في مشهد المحاكمة الشهير في فيلم «الأفوكاتو» وداخل أروقة المحكمة يطرح المحامي «حسن سبانخ» سؤالًا مهمًا: «هل هناك قانون يا سادة يمنع الرقص؟» يحصل موكله على البراءة ويدخل حسن نفسه إلى السجن بلا معارضة، لأنه رغم كل شيء يجيد الرقص!

هروب من النمط

رغب (رأفت الميهي) في كسر التابوهات، لكنه كان ذكيًا بشكل كافٍ ليتجنب ذلك في البدايات، بدايته كانت ككاتب سيناريو يطرح رؤيته للواقع بشكل تقليدي، وبعد إثباته لذاته تعاون مع كمال الشيخ في أربعة أفلام من كلاسيكيات السينما المصرية، (غروب وشروق) و(شيء في صدري) و(الهارب) و(على من نطلق الرصاص). ظل الميهي يحلم بسينما مميزة تحمل الواقع المصري وتعبر عن هموم المواطن وتسهم في تغييره إلى الأفضل عن طريق لغة جديدة تواكب حركات التمرد في السينما العالمية. 

رؤية الميهي كانت تحمل انكسار جيل الستينيات، أولئك من حلموا بامتلاك كل شيء بعد ثورة يوليو لكنهم أفاقوا على هزيمة مريرة، انكسرت روح (الميهي) هو الآخر ورأى الواقع بمنظور مختلف، كل ما حلم به انتهى وكل ما لم يتوقعه أقصى المتشائمين تحقق خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام، تجرع (الميهي) المرارة مع الشعب، وجاء تطبيق الانفتاح الاقتصادي وصار كل شيء مباحًا لمن يمتلك المال، وتراجعت المبادئ والثقافة والتنوير، تراكمت العديد من الأحداث الهامة في ذهن (الميهي)، ابتداءً من نكسة 1967 ومرورًا بحرب أكتوبر وفترة حكم السادات التي شهدت العديد من الأحداث الهامة مثل مظاهرات 1977 ومعاهدة السلام والتحول الاقتصادي والتحول إلى السوق الحر بعد نظام عبد الناصر، ونهاية باغتيال السادات وظهور مارد الجماعات الإسلامية في المشهد العام مطلع الثمانينيات. حمل (الميهي) داخله خيارين، إما أن ينسحب، وإما أن يكمل طريقه في التمرد لكن بطريقته الخاصة، عن طريق أفلام تحاكي العبث وتهدم التابوهات.

هذه المرحلة رأى فيها (الميهي) العبث والغرابة والتعقيد، تشابكت فيها كل الخيوط للدرجة التي أصبحت مواجهتها وتحليلها هو العبث بذاته، لذلك خلق (الميهي) شخصية (حسن سبانخ)، الشخصية المثالية في ذلك العصر، لا يسعى لحل المشاكل وإنما للتعايش معها والانسجام مع تفاصيلها. 

عالم بلا ثوابت

يتعرّض فيلم (الأفوكاتو) لانهيار الأخلاق وصعود البراجماتية والتخلي عن المشروع في مقابل المسروق أو غير الشرعي، ينتقد التغيرات الاقتصادية والسياسية في عصر سمته الأولى هي الاضطراب والصراع بين القوى التي تسيطر وتدير اللعبة بأجهزة تحكم عن بعد لتحقيق أهدافها على حساب أي شيء آخر. يمكن اعتباره طرحًا سياسيًا عن مدى صلاحية القانون في مصر لتحقيق طموح ومطالب المواطن العادي، وكذلك فضح الفساد الذي غلف العلاقات القانونية وهو ما تصاعد مع الفساد الاقتصادي والسياسي في المجتمع.

ولأن (الميهي) لم يدّعِ الجدية في هذا الفيلم، ووقف على الخط الفاصل بين واقعيته السابقة وإفراطه في “التهريج” في مرحلة ما بعد (الأفوكاتو)، كان يجب عليه أن يصنع شخصيات فوضوية لا تعتنق فكرًا معينًا ولا تؤمن بثقافة، وتبلورت كل هذه الأفكار في شخصية (حسن عبد الرحيم) المحامي المشهور بحسن سبانخ، الذي يحب السبانخ طعامًا وفلسفة!

(حسن سبانخ) فيلسوف عصري، يعلم كل شيء عن خبايا مجتمعه أكثر من رغبته في جمع الأموال، من رموز الدولة وبقايا نظام عبد الناصر مثل (سليم أبو زيد)، ويعرف الأغنياء الحمقى من كونوا ثروات سريعة مثل (حسونة محرم)، ويعرف الموظف الذي لا يهتم إلا للقمة العيش مثل (عبد الجبار)، هذه المعرفة كفلت لحسن سبانخ التعايش خارج السجن وداخله. 

(حسن سبانخ) شخص رائق المزاج، لا يترك فرصة لأي شيء لتعكير مزاجه، بالنسبة له لا يوجد شيء صعب المنال، رجل لم يعد مهتمًا بتغيير الواقع بقدر ما هو مهتم بالتعايش معه والاستمتاع بكل لحظة فيه، قادر على تخيل شاطئ البحر داخل السجن، وقادر على ممارسة الجنس في أي مكان وفي أي وقت، رجل لم يعد يمانع أي شيء لأن الواقع حوله احتمل كل شيء. 

