من زاوية معينة تتفرع الدراسات القرآنية المعاصرة، أي الدراسات المتعلقة بالنص القرآني نفسه من حيث هو وثيقة، ومن حيث هو وحي، إلى فرعين أساسيين: دراسات تاريخية، تحاول فهم الوثيقة، والمعنى الأساسي للوحي الإسلامي من خلال تاريخ الوثيقة، والتاريخ العربي قبل الإسلام، وبعده، وهي المدعوة في الغرب بالدراسات التاريخية-النقدية historical-critical وهي الأكثر شيوعًا في الاستشراق، ودراسات ظاهراتية phenomenological، كالتي قدمها في الغرب هنري كوربان، وألفرد سميث، وغيرهما، وهي تحاول فهم معنى الوحي الإسلامي بمعزل عن تاريخ وثيقته، وتاريخه الاجتماعي-السياسي.

ويمكن القول إن الدراسات الظاهراتية – والتي سنأتي على تفصيلها لاحقًا – تفصل بين الوحي، ووثيقته التاريخية. بعبارة أخرى هي تدرس معنى الوحي كما هو في الاعتقاد الإسلامي، أو كما أشار ألفرد سميث إلى أنَّ للمسلم الأولوية على غير المسلم، إذا كنا بصدد فهم معتقدات الإسلام. لا تعنَى الدراسة الظاهراتية للوحي عمومًا بالوثائق، وبالحقائق التاريخية؛ نظرًا لأن كل ذلك من عمل المؤرخين، وهو تخصص مختلف عن الفلسفة، وفيه شك كبير بسبب نقص معرفتنا التاريخية أولاً، وقيام المؤرخ بتأويل أحداث التاريخ ثانيًا، والضغوط الرقابية المحتمَلة في تدوين التاريخ ثالثًا. لذلك تتجنب الظاهراتية فهم الوحي بناءً على التاريخ، إذا كانت القراءة التاريخية-النقدية تبني معرفتها بالوحي على أساس عمل المؤرخين.

وهكذا يمكن القول أيضًا إن النوع الأول من الدراسات، أي التاريخية-النقدية، يعنَى بتاريخ الوحي، أما النوع الثاني، أي الظاهراتية، فيعنَى بوحي التاريخ. ويعنِي «وَحْي التاريخِ»، الذي قام الكاتب بنحته تعبيرًا عن الجهد الأساسي للمدرسة الظاهراتية، أنَّ التاريخ نفسه عبارة عن تحَقُّقٍ للوحي، أي إن التاريخ وحي متجسِّد. وهو المعنَى الذي سنجده واضحًا، ومباشرًا، في كتابات أحد أهم نماذج هذا النوع من الدراسات من العرب، أي حسن حنفي.

يرى حسن حنفي أن علم أصول الفقه بالأساس منهجٌ لتحقيق الوحي في التاريخ، وليس مجرد منهجية لاشتقاق الأحكام الشرعية؛ فإن هذه المنهجية، حين نمدها على استقامة نتائجها، تؤدي إلى تحوُّل النظرية إلى عملية process، وتحوُّل الوحي إلى تاريخ.

ما يعني ضمنًا أن حسن حنفي يعتقد أن تاريخ الإسلام ما هو إلا وحي مادي، ديناميكي، متطوِّر. وهو اعتقاد يترتب عليه إشكالات كبرى، ولكنه مبني كما رأينا على رؤيته لعلم أصول الفقه. وهي فكرة ترفع مستوى النقاش من نقاش في علوم القرآن، أي علوم الوثيقة، والتفسير، أي فهم الوثيقة، والمنهجية، إلى مرحلة أعلى، هي المستوى الأنطولوجي للوحي. بيد أن المدرسة التاريخية كذلك لا تتجنب المستوى الأنطولوجي للنقاش، ولكنها ترى الوحي نتيجةً للتاريخ، بعكس المدرسة الظاهراتية، التي ترى التاريخ نتيجةً للوحي.

