أول خليفة للمسلمين يقتل أخاه كان المأمون حين قتل أخاه الأمين وتولى الخلافة من بعده، بعد حرب أهلية استمرت سنوات، وسميت الفتنة الرابعة، بعد فتنة مقتل عثمان (الأولى)، والفتنة التي أعقبت وفاة معاوية بن أبي سفيان (الثانية)، والفتنة التي أعقبت الإطاحة بالخليفة الأموي الوليد بن يزيد (الثالثة).

الأمين والمأمون هما ولدا الخليفة العباسي هارون الرشيد (توفي عام 193هـ – 809م)، الذي كان عهده يسمى «العصر الذهبي للدولة الإسلامية»، لما وصلت إليه من قوة وتقدم، ولكنه في الوقت نفسه زرع بيديه بذور الفتنة بين ولديه اللذين سيخلفانه في الحكم، حتى ولو كان يقصد استقرار ملكه بما فعله.

ما جذور هذه الفتنة، وما موقف أمراء البيت العباسي منها، كيف تعاملوا مع الأمين والمأمون، وكيف تحولت مواقفهم منهما؟ هذا ما نرصده في سطورنا التالية.

الفرس والعرب: صراع انعكس على البيت العباسي

كان الاعتماد على الفرس ضد الاستبداد العربي الأموي عمادًا للدعاية العباسية ضد الدولة الأموية (41 – 132 هـ / 662 – 750 م)، بجانب عماد آخر وهو أحقية آل بيت النبي من بني هاشم بالخلافة، وبهذه الطريقة حشد العباسيون (أحفاد الصحابي عبدالله العباس، ابن عم النبي) الفرس في خراسان وحاربوا الأمويين وهزموهم وصارت الخلافة لهم.

العنصر الفارسي كان مكونًا أساسيًا في الدولة العباسية، بخاصة في عصرها الأول «الذهبي»، فبسيوفهم نال العباسيون الحكم، حتى استفحل أمرهم في عهد هارون الرشيد، وصار آل برمك (البرامكة) الفرس، لهم الكلمة الأولى والحظوة عند هارون؛ فقد كان يحيى بن برمك هو مربيه ووزيره ومفوضه في كافة الأمور، وكان الفضل ابنه أخًا للرشيد في الرضاعة.

ومن المعلوم أن البيت العباسي كان يغار من هذا النفوذ البرمكي الفارسي، ومن هنا كان أساس الفتنة التي جعلت الأخ يقتل أخاه في ما بعد، التي عرفت بفتنة الأمين والمأمون، ابني هارون الرشيد الذي قسّم عليهما ملكه قبل أن يموت.

فعبدالله المأمون كان ابن الرشيد من «مراجل» الفارسية، وكان الفرس يعتبرونه ابنهم ويعتبرهم أخواله، بينما كان الأمين ابن زبيدة بنت جعفر، وهي ابنة عم الرشيد، وحفيدة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الهاشمي القرشي، المؤسس الفعلي للدولة العباسية.

ولد الأمين والمأمون تقريبًا في نفس العام 170هـ، وهو عام تولي أبيهم الرشيد الخلافة، ولكن المأمون كان أكبر من الأمين بأشهر (6 أشهر تقريبًا)، وبحكم نظام الوراثة وولاية العهد كان عبدالله المأمون هو الأحق بولاية العهد، ولكن الرشيد لم يفعل ذلك، وأسند ولاية العهد لمحمد الأمين.

رغبة أمراء البيت لعباسي، وعلى رأسهم أم الأمين زبيدة بنت جعفر، واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وكانت حجتهم الظاهرة أن الأمين هاشمي الأبوين وهو أمر لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، ولكن السبب الخفي كان كرههم للفرس ولـ«آل برمك» بالتحديد، وخوفهم من تمدد نفوذهم أكثر مما كان عليه، وخطورة ذلك عليهم وعلى مستقبلهم في الحكم.

بعد مداولات وضغوط شديدة، استدعى الرشيد رجاله وحاشيته ليشهدهم على قراره، وهو البيعة لابنه الثاني «محمد الأمين»، وكان ذلك الخميس 6 شعبان 175 هـ، 8 من ديسمبر 791 م، حيث بايعه ولقبه يومها بـ«الأمين»، معلنًا إياه واليًا على الشام والعراق.

كان عمر الأمين وقتها 5 سنوات! ولذلك أمر الرشيد أن تكون ولايته على الشام والعراق تحت إدارة مربيه الفضل بن يحيى البرمكي.

