حين خرج صلاح الدين لقتال الصليبيين في إحدى المعارك جاءه الصوفي والفقيه الشافعي نجم الدين الخبوشاني (توفي587هـ – 1191م) لوداعه، وليلتمس منه إسقاط بعض المكوس (نوع من الضرائب) من على الناس، فرفض صلاح الدين، ونتيجة لذلك وكزه الشيخ بعصاه حتى وقعت قلنسوة السلطان على الأرض، وقال له الشيخ: «قم لا نصرك الله»!

وخرج صلاح الدين إلى الحرب وانهزم، فاعتقد أن سبب هزيمته عصيانه لشيخه، فعاد من الحرب إلى العراق وقبَّل يد الخبوشاني، راجيًا إياه أن يسامحه، حسبما يروي السبكي في «طبقات الشافعية».

إلى هذه الدرجة كان صلاح الدين متدينًا مؤمنًا بشيخه (الصوفي السني، الشافعي فقهًا، الأشعري عقيدة) حتى إنه حين استولى على الحكم في مصر، وألغى الخلافة الفاطمية الشيعية، نشر هذه التوليفة الدينية بين المصريين وديَّنهم بها، عوضًا عن التشيع الإسماعيلي، الذي أغلق مدارسه، ومنبره الأهم (الجامع الأزهر)، وكان شيخه الخبوشاني – فارسي الأصل – هو أول أدواته – كما سنوضح – لفرض هذه العقيدة، أو ربما كان صلاح الدين هو أداة الخبوشاني وغيره من المشايخ لنشر هذه العقيدة في مصر.

هذه التوليفة التي لا زالت تقريبًا هي العقيدة شبه الرسمية للأزهر وشيخه، والتي كثيرًا ما تثار بسببها الخلافات مع التيار السلفي المعادي لها، لم تكن لتنتشر إلا بخطة وضعها صلاح الدين وأصر على تنفيذها، ومن بعده سلاطين بني أيوب، ومن بعدهم المماليك، لما يقرب من 350 عامًا تقريبًا، مدة الدولتين الأيوبية والمملوكية، فأصبحت هذه العقيدة واقعًا في قلوب الكثيرين من المصريين إلى يومنا هذا.

كانت النواة الأولى لصناعة هذه التوليفة والدعوة إليها هي «الخانقاه»، ذلك المكان الذي كان مدرسة ومركزًا علميًّا، ومسجدًا ومركزًا للعبادة، ومنزلًا للصوفية (من مصر وخارجها) يعيشون فيه، تحت رعاية شيخ يسمى «شيخ الشيوخ» يختاره السلطان بنفسه، لإدارة الخانقاه ويرعى التدريس بها، ويكون بمثابة شيخ أكبر للصوفية وعموم رجال الدين في السلطنة كلها.

كيف كانت تدار الخانقاه؟ ومَن أشهر المشايخ الذين جلبهم الأيوبيون ثم المماليك من خارج مصر للإقامة بها، لنشر التصوف والفكر الأشعري والفقه السني (وخاصة الشافعي) من خلالها؟ وكيف كان التحالف بين هؤلاء المشايخ والسلطة، لقطع أي صلة بالفاطميين من جهة، وهذه فائدة سياسية، ونشر المذهب السني بشكله الصوفي الأشعري في مصر، وهذه فائدة لرجال الدين؟

هذا ما نجيب عنه من واقع دراستين أكاديميتين نترجمهما من الإنجليزية إلى العربية لأول مرة، ومن خلال المصادر التاريخية العربية التقليدية.

صلاح الدين يلغي الأزهر ويستعين بمتصوفة الخارج

أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطمية الشيعية في مصر، وأمر بالدعاء على المنابر للخليفة العباسي (السُّني)، وقرر إغلاق الأزهر وكل مراكز تعليم المذهب الشيعي، التي كانت قد أُنشئت في مصر على مدى أكثر من 200 عام، وأصبحت هي مصدر العقيدة التقليدية للمصريين.

ولسد هذا الفراغ، ولأجل تغيير عقيدة الناس، قرر عام 569 هـ / 1173 م، وقيل في 564هـ – 1168م إنشاء «خانقاه»، مثل الموجودة في بغداد، واختار دار سعيد السعداء (موجودة في شارع الجمالية بالقاهرة إلى الآن) الذي كان خادمًا للخليفة الفاطمي المستنصر لتكون مقرًّا للخانقاه، ولذلك سميت الخانقاه بهذا الاسم، وأحيانًا تسمى بـ «الخانقاه الصلاحية» نسبة إلى صلاح الدين، حسبما تتفق المصادر، مثل خطط المقريزي، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان.