لهذا يُمكن اعتبار الطرح الحالي دراسة مقارنة نقدية في العلاقة بين الوحي والتاريخ لدى كل من المدرستين: أيهما خلقَ الآخَر؟ وأيهما ظهر قبل الآخَر؟ هل التاريخ صنيعة الوعي/الوحي، أم أن الوعي/الوحي نتيجة للتاريخ؟ في الحالة الأولى، حالة كون التاريخ صنيعة للوعي/الوحي، فإن الدرس التاريخي للنص القرآني، والتاريخ الإسلامي المبكر، ليس فقط غير مفيد، بل ربما يمكن القول إنه غير ممكن من الأصل. أما في الحالة المقابلة، حالة كون التاريخ أصلًا، والوحي فرعًا، فإن التاريخ أداة لا غنى عنها لفهم الوحي. وهذا الموقف الثاني هو الأكثر شيوعًا منذ نشأة الاستشراق إلى اليوم.

بين الجابري وحسن حفني

وفي هذه المقالة نتعرض لنموذجين من أعلام الفكر العربي المعاصر من أصحاب مشاريع القراءة المسحية للتراث الإسلامي، ومن أصحاب الأعمال التفسيرية كذلك للقرآن، أحدهما يمثل المدرسة التاريخية، وهو محمد عابد الجابري (1935-2010)، والثاني يمثل المدرسة الظاهراتية، وهو حسن حنفي (1935-؟). وقد أنتج كل منهما دراسات منهجية-هرمنيوطيقية عبر عقود من الدراسة قبل إنتاج تفسير كامل للقرآن. فقد بحث الجابري تاريخ الوثيقة القرآنية، ومراحل تشكلها، وتدوينها، وجمعها، والخلاف في جمعها، ورسمها، في «مدخل إلى القرآن الكريم».

كما تطرق قبل ذلك بعقود إلى هذه الزوايا بشكل مجمل في تدشين مشروعه: «نحن والتراث»، وذلك قبل أن يضع تفسيره الكامل للقرآن الكريم: «فهم القرآن الحكيم»، في ثلاثة أجزاء. أما حسن حنفي فقد أنتج عددًا كبيرًا من الدراسات النظرية، والتطبيقية، في القرآن، والكتاب المقدس، قبل عقود من وضعه لتفسيره الكامل: «التفسير الموضوعي». وهو الذي اعتبره خاتمة مشروعه.

من أوجه المقارنة المهمة أن كلًّا منهما، الجابري وحنفي، قام بتحديد منهجيته، وموقفه الخاص، في التعامل مع السؤال الأنطولوجي: أيهما أسبق: الوحي أم التاريخ؟ في تدشين مشروعه. فقد أوضح الجابري في «نحن والتراث» منهجيته التاريخية، وكون التاريخ الإسلامي المبكر، بما هو نسق من المعلومات، مرحلة بالغة الأهمية في فهم الإسلام، وفهم القرآن. وبهذا انحاز – بشكل غير معلن – للمنهجية الاستشراقية التقليدية في التعامل مع المنتج الثقافي الشرقي. أما حسن حنفي فقد نقدَ بشكل صريح المنهجية التاريخية الاستشراقية في «التراث والتجديد»، وحاول تركيب منهجية جديدة تصلح لدراسة التراث الإسلامي، والنص القرآني، وهي معتمدة بشكل أساسي ومعلَن على المنهجية الظاهراتية.

تاريخ الوحي

في «مدخل إلى القرآن الكريم» حدد الجابري خطوات محددة لمنهجه في التعامل مع النص القرآني كمقدمة منهجية لتفسيره، فأولًا: يؤكد الجابري على ضرورة وضع القرآن في سياقه التاريخي، أي زمان نشأته، ومكانها، والظروف المحيطة بهذه النشأة، والغاية منه.

ثانيًا: يرى الجابري إمكانية قراءة القرآن قراءةً بنيوية-تطورية، أي قراءة تتحرك على محوري ترتيب النزول من جهة، وتحولات بنية النص في التاريخ من جهة أخرى.

ثالثًا: يرى الجابري أن الفهم الشامل للقرآن لا يتأتى من خلال ترتيبه في المصحف طبقًا لطول السور، أو من أول آية إلى آخر آية، بل طبقًا لترتيب نزوله؛ لأن آخره يعتمد في المعنَى على أوله، ويذكُر هنا أنه تأثر بفكرة أبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) في «الموافقات»، والقائلة بأن المدني في القرآن يفهَم على المكي. 