بعد 7 سنوات ومع استفحال نفوذ زبيدة (أم الأمين)، العباسية المتعصبة لعرقها العربي الهاشمي، قرر البرامكة أن يحافظوا على نفوذهم باختيار منافس للأمين، ويا حبذا لو كان في دمه عرق فارسي من ناحية أمه، فأقنعوا الرشيد بأن يعقد البيعة لابنه المأمون.

وافق الرشيد وأخذ البيعة للمأمون في عام 182هـ – 798م، لتكون له الخلافة من بعد أخيه الأمين، وأخذ على ولديه المواثيق، وأشهد عليهما، وعلق المواثيق في جوف الكعبة في مكة لتحظى بقداسة واحترام من الناس ومن ابنيه، وبعد ذلك بأربع سنوات أخذ البيعة لولي عهد ثالث له وهو ابنه القاسم، الذي لقبه بالمؤتمن.

وثائق الكعبة التي وقع عليها الأمين والمأمون نصت على أن يكون للمأمون ولاية خراسان (أجزاء من أفغانستان، وإيران، وتركمانستان حاليًا) والإمارات الشرقية للخلافة، ولا ينازعه فيها الأمين حتى وهو خليفة.

بعد موت الرشيد وتولي الأمين قرر أن يخلع المأمون ويعلن ابنه موسى، وكان طفلًا، وليًا لعهده، بخاصة وأن الأمين قد شعر بأنه خليفة منقوص السيادة، ولا يستطيع أن يحاسب أخاه «والي خراسان وولايات الشرق» في شيء بسبب مواثيق أبيه.

بعد معارك كلامية ورسائل دبلوماسية ناعمة وخشنة بين الأخوين، حرّك الأمين جيشه من بغداد للإتيان بأخيه من مرو (تقع في تركمانستان حاليًا) عاصمة خراسان، مكبلًا، ليلتقي الجيش العربي العباسي (جيش الأمين) بالجيش الفارسي (جيش المأمون) وتقع الغلبة للفرس.

وبعد أكثر من معركة ونفاد جيوش الأمين، وتمرد ما بقي منهم عليه، انتهى الأمر بعد سنوات لصالح المأمون، وهزيمة الأمين وقتله وقطع رأسه عام 198هـ، أي بعد 5 سنوات من توليه الحكم.

بحكم المصالح السياسية، كان مع الأمين بعض الفرس مثل أحد قادة جيشه علي بن عيسى بن ماهان، وهو من أصل فارسي، وكان مع المأمون بعض العرب ومنهم القائد العسكري هرثمة بن أعين، ولكن في العموم كان حزب الأمين عباسي عربي، بينما حزب المأمون فارسي شعوبي.

موقف البيت العباسي من الفتنة

حين فكر الأمين في خلع أخيه المأمون من ولاية العهد كان أغلب مستشاريه من خارج البيت العباسي، وأبرزهم كان قائده وحاجبه الفضل بن الربيع، وخازم بن خزيمة، وعلي بن عيسى بن ماهان، ولكن المؤكد أن كل المقربين منه، ومنهم بنو العباس، كانوا ضد خلع المأمون، وقال له قائده خازم بن خزيمة ناصحًا:

يا أمير المؤمنين لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول والناكث مغلول.

لكن الأمين لم يلتفت لهذا الكلام العاقل وأغواه ابن الربيع وابن ماهان لاستكمال رغبته التي جاءته منذ بداية حكمه، وربما كانت في صدره من قبل وفاة أبيه الرشيد.

انحاز البيت العباسي إلى الأمين، ولكنهم كانوا ضد إصابة المأمون بأذى، هم فقط كانوا لا يريدونه في الحكم، انصياعًا للأمين، وكراهية في الفرس، وعلى رأس هؤلاء كانت زبيدة أم الأمين.

ويبدو حرص زبيدة على سلامة المأمون وكرامته في وصيتها إلى علي بن عيسى بن ماهان، قائد الأمين، حين خرج لحرب المأمون، حيث أوصته بحسن معاملة المأمون، بل وأوصته بألا ينسى أنه ابن هارون الرشيد ولا بد أن يعامل معاملة تليق به، فقالت:

إن أمير المؤمنين (الأمين) وإن كان ولدي وإليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري، فإني على عبدالله (المأمون) منعطفة مشفقة لما يحدث عليه مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وغاره على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وإخوته، ولا تجابهه بالكلام فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد، ولا تمنع عنه جارية ولا خادمًا، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه بالسير ولا تركب قبله، ولا تستقبل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراوده..