الحياة دي يبقى شكلها إيه من غير هزار؟

يعشق (سبانخ) اللعب مع الكبار، لكن ليس طمعًا في المال ولا رغبة في الشهرة ولا حتى لتصنّع المثل العليا، وإنما يلعب لمجرّد اللعب! هذا الأمر يكتمل حين يدخل السجن لمدة شهر دون أي تأثر منه، بل بالعكس يقوم بالدعاية لنفسه داخل عربة الترحيلات.  

قضيتك سهلة والحق معاكي، شوفيلك قضية صعبة تكوني فيها مفترية وأنا أكسبهالك.

أنت كثير الهزار.. اذهب إلى السجن حالًا

أخبار صحفية عن قضية فيلم الأفوكاتو خلال عام 83 – القصاصات تم نشرها من قبل على موقع Filgoal

استشاط الجميع غضبًا من تقديم (رأفت الميهي) لشخصياته في الفيلم، لم تنجح العبارة التي وضعها في بداية الفيلم، التي كان مضمونها أن الفيلم وشخصياته لا يمتان للواقع بصلة وأن الهدف منه هو إسعاد الجماهير، وأقيمت ضده الدعاوى وطالبوا بإيقاف عرضه لأن الفيلم أهان القضاء وأساء لسمعة الدولة، نال (رأفت الميهي) و(عادل إمام) حكمًا بالحبس لمدة عام، وبعد ذلك حصلا على البراءة، والغريب في الأمر أن القاضي الذي أصدر حكم الحبس أصبح فيما بعد أشهر محامي في مصر كلها وهو (مرتضى منصور). 

ادعى (مرتضى منصور) أنه شاهد الفيلم واستفزه مشهد مغازلة القاضي لإسعاد يونس بطريقة لا تليق، فحكم بالحبس لمدة عام على عادل إمام بطل الفيلم، رأفت الميهي المؤلف والمخرج، ويوسف شاهين موزع الفيلم، بالإضافة للممثل حمدي يوسف الذي قام بدور القاضي. تدخلت نقابة السينمائيين وأصدر المحامي العام لنيابات الجيزة قرارًا بإيقاف التنفيذ، وقدم (مرتضى منصور) استقالته لأنه رأى أن صرح العدالة يهتز، والقانون في مصر لا يطبق إلا على الضعفاء والفقراء، والعدالة يتم تطبيقها على أناس دون آخرين، واتهمه (عادل إمام) بمحاولة الحصول على رشوة، فتقدم (مرتضى) بدعوى سب وقذف وحُكم على (عادل إمام) بالحبس ستة أشهر وغرامة مليون جنيه لكنها أُلغيت بعد اعتذار (عادل) لمرتضى في الصحف. 

رؤية مستقبلية

يمكن اعتبار الفيلم في زمنه رسالة تحذير من توفر كل الشروط التي تسمح بعودة الفساد الذي تفشى في العصور السابقة، وكذلك لفت الانتباه إلى الثغرات في القوانين، تلك التي تسمح وتغري بالتلاعب وإنتاج مسار آخر للفساد. (الميهي) يفكك قيم السلطة وأفكار الفساد التي سادت في المجتمع مستندًا على ذاكرة سينمائية مميزة، أما في الزمن الحالي فيمكن اعتبار الأفوكاتو رؤية مستقبلية لعصر ما بعد التسعينيات في مصر، حيث الانخراط في الأنشطة غير القانونية والبدائل غير المشروعة نتيجة لانعدام البدائل المشروعة.

مزج الفيلم بين الواقعية والسيريالية بالشكل الذي جعله يقدم كوميديا جديدة لا ينافسه فيها أحد، نقد لاذع مأخوذ من قلب الواقع المصري، فلا يمكن مواجهة أصحاب السلطة إلا بنفس أساليبهم و بالفهلوة والصياعة وخفة الدم، تلك التي طالما تميز بها المصريون.

– بقيت فيلسوف يا فالح؟
— طول عمري فيلسوف بس إنتي اللي حمارة.

في نهاية الفيلم يدخل الثلاثي (سبانخ) و(حسونة) و(أبو زيد) إلى السجن مرة أخرى، لكن ألاعيب الأفوكاتو لا تنتهي، يقنع العسكري بالتخلي عن ملابسه له ليسهل عملية هروبه، في مقابل أن يمنح العسكري فرصة السفر إلى ليبيا لجني الأموال، أما (عبد الجبار) فيتسلم السيجار الفاخر من (سليم)، لتصبح إشارة ربما لرغبته الدائمة في أن يصبح مثل هؤلاء فاحشي الثراء، من يدخنون السيجار طوال الوقت. بينما يهرب (سليم أبو زيد) مع (حسن سبانخ) لتبدأ لعبة أخرى لا نعلم عن تفاصيلها شيئًا حتى وقتنا الحالي.