وكان من الطبيعي – بحسب منهجه – أن يتوصل الجابري إلى أن القرآن ما هو إلا تطوير للأطروحة اليهودية-المسيحية، خاصةً أن القرآن نفسه يقدم نفسَه كمُكمِّل ومصحِّح، لا كنقيض تام، أو ناسخ كامل.

وإلى حدٍّ أبعد يعتقد الجابري أن القرآن كان رد فعل على أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية معينة في شبه الجزيرة العربية وقتَ نشأته؛ أوضاع أدت إلى ضرورة البحث عن أطروحة بديلة، تحفظ سياق وحدانية الإله، بعد أن تم اعتماد عقيدة التثليث من جهة في المسيحية، وبعد أن صار اليهود أقليات مشتتة من جهة أخرى، فسادَت على الأكثر عقائد التعدد، أو وحدانية ناقصة.

بهذا يكون الإسلام، في نظر الجابري، أيديولوجيا مضادة لأيديولوجيا التعدد. ويرى الجابري إلى حدٍّ أعمق من ذلك أن الوحي ذاته «عملية» تطورية-تاريخية، فهو ليس خارج الزمان، وليس مكوَّنًا في لحظة واحدة.

وهي كما نرى أقرب إلى عقيدة خلق القرآن لدى المعتزلة. لكن الجابري يمد هذه العقيدة إلى مدى تاريخي أبعَد؛ فيرى أن هذه الأطروحة الديناميكية قد بدأت مع اليهودية؛ حين قرر الإله أن يكون مسموعًا في العهد القديم، ثم تطورت مع المسيحية حين قرر أن يكون مرئيًّا كذلك – بحسب العقائد المسيحية السائدة – ثم قرر أن يكون مقروءًا في الإسلام في شكل القرآن.

وحتى القرآن نفسه في نظر الجابري أطروحة متطورة ذات مراحل ثلاث؛ التلاوة، والقصص، وأخيرًا الشريعة. ويدلل على ذلك بحسب ترتيب النزول؛ فقد بدأ القرآن بـ «اقرأْ»، أي التلاوة، في المرحلة المكية، ثم تفرع إلى القصص، وانتهى في المرحلة المدنية بالشريعة.

ويرى الجابري أنه لا مندوحة من تفسير القرآن بحسب ترتيب النزول في فهم كل من العقيدة، والشريعة. وبينما هو – هذا الترتيب – معترف به، ومهم، في مجال الشريعة، لمعرفة الناسخ والمنسوخ، حيث إن من شروط النسخ ترتيبًا تاريخيًّا معينًا مؤكَّدًا بين الناسخ ومنسوخه، فإن فهم القرآن ككل، أي التفسير، لا بد من أن يكون كذلك ديناميكيًّا، تاريخيًّا، يراعي ترتيب النزول، وذلك على أساس بناء المدني على المكي كما ذكرنا آنفًا.

ويوضح الجابري في عمله التفسيري «فهم القرآن الحكيم» أن غاية منهجيته هي تركيب نسق تطوري لمسار تكوين الأطروحة القرآنية طبقًا لعلم التاريخ، واعتمادًا على ترتيب النزول من جهة، والسيرة النبوية من جهة أخرى.

وكما نرى فالهدف من منهجية الجابري ينقسم إلى شقين: أولهما هو فهم الوحي بما هو استجابة لعوامل اجتماعية-سياسية معينة، وثانيهما هو إعادة بناء المصحف –في الأذهان- بما يسمح بفهمه تطوريًّا على المحور التاريخي، وهو ما انتهى إليه بالفعل عملُه التفسيري، وما يشكل بنيته.

وأرى أن درسه للنقد التاريخي للنص القرآني لم ينتِج شكوكًا ذات اعتبار في الصحة التاريخية له، وبدلاً من ذلك اتجه – في استفادته من التاريخ – إلى إعادة بناء تصور عن القرآن بما هو «عملية»، لا كفكرة، ولا كأطروحة مكتملة في العقل الإلهي قبل الوحي، وذلك من طريقين: اللحظات الثلاث للوحي الإبراهيمي بصفة عامة، ولحظات تطور النص القرآني، ومفاهيمه الرئيسة، بصفة خاصة.