ولإدارة الخانقاه استحدث صلاح الدين منصب «شيخ الشيوخ»، حسبما يوضح المقريزي في خططه، وآخرون.

والملاحظ أن كل من تولوا هذا المنصب في عهد صلاح الدين أو من أتوا بعده من سلاطين الأيوبيين والمماليك، لم يكونوا أبدًا مصريين، بل كانوا جميعًا من بلاد الشرق العربي الإسلامي (فارس، العراق، الشام، تركيا)، حسبما يرصد أستاذ تاريخ الأديان بجامعة ميسوري الأمريكية ناثان هوفر Nathan Hofer في دراسته « The Origins and Development of the Office of the (Chief Sufi) in Egypt, 1173–1325 – نشأة وتطور منصب رئيس الصوفية في مصر، في الفترة من 1173–1325م»، والتي أعد خلالها قائمة بأسماء من تولوا هذا المنصب في فترة الدراسة.

أغلب المصريين في هذا الوقت كانوا إما مسلمين شيعة، وإما لا يعتنقون الإسلام، ولعل ثورات المصريين المتعددة طوال العصر الأيوبي بهدف استعادة الحكم الفاطمي كانت دليلًا على عدم تقبلهم للحاكم الجديد ومذهبه الذي يسعى لفرضه عليهم، حسبما يرصد الدكتور أيمن شاهين سلام في دراسته «المدارس الإسلامية في مصر في العصر الأيوبي ودورها في نشر المذهب السني».

لما سبق كان التركيز على جلب من يدينون بمذهب صلاح الدين وخلفائه من الخارج، وإسكانهم الخانقاه، وترصد لهم الدولة كل ما يريدون من نفقات، ورواتب، وعلى رأسها راتب «شيخ الشيوخ».

وجعل صلاح الدين لهذا الشيخ مواصفات، وهي أن يكون صوفيًّا (بلا اشتراط أن يتبع طريقة صوفية معينة)، سُنيًّا على العقيدة الأشعرية، وفقيهًا معتنقًا لأحد المذاهب السنية الشائعة الأربعة (أبو حنيفة، مالك، الشافعي، ابن حنبل)، مع تفضيل من يعتنق الفقه الشافعي، وإعطائه الأولوية، ولكن مع السماح لباقي المذاهب الأربعة بالتواجد.

ومع الخانقاه، توسع صلاح الدين ومن أتوا بعده من الأيوبيين ثم المماليك في إنشاء مدارس للعلوم الدينية السنية، ووثق أيمن شاهين سلام في دراسته المذكورة بناء حوالي 36 مدرسة لتدريس الفقه في العصر الأيوبي، يكتسح الفقه الشافعي أغلبها، ولكن ظلت الخانقاه بمثابة القيادة الروحية، والمركز الذي يشع على هذه المدارس، وظل شيخها هو الأقرب للسلطان، وبمثابة «شيخ الأزهر» في زماننا، ومع تقدم الزمن شيد السلاطين – خاصة في العهد المملوكي- خنقاوات أخرى، ولكل خانقاه شيخها، ولكنهم جميعًا كانوا يدينون بالزعامة لـ «شيخ الشيوخ»، الذي يجلس في الخانقاه الأم، حسبما نفهم من المصادر.

واستغلت الإدارة الأيوبية الجانب الخوارقي الموجود في المذهب الشيعي، وتماسه مع التصوف السني، فأُشيع أن من يسكنون الخانقاه يأتون بالكرامات والمعجزات، باعتبارهم ربانيين يحبون آل البيت، فأدى ذلك إلى أن العوام من الناس كانوا يأتون من الفسطاط إلى القاهرة الفاطمية، ليشاهدوا صوفية الخانقاه وهم متوجهون منها إلى جامع «الحاكم بأمر الله» ليصلوا الجمعة «لتحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم»، حسبما ينقل المقريزي في تاريخه.

واستمرت خانقاه سعيد السعداء (الصلاحية) هي المركز الروحي الأهم في مصر، حتى بنى السلطان المملوكي الناصر محمد خانقاه أكبر على أطراف القاهرة في سرياقوس بالقليوبية، ونقل مكتب «شيخ الشيوخ» إليها، لتصبح «سعيد السعداء» خانقاه فرعية، لا يرعاها شيخ الشيوخ بنفسه، وإنما يديرها شيخ أقل رتبة، حسبما تؤكد المصادر ومنها المقريزي.