وفي نهاية وصيتها أعطت ابن ماهان قيدًا من فضة، ليقيد به المأمون حين القبض عليه، فلا يصح أن يقيد ابن أمير المؤمنين في قيد من حديد.

بعيدًا عن زبيدة كان أمراء البيت العباسي في صف الأمين، وممن كان منهم في موضع المسؤولية وقت الفتنة، كان عبدالملك بن صالح العباسي، الذي ذهب إلى الشام لتجنيد الجنود لصالح الأمين بعد الهزائم التي لحقت بجيشه في بلاد فارس.

ومنهم داوود بن عيسى صاحب الشرطة الذي قاتل بشراسة دفاعًا عن بغداد ضد قوات المأمون، ومنهم أيضًا سليمان بن أبي جعفر المنصور، والي دمشق، الذي هاجمه أنصار الأمويين في دمشق خلال فتنة الأمين والمأمون ففر إلى العراق، وانضم إلى الأمين في قتاله.

ومن العباسيين الذين قاتلوا بجانب الأمين كان إسحاق بن سليمان العباسي، والي أرمينية، الذي قرر الوقوف مع الأمين، وقاتل ضد قوات المأمون بقوة حين ذهبت لاحتلال أرمينية وضمها إلى ملك المأمون، وانتهى القتال الشرس بهزيمة إسحاق وأسر ابنه جعفر.

عباسيون ينقلبون على الأمين وينحازون للمنتصر

بعد أن انقلبت الحرب لصالح المأمون بعد هزيمة جيش الأمين بقيادة ابن ماهان، ومع تقدم جيوش المأمون باتجاه بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، بدأ آل العباس يراجعون موقفهم.

على رأس من انقلب على الأمين من بني العباس، كان داوود بن عيسى بن موسى العباسي، والي مكة المكرمة، وولده، حيث رأى أن الأمين هو أول من نكث العهود التي أخذها الرشيد عليه وعلى أخيه الأمين، وبناءً على ذلك قرر أن ينحاز للمأمون، رغم أنه كان معينًا واليًا على مكة من قبل الأمين.

كان ذلك عام 196هـ، وكانت قوات المأمون وقتها بقيادة طاهر بن الحسين تسيطر على بلاد الخلافة الشرقية بلدًا وراء الآخر، وعلى وشك القضاء على الأمين نهائيًا والسيطرة على بغداد.

شعر داوود أن المأمون سيكون صاحب الكفة الراجحة فقرر أن ينجو بنفسه، ولكي يجد لنفسه حجة يحفظ بها ماء وجهه، جمع أهل قريش، وقال لهم:

قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام، حين بايعنا لابنيه (يقصد مبايعة الرشيد لابنيه)، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدًا (الأمين) قد بدأ بالظلم والبغي على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل… وقد رأيت خلعه وأن أبايع عبد الله المأمون بالخلافة إذا كان مظلومًا مبغيًا عليه.

وافقه أهل مكة وقالوا: رأينا يتبع رأيك ونحن خالعوه معك.

كما راسل داوود ابنه سليمان، وكان واليًا على المدينة المنورة من قبل الأمين، وأخبره بموقفه، وطلب منه أن يفعل مثله، فاستجاب سليمان وخلع الأمين وبايع المأمون، وصار الحجاز كله مع المأمون.

نفس الأمر فعله والي مصر، العباس بن موسى بن عيسى العباسي، وكان معينًا من قبل الأمين، وهو أحد مناصريه، ولكنه غير ولاءه وبايع المأمون.

ومع مقتل الأمين عام 198هـ وإعلان المأمون خليفة للمسلمين دخل الجميع في طاعته، وسلموا بالأمر الواقع، لولا أن بادر المأمون بانقلاب على البيت العباسي كله، فتكتلوا ضده من جديد.

خليفة عباسي جديد يناوئ المأمون

انتصر المأمون بسيوف الفرس، فعاد الأمر من جديد لهم كما كان في عهد هارون الرشيد، وظل المأمون بينهم يحكم من عاصمته مرو، ولم يذهب إلى بغداد.

أراد المأمون أن يستعين بطرف جديد في معادلة السلطة، بجانب الفرس، ليكسب به نفوذًا في وجه أفراد البيت العباسي الذين لا يدري ابن مراجل ماذا يضمرون له في داخلهم، حتى وإن استسلموا لسلطانه في الظاهر.