وحي التاريخ

ومن نحو آخَر ينتقد حسن حنفي هذه المنهجية التاريخية-النقدية لسببين: الأول: هو أن معرفتنا بتاريخ النص، وتاريخ العرب قُبيل الوحي، وإبَّانه، وربما بُعَيْده، محدودة في الحقيقة، إلى حد يعوقنا عن رسم صورة واقعية وموضوعية لذلك الماضي. والثاني: هو أن الدرس التاريخي-الاجتماعي للوحي يصنع – على امتداده وبعد تطبيقه – نوعًا من الفصل بين النص وبين الخبرة الحية به.

ويُقصد بذلك أنَّ الوحي، حين يُوضَع على مائدة الفحص التاريخي، يتحول إلى مادة دراسة، بينما هو في الواقع المباشر مادة اعتقاد. ولا يعني ذلك أن حنفي يفصل بين النص والتاريخ فصلًا حادًّا؛ فهو يعتبر النص صراحةً استجابةً لأحداث حياتنا اليومية. مثلًا يؤكد حنفي على أهمية أسباب النزول في فهم الشريعة، ويعتبر أن هذا الجانب هو الجانب الغائب في أصول الفقه حتى اليوم.

لكن الفارق بينه وبين المدرسة التاريخية في هذه النقطة أنه يعتبر تلك الأحداث اليومية، التي يستجيب لها النص هي نفسها نوعًا من تحقُّقِ الوعي/الوحي في الطبيعة. وهو ما يدعو إلى الاعتقاد بأن التاريخ – في نظر حنفي – لا يمكن أن يكون سببًا خالصًا للوحي، بل هو سبب ونتيجة في آنٍ، في تفاعل جدلي.

ويوضح حنفي في رسالته الأولى للدكتوراه أن علم أصول الفقه ليس فقط منهجية لاستخراج الأحكام الشرعية، أو كما عبَّر عن ذلك محمد باقر الصدر في «دروس في علم الأصول» بأن علم أصول الفقه ما هو إلا «منطق» الفقه، بالمعنى الاصطلاحي لكلمة «منطق». يرى حنفي أن هذا الفهم – على شيوعه – محدود، ولا يعبر عن علم أصول الفقه في هويته الأساسية، التي تبدأ بدراسة الوثيقة في قسم «الأدلة»، وتصعد إلى فهمها بمناهج لغوية وصورية في قسم «الاستدلال»، ثم تنتهي إلى كيفية تطبيقها عمليًّا في «الأحكام»، و«المقاصد». يعتقد حنفي أن هذا العلم أكبر من ذلك؛ فهو أداة إجرائية لتحقيق الوحي في الواقع العملي، وتجسيده في أُسرة، ومجتمع، ودولة.

وينقد حنفي كذلك مدرسة تاريخ الأشكال Formgeschichte des Evangliums في الدراسات الإنجيلية من المنطلق نفسه. فبينما تمثل هذه المدرسة في نظره قمة تطور المنهجية التاريخية-النقدية، باعتبارها كشفت عن أشكال الوعي/الوحي على المحورين النظري، والتاريخي، فإنها لم تحاول استكشاف المحور العملي، أي تَحقق الوحي في التاريخ.

لهذا انبرى حنفي لاستكشاف هذا المحور الغائب في رسالته الأولى المذكورة للدكتوراه، ففرق بين ثلاثة أنماط للوعي (أو الشعور) الإسلامي: الوعي التاريخي، أي دراسة النصوص بما هي وثائق، والوعي النظري، أي فهم النصوص بمناهج لغوية وصورية، وأخيرًا الوعي العملي أي كيفية تطبيق هذه النصوص في الواقع الموضوعي.

ويصف حنفي أزمة الدراسات المعاصرة في الهرمنيوطيقا القرآنية في صورة التصادم بين أطروحتين: التقليدية، والتاريخية-النقدية، هذا التصادم، الذي يجعل الانحياز إلى إحداهما حتميًّا بالنسبة للباحث في غياب طرح ثالث بديل. فبينما تضحِّي الأطروحة التقليدية تمامًا بالمحور التاريخي لحساب عقيدة معينة، فإن الأطروحة التاريخية-النقدية تضحِّي في المقابل بالإيمان لحساب التاريخ.