وكان افتتاح الخانقاه الجديدة مهيبًا وحضره السلطان بنفسه إضافة إلى الأمراء ورجال الدولة، وكل رموز التصوف والمشايخ عام 1325م.

شيخ الشيوخ: رجل الدولة الصوفي

أول من تولى منصب «شيخ الشيوخ» بشكله النظامي في مصر هو صدر الدين محمد بن عماد الدين بن حمويه (توفي 617هــ – 1220م)، وسنوضح ذلك لاحقًا، ولكن قبله تولى إدارة الخانقاه نجم الدين الخبوشاني، شيخ صلاح الدين، الذي ذكرناه أعلى المقال، ولكنه لم يكن شيخًا للشيوخ، بل ناظرًا لـ «سعيد السعداء»، حسبما يتضح من المصادر.

ويرى ناثان هوفر أن الأمر استغرق حوالي 20 عامًا بعد تدشين خانقاه سعيد السعداء، ليحصل من يقوم على رأسها على لقب «شيخ الشيوخ»، وفي البداية كان يسمى ناظرًا، وكان «شيخ الشيوخ» خلال هذه المدة يمارس صلاحياته من خانقاه دمشق، التي كانت جزءًا من السلطنة الأيوبية، بل كان للأيوبيين تواجد بها قبل دخولهم مصر.

ولكن كان الخبوشاني شيخ صلاح الدين يمارس نفس الدور المنوط به شيخ الشيوخ حتى ولو لم يحصل على اللقب في مصر؛ ولمَ لا وقد كان ممن أشاروا على صلاح الدين بإلغاء الخلافة الفاطمية وإعلان تبعية مصر للخلافة العباسية السنية، ونشر التصوف السُّني والمذهب الأشعري بها، حسبما تتفق المصادر، ومنها «سير أعلام النبلاء» للذهبي، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان.

أما صدر الدين بن محمد الذي كان أول من يحصل على لقب «شيخ الشيوخ» في مصر، فقد كان حليفًا سياسيًّا قويا للأسرة الأيوبية، بجانب كونه فقيهًا شافعيًّا، صوفيًّا، أشعري العقيدة.

ولد صدر الدين في الشام، وقضى طفولته وصباه في جوين ونيسابور في فارس، وهناك حصل على علومه الدينية، وبعدها انتقل إلى همذان، وكان والده هو شيخ الشيوخ في دمشق، وبعد وفاته تولى صدر الدين المنصب خلفًا له بأمر من صلاح الدين، ثم نقل إقامته إلى سعيد السعداء في القاهرة، حسبما وثق المقريزي وغيره.

ويذكر ابن عربي في «الفتوحات المكية» وغيره من كبار الصوفية أن صدر الدين لبس الخرقة الصوفية، وهي مرتبة روحية لها قدسية كبيرة لدى المتصوفة.

وبالإضافة لهذه المكانة العلمية والروحية كانت العلاقة الشخصية بين صدر الدين وصلاح الدين بالغة القوة، وبالعائلة الأيوبية عمومًا، حتى إن زوجة صدر الدين أرضعت ابن شقيق صلاح الدين، الذي سيصير سلطانًا بعد ذلك، وهو الملك الكامل (السلطان الأيوبي).

 صار الكامل أخًا لأبناء صدر الدين من الرضاعة، ما أكسبهم نفوذًا كبيرًا داخل الدولة في فترات لاحقة، حيث شكلوا مع الأيوبيين تحالفًا دينيًّا سياسيًّا عائليًّا متينًا، على غرار «آل شيخ» و«آل سعود» في المملكة السعودية في العصر الحديث، حيث توارثت الأسرتان السلطتين السياسية والدينية جنبًا إلى جنب.

وهؤلاء الإخوة الأربعة أبناء صدر الدين، تولى 3 منهم بعد أبيهم منصب «شيخ الشيوخ» على التوالي، ورابعهم كان سياسيًّا ومسئولًا كبيرًا في الدولة، وكانوا يعرفون في عموم السلطنة بـ «أبناء الشيخ»، وكل المصادر تشير إلى أنهم كانوا من رجال الصف الأول في الدولة الأيوبية.

والأبناء حسب الترتيب هم: فخر الدين يوسف، عماد الدين عمر، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن، والأول كان سياسيًّا وكان له نفوذ كبير ولم يشغل أي منصب ديني كإخوته، الذين كانوا يشرفون بجانب منصبهم (شيخ الشيوخ) على المرقد الحسيني، وكذلك تولوا تدريس الفقه الشافعي والمذهب الأشعري في المدرسة الصلاحية وغيرها، حسبما يرصد ناثان هوفر.