قرر المأمون استدعاء الإمام العلوي «علي بن موسى الكاظم» من حيث إقامته بالحجاز إلى مرو، ليسند إليه ولاية العهد، وكنّاه بـ«الرضا»، وهذا القرار يعني انتقال الخلافة من بني العباس الهاشميين، إلى أبناء عمومتهم العلويين أصحاب الخلاف التاريخي معهم، وتغيير الركيزة القبلية التي تقوم عليها الدولة.

قبل عليّ الرضا بولاية العهد، وصكت العملة باسمه، وكان رجلًا تقيًا ورعًا، وهو سليل الحسين بن علي بن أبي طالب، وغلف المأمون اختياره له بغلاف ديني، وقال إنه بحث بين بني هاشم (قبيلة النبي) فلم يجد أكثر ورعًا من علي الرضا ليوليه الأمر، كما قرر المأمون خلع اللون الأسود وارتداء اللون الأخضر.

اللون الأسود هو اللون الرسمي للعباسيين؛ هو لون رايتهم وملابسهم، وأضفوا عليه قداسة دينية، واعتبر خلع المأمون له بمثابة انقلاب على الدولة العباسية من أساسها.

نتيجة لذلك ثار أفراد البيت العباسي على السلطات التابعة للمأمون في بغداد وطردوها، وعرضوا الخلافة على المنصور بن المهدي، أخو هارون الرشيد، وعم الأمين والمأمون، فرفض المنصور.

بعدها عرضوا الأمر على أخيه إبراهيم بن المهدي فقبل، وأعلنوه خليفة وبايعه كل العباسيين بمن فيهم أخوه منصور الذي رفض الخلافة.

كان إبراهيم ممن كانوا في صف الأمين، بل ويتزعم تيارًا ضد المأمون، وكانت له أشعار في رثاء الأمين، حتى إن طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون قال له بعد دخول بغداد: «بلغني أنك مائل بالرأي والهوى إلى الناكث المخلوع (الأمين)؟!

استمر إبراهيم في السلطة ما يقرب من عامين، وكان شاعرًا ومغنيًا وملحنًا، ولم يكن سياسيًا محنكًا، ولكن عمره ووضعه العائلي، كونه ابن خليفة وعم خلفاء دفعاه إلى الخلافة، وفي المقابل كان المأمون رغم شبابه أكثر حنكة سياسية، وكذلك كان يمتلك من الجيوش ما يستطيع بها غزو بغداد من جديد والاستيلاء على السلطة، لكنه تروى لأنه لا يريد مزيدًا من الدماء.

في هذه الأثناء مات الإمام علي الرضا في ظروف غامضة، وقيل إنه مات مسمومًا وإن العباسيين هم من سمموه، فوجد المأمون أن خططه لن تفيد وسط هذه المقاومة العباسية الشرسة، فتراجع عن قراراته.

 هادن المأمون العباسيين فخلع الرداء الأخضر وعاد للأسود، وقرر أن يعود إلى بغداد كعاصمة لملكه، فقابل العباسيون قراراته بارتياح نسبي، وهنا خاف إبراهيم وهرب وتخفّى، حين علم بقدوم المأمون وسط جيشه.

وبعد مدة ألقي القبض على إبراهيم، ولكنه توسل إلى المأمون أن يسامحه، وألقى شعرًا في ذلك فسامحه وانتهت الفتنة، بل صار إبراهيم من ندماء المأمون ومن المغنيين الذين يجالسونه ويغنون له.

المراجع
  1. «تاريخ بغداد»، للخطيب البغدادي
  2. «الوزراء والكتاب»، للجهيشاري
  3. «الفهرست»، لابن النديم
  4. «مروج الذهب»، للمسعودي
  5. «تاريخ الرسل والملوك»، للطبري
  6. «بغداد في تاريخ الخلافة العباسية»، لابن طيفور
  7. «الفخري في الآداب السلطانية»، لابن الطقطقي
  8. «الكامل في التاريخ»، لابن الأثير
  9. «تاريخ دمشق»، لابن عساكر
  10. «وفيات الأعيان»، لابن خلكان
  11. «أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم، للصولي
  12. «عصر المأمون»، لأحمد فريد رفاعي
  13. «الفتنة في عهدي الأمين والمأمون»، لأحمد الخطيمي
  14. «الخليفة المغيب إبراهيم بن المهدي»، لطلب صبار محل الجنابي