ومن ثم يقدم حنفي اقتراحه للطريق الثالث البديل، ألا وهو المعالجة الظاهراتية بما هي القادرة على تذويب هذه الثنائية. ففي سياق الطرح الظاهراتي يستقل الإيمان عن التاريخ، فهو فعل لا-تاريخي، أي لا يتعلق بعوامل تاريخية، مهما بلغت من القوة، وليس استجابة في حد ذاته لتحولات اجتماعية معينة. إنه يحدث في لا-زمان، يحدث في العقل البشري لا في التاريخ. وبالتالي هو ليس «عملية» بمعنى صيرورة تطورية ما. ليس الإيمان فحسب، بل إن فهم الأطروحة القرآنية في جوهرها، لا في تفاصيلها، كذلك لا يحدث في التاريخ.

لدى حنفي الوحي ذاته قصدية إلهية، بالمعنى الظاهراتي للقصدية، وهو حين يتنزَّل يصير كذلك قصدية بشرية. حين يتمثَّل الوعي الفردي الإنسانيُّ الوحيَ، فإنه – الوحي – يصير «وعيًا» بشريًّا. لذلك فمن الممكن القول إن الوحي عند حنفي هو الذي يصنع التاريخ، فهو ينزل أولاً، ثم يتم تمثله، ثم تحقيقه، ثانيًا. كما يمكن استنتاج أن التاريخ عند حنفي ما هو إلا مراحل تخارج لهذا الوحي، أي تحوله من فكرة إلى تطبيق. وهو معنَى «وحي التاريخِ». ولهذا كله لا تحوز الدراسة التاريخية للنصوص المقدسة في نظره أهمية كبيرة، أو أية أهمية على الإطلاق. (وقد قصَّ عليَّ حنفي، وأنا بعدُ طالب في مرحلة الدراسات العليا، لماذا رفضَ الانضمام لمشروع Corpus Coranicum في ألمانيا، رغم دعوته من قِبَل مديرة المشروع أنيكا نويفرت، أستاذة القرآنيات المعروفة في «أكاديمية برلين-براندنبورج للعلوم والإنسانيات»).

تتكون منهجية حنفي في مقابل منهجية الجابري كذلك من ثلاث خطوات أساسية: أولاً: تحليل الخبرة المعيشة للمفسِّر بالنص، وثانيًا: مقارنة نتائج هذا التحليل بخبرات أخرى لمفسرينَ مختلفينَ بالنص الواحد، وثالثًا وأخيرًا: استنباط ما هو مشترك بينها بمنهج إحصائي.

وهو يعتقد أن هذه المنهجية أقدر على مقاربة الموضوعية من المنهجيات الأخرى سابقة الذكر، وأهمها التاريخية. وهذه المنهجية في رأيه تتخلص من عيوب المدرستين التقليدية والتاريخية كليهما. إنها لا تترك مجالًا للدراسة التاريخية لمراحل نشأة النص، وتكوينه؛ تدوينًا، وجمعًا، ورسمًا؛ فهي تركز على الخبرة الحية المعيشة المعاصرة بالنص، أيًّا ما كانت مراحل تكوينه. ومن هذا المنطق حاول حنفي، نظريًّا وعمليًّا، تفكيك القراءة التاريخية للنص القرآني، وللتاريخ الإسلامي المبكر، من منظور ظاهراتي.

وفي النهاية قدم حنفي عمله التفسيري «التفسير الموضوعي» كتطبيق لمنهجيته، وهو تفسير يركز على القراءة الظاهراتية للألفاظ والعبارات والصور، التي تستثير نفسية القارئ، بما يجعله أقرب إلى «معجم ألفاظ ظاهراتي للقرآن»، إن جازَ التعبير.

تعقيب نقدي

بعد هذا الاستعراض نستطيع فهم لماذا أنتجَ الجابري تفسيرًا تكوينيًّا-بنيويًّا للقرآن، وكيف أنتج حنفي في المقابل تفسيرًا مغايرًا جذريًّا، يعتمد على القراءة الظاهراتية.

أهم ما يمكن استنتاجه في نظري من هذا العرض المقارن هو القصور في النقد التاريخي في مدرسة الجابري، والقصور المقابل في الفهم الظاهراتي للوحي، وللقرآن، في مدرسة حنفي.