في الفترة المملوكية لم يكن هناك مثل هذا التحالف العائلي، لطبيعة التكوين الجديد للدولة التي ورثت الدولة الأيوبية؛ فلم يكن الحكم وراثيًّا في الدولة المملوكية بل كانت السلطة فيها لمن غلب من الأمراء المحاربين، ولكن ظلت عقيدة الدولة كما هي، وظل تقليد «شيخ الشيوخ» موجودًا، بنفس المواصفات التي كانت موجودة في العهد الأيوبي تقريبًا، مع تعديل طفيف عليه.

الاستثناء الوحيد الذي مارسه المماليك هو أنهم لم يكونوا متعصبين للفقه الشافعي الذي كان يفضله الأيوبيون، ولكنهم أبقوا على الطبيعة الصوفية للمنصب، واشتراط المذهب الأشعري، والإصرار على أن يكون «شيخ الشيوخ» من خارج مصر، من بلاد الشرق الإسلامي كما عادة الأيوبيين، حتى إن بعض من تولوا المنصب كان لا يتقن اللغة العربية مثل كريم الدين العمولي، الذي كان يتحدث الفارسية، حسبما رصد هوفر.

 إدارة الخانقاه: مخطوطتان من العصر المملوكي

لا توجد وثيقة مكتوبة في العصر الأيوبي توضح بالتفصيل لائحة إدارة الخانقاه، ولكن هناك مخطوطتان لوقفيتين تخصان إدارة الخانقاه في العصر المملوكي، حققهما الباحث في الجامعة الأمريكية ببيروت مايكل أرنولد Michael Arnold في دراسة له بعنوان « Sufism and the Mamlūk Learned Institution: The Development of a Tradition of Sunni Learning in the Islamic Middle Period  – الصوفية والمؤسسة التعليمية المملوكية: تطور التعليم السني في العصر الإسلامي الوسيط»، سنلقي الضوء على أبرز ما جاء بهما.

الوقفية الأولى تخص خانقاه السلطان بيبرس الجاشنكير (حكم من 1309م حتى 1310)، وهي خانقاه فرعية تتبع للخانقاه الأم، وتنص وقفيتها على وجود 400 متصوف بها، منهم 100 من المقيمين، ويشمل مبناها أماكن للمعيشة، قاعات للتدريس، وأخرى للتعلم، وأخرى والعبادة بمختلف طقوسها الصوفية الخاصة والعامة.

وأوصى بيبرس بألا تقتصر الخانقاه على طريقة صوفية واحدة، أو مذهب فقهي واحد (من المذاهب الأربعة)، بشرط أن يمتثل الجميع لإدارة شيخ الخانقاه وبالأدب والأخلاق.

ويدير هذا الكيان شيخ صوفي فقيه، ويندرج تحت منه اثنان من المشايخ لإمامة المصلين، أحدهما شافعي المذهب والآخر حنفي، إضافة إلى مُبلغين اثنين للصلاة (المُبلغ هو من يكرر تكبيرات الإمام في المسجد أثناء الصلاة)، إضافة إلى مجموعة متنوعة من الوظائف كالبواب والفراش، وغيرهم. ونصت الوثيقة على تعيين أستاذ لتدريس علم الحديث، يدين عقائديًّا بما يدين به شيخ الخانقاه.

الوقفية الأخرى التي درسها مايكل أرنولد تخص خانقاه السلطان المملوكي الظاهر برقوق (حكم من 1382م حتى 1389م)، وفيها نلاحظ بداية الميل إلى المذهب الحنفي، حيث نصت الوقفية على أن يكون شيخ الخانقاه حنفي المذهب، ولكن بشرط أن يكون صوفيًّا أشعريًّا كالعادة.

واشترطت الوقفية أن يكون أئمة الصلاة فقهاء مجيدين، وقراء متمرسين في القراءات القرآنية السبعة.

ومن الوثيقتين نلحظ أن إرادة السلاطين المتعاقبين كان لها دور في توجيه الخنقاوات، ولكن مع الالتزام بالمثلث المتعارف عليه منذ صلاح الدين (التصوف، العقيدة الأشعرية، الفقه السني بمذاهبه الأربعة)، وهو المثلث الذي صبغ الأزهر بصبغته منذ إعادة افتتاحه في العصر المملوكي وحتى العصر الحديث.