا الماء العذب الذي كان يحلق في اليوم السابق مع جزيئات الهواء ورمال الصحراء المتطايرة!


التقنية الجديدة في ميزان التكلفة مقابل الفائدة

وهكذا أصبح بقبضتنا الماء العذب الذي كان يحلق في اليوم السابق مع جزيئات الهواء ورمال الصحراء المتطايرة !

لم يحدد الباحثون قيمة معينة لتكلفة إنتاج لتر الماء الواحد من خلال النموذج الأولي من هذه المادة العبقرية. لكن من الواضح أنه ما يزال أمامنا المزيد من الوقت والجهد والتطوير قبل أن يبدأ مرحلة الإنتاج الواسع الذي يقلل التكلفة، فيتيح لها قيمة تنافسية تجارية مقارنة بالتقنيات الأقدم التي تعتمد عليها المناطق الجافة والقاحلة في الحصول على المياه، كتحلية مياه البحار، أو التنقيب عن الآبار الجوفية واستغلالها، أو نقل المياه العذبة من أقرب مناطق توافرها… إلخ.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الجديد هنا هو استخدام هذه التقنية – التي تعد ضمن تطبيقات النانوتكنولوجي – في امتزاز وتخزين المياه، لكن تطبيقات المواد المعدنية العضوية MOF Metal-Organic Frameworks في الصناعة سابقة على هذا الاستخدام الأخير بسنوات.

فقد عكف عملاق الصناعات الكيماوية العالمي شركة BASF على تطوير هذه التقنية، والاستفادة من مرونتها التركيبية الكيميائية في تطبيقات عدة، وهذا فيديو دعائي للشركة من عام 2011 يتحدث عن مزايا المواد المعدنية العضوية بصفة عامة، ويبين توجه الشركة للتطبيق الصناعي لها على نطاقات أوسع.

https://www.youtube.com/watch?v=z-ZRhLapO2s

من هذه التطبيقات على سبيل المثال نقل وتخزين الغاز الطبيعي كطاقة نظيفة في مساحة أقل، مما يعطي الفرصة للمركبات التي تعتمده كطاقة لتشغيلها على قطع مسافات أكبر قبل الحاجة للتزود بالوقود من جديد.

يعلق مئات الملايين من البشر المهددين بالعطش والجفاف الكثير من الآمال على مثل هذه التقنيات الواعدة. وننتظر بمنتهى الشغف انتقالها من حيز البحث إلى آفاق التطبيق والإنتاج التجاري. فهل نرى قريباً مثل هذا الجهاز في كل بيت؟