فعلى جانب الجابري يمكن للقارئ أن يتساءل: ولماذا اعتمدَ الجابري على السيرة النبوية، وكتب أسباب النزول، وكتب علوم القرآن، التي تؤرِّخ للتاريخ الإسلامي المبكر، ولتكوين الوثيقة القرآنية، من دون نقد تاريخي لهذه المصادر نفسها؟ هل لأنها هي نفسها «معطيات إمبيريقية» في تعبير نصر أبو زيد فيما بعد؟

لقد أوضح نصر أبو زيد في «مفهوم النص»، والذي اعتمد فيه بدرجة كبرى على سيرة ابن هشام، وعلى «برهان» الزركشي، و«إتقان» السيوطي، أنه يأخذ المحتويات التاريخية لهذه المصادر بما هي تحظى بتصديق الناس. ويمكن التعبير عن هذا بقولنا: «إذا كنتَ تصدق هذا، يترتب عليه هذا». وذلك من دون إدخال الباحث في المعادلة، أي من دون مناقشة معتقداته هو في مدى الصحة التاريخية لتلك المعلومات الواردة في تلك المصادر.

اعتمد أبو زيد على تلك المصادر؛ لأن المسلمين يصدقون فيها، لا لأنها صادقة تاريخيًّا على نحو موضوعي. لكن الجابري في المقابل لم يوضح موقفه إلى هذا الحد. ألا يمكن –بتطبيق النقد التاريخي نفسه الذي تتمتع به المدرسة التاريخية – استبعادُ المصادر التاريخية كالسيرة وعلوم القرآن من دائرة البحث؛ باعتبارها هي نفسها محل سؤال، وبالتالي لا يمكن البناء عليها، أو البداية منها؟ وهو سؤال لم يسأله الجابري عمليًّا.

في الواقع إن التاريخ الإسلامي المبكر، وتاريخ تدوين القرآن وجمعه، يعتمد بقوة على مصادر من جانب واحد، هو جانب لجنة عثمان المشرفة على الجمع، ولا تتوفر لنا في الحقيقة معلومات كافية عن الجانب، أو الجوانب، المقابلة. صحيح أن أبا زيد انطلق من منظور أيديولوجي «إذا صدقتَ ذلك، صدقتَ ذاك»، وهو منطلق غير علمي، لكنه واضح على الأقل، ومحدد من البداية.

وهنا أعتقدُ أن قطع العقدة بالسيف هو أفضل الحلول، وأبسطها، أي: كشف النسبية التاريخية في المصادر التاريخية، وإلى أي حد يمكن أن تكون ناقصة، وغير قابلة للاعتماد عليها. وبالتالي يمكن أن يبدأ البحث من نقطة بديهية، وأقرب إلى الموضوعية. وهو ما يفتح باب النقاش مرة أخرى بصدد الحل البديل، الذي قدمه حنفي، أي المنهجية الظاهراتية. فإلى أي حد يمكن لظاهريات حسن حنفي أن تحل محل تاريخية الجابري على ما قد يكون فيها من اعتوار؟

المشكلة الأساسية في ظاهريات حنفي ليست في الظاهريات نفسها، ولا في تطبيقها؛ فقد أنتج حنفي تطبيقات مهمة في الحقيقة بالمنهج الظاهراتي بصدد «الوحي والواقع»، و«الألوان في القرآن» في «هموم الفكر والوطن».

كما أنتجت منهجيته نتائج مهمة في «التفسير الموضوعي» بلا مراء. المشكلة الجوهرية في ظاهرياته هي عدم التأسيس النسقي الفلسفي؛ فالقول مثلًا بأن «التاريخ تخارُج للوحي» مقبول في حدود الفرضية، ولكنه يحتاج إلى التأسيس النظري كي نَقبله بجدية. ولا أعني مجرد التأسيس النظري لهذه الفكرة، بل تأسيس نسق، تكون هذه الفكرة من نتائجه اللازمة منطقيًّا.

كما سنجد أن حنفي قد وقع في المنزلق نفسه، الذي انزلق إليه الجابري؛ فكل منهما انزلق في مشكلة خاصة بمنهجيته هو، وتفتح إشكال التخصص العلمي الكافي: فبينما اعتمد الجابري على المعرفة التاريخية دون تخصص كافٍ في علم التاريخ، بما يمنعه من الحكم على الصحة التاريخية للمعلومات الواردة، فإن حنفي قد اعتمد في النهاية على الدرس الإحصائي، الذي يتطلب تخصصًا غير متوفر في المناهج الإحصائية-الاجتماعية.

وهو ما يؤدي إلى القول بأن كلًّا منهما قد انتهى إلى فجوة كبيرة في منهجيته، تجعل من الصعب أن نحكم على النتائج التي انتهيا إليها، فمن ناحية يتطلب الجابري مؤرخًا متخصصًا كي يفتي في مدى صحة نتائجه، ويحتاج حنفي خبيرًا إحصائيًّا-اجتماعيًّا لاستكمال الخطوة الثالثة في منهجه.

ويبدو في نظري أن النقد الذي وجهه حنفي للمنهج التاريخي على قدر كبير من الوجاهة، لكن المشكلة في الحل الذي اقترحه بالتفصيل. لماذا يحتاج إلى مقارنة الخبرات الشعورية بالنص الواحد، واستنباط ما هو مشترك بينها بمنهج إحصائي؟ لقد اقترح هذا من أجل مقاربة المزيد من الموضوعية، رغم أن خبرة الإيمان نفسها ذاتية، ومستقلة – في وجهة نظره – عن التاريخ.

وإذا كان الهدف من التفسير هو الوقوف على تفسير موضوعي بالقدر الممكن، فإن هذا ما تقدمه المؤسسة الدينية بالفعل («التفسير الوسيط» الصادر عن الأزهر الشريف بمصر مثلًا) وهذه «الموضوعية» المزعومة هي التي تفصل فعلًا بين القارئ من جهة، والنص من جهة أخرى؛ لأنها تجعل المصدر الأساسي للاعتقاد هو التفسير، لا القرآن.

هذا بينما تعتمد فكرة الإصلاح الديني في أعم صورها على تحقيق استقلال بين الفرد، وبين المؤسسة الدينية. ومن الطبيعي أن تختلف خبراتنا الشعورية المعيشة بالنص الواحد باختلاف أفرادنا، بل باختلاف مراحل تطور الفرد الواحد معرفيًّا، واجتماعيًّا، بما لا يجعل للموضوعية – بما هي اشتراك الذوات في حقيقة واحدة – أهمية كبرى. وبالتالي قد تكفي الخطوة الأولى من منهجية حنفي، وربما يمكن ضم الخطوة الثانية (المقارنة)، لكنَّ فتح الباب لتدخل المناهج الإحصائية هو أقرب – بمثال قريب للفهم غير المتخصص – إلى انفراد لاعب ما بالكرة، حتى إذا ما ناوَر الجميعَ، ووصل إلى مبتغاه، ألقى بالكرة خارج الملعب، وطلبَ أن يستكمل لاعبٌ آخَر، متخصصٌ في لعبة مختلفة تمامًا، الوصولَ إلى الهدف!

ولا يعني كل ما سبق أن محاولة كل من المفكرينِ عقيمة، بل كانت لها نتائج مثمرة، وربما مبهرة، ولكنها تحتاج مزيدًا من الاستكمال، المنهجي، والنظري، من أجل تحقيق إصلاح ديني في مجال التفسير والقرآنيات، وليس مجرد إنتاج تفسير جديد، وعلوم قرآن جديدة.

المراجع
  1. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، تأليف لجنة من العلماء، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، مطبعة المصحف الشريف، القاهرة، ط3، 1992.
  2. حسن حنفي: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط4، 1992.
  3. حسن حنفي: التفسير الموضوعي، دون ناشر، القاهرة، ط1، 2018
  4. حسن حنفي: تأويل الظاهريات، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006
  5. حسن حنفي: دراسات فلسفية، مكتبة الأنجلو-مصرية، القاهرة، ط1، 1987
  6. حسن حنفي: ظاهريات التأويل، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006
  7. حسن حنفي: قضايا معاصرة- في فكرنا العربي المعاصر، دار التنوير، بيروت، ط1، 1981.
  8. حسن حنفي: من النص إلى الواقع (جزآن)، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003-2004
  9. حسن حنفي: هموم الفكر والوطن (ج 2)، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.
  10. محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط2، 1986م.
  11. محمد عابد الجابري: فهم القرآن الحكيم، أو التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، دار النشر المغربية، المغرب، ط1، 2008.
  12. محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، 2006.
  13. محمد عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط6، 1993.