تكاد لا تخلو حياة المشاهير قديمًا أو حديثًا من تناقضات وتقلُّبات لا يسعُها العقلُ في أحيانٍ كُثُر، لا سيّما بين الشخصيات العامة التي لا تمتلك لظروفٍ عديدة رفاهية أن تأخذ موقفًا قاطعًا صريحًا من القضايا الفكرية الشائكة، ومن السلطة القائمة التي تحتكر المال والقوة ومساحات الظهور والنفوذ.

والكميت بن زيد الأسدي، صاحب جولتنا التاريخية الحالية، هو شاعر مُجيد، من أبرز رموز الشعر في عصر الدولة الأموية التي هيمنت على مقدَّرات الأمة الإسلامية لأكثر من 90 عامًا. وُلِدَ الكميت عام 60هـ، وبالتالي فقد نبغ في شبابه في أحد عصور القوة والهيمنة الأموية وهو عهد عبد الملك بن مروان 65هـ – 86هـ الذي كان بمثابة التأسيس الثاني لها، ثم خلافة ابنه الوليد 86هـ – 96هـ. وفي عمره المتقدم، عاصر العشرين عامًا التي حكم فيها آخر خلفاء بني أمية الباطشين الأقوياء هشام بن عبد الملك 105هـ – 125هـ.

ولذا فلا ينبغي لنا أن نعجبَ مما تنقله لنا صفحات التاريخ عن المفارقة بين كون الكميت بن زيد من أكثر شعراء عصره انحيازًا لآل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه في نفس الوقت ممن نُقلت عنهم المدائح في حق الخلفاء الأمويين خصوم آل البيت ومرتكبي المظالم الفاجعة بحق رموزهم الفاعلة كالحسين بن علي، وحفيده زيد بن علي وغيرهما، بل ويرى البعض أنه أبدع في إطراء الأمويين أكثر مما أبدع في مدح آل البيت. فكثيرون في ذلك الزمن، لا سيّما من المشاهير، وتحت وطأة سيف السلطة وذهبها، كانت قلوبهم مع المظلومين، وسيوفهم وحدائد ألسنتهم مع ظالميهم طوعًا وكرهًا. والنفس البشرية أكثر تعقيدًا من أن تحتويها القوالب، وأبعد غورًا من أن تحيط بها توقعات المُراقب، وتتقاذفُها في كل حينٍ رياح الرهائب والرغائب.

كان الشعر في ذلك الزمان، والتفاعل الشعبي والنخبوي معه إيجابًا وسلبًا، يلعب دورًا خطيرًا يماثل دورَ الإعلام وبرامج (التوك-شو) ومواقع التواصل الاجتماعي في عصرنا الحالي، ولذا حرصت السلطة الأموية على أن تكون لها اليد الطولى في الهيمنة على ساحات الشعر ومعاركه، وصناعتها إن لزم الأمر، بتقريب هذا وإبعاد ذاك، وإغداق العطايا على رموز الشعر القادرة على إنتاج المدائح التي يسير بها الركبان من أقصى الدولة إلى أقصاها، لتحتل مساحات اللاوعي، وتفرض سطوتها الرمزية في القلوب والأعماق، كما فرضها السيف والدينار في النواحي والآفاق. وكانت السلطة تحب أن تسمع المدائح من المحسوبين على خصومها، قبل أنصارها، فلمدائح هؤلاء مذاق خاص يحمل وجوهًا متميزة من الانتصار.

شاعر بارز في زمن الشعراء

وأيماننا مبسوطة بسيوفنا …. مُطَبّقَةٌ يوم الوغى حين تُشهَرُ
وأعراضنا مستورةٌ بحياتنا …. وما خيرُ عِرضٍ لا يُصان ويُستَرُ
من الشعر الحماسي للكميت بن زيد

بدت على الكُميت منذ طفولته علائم النجابة وسرعة البديهة وحضور الردود، ومن أبرز ما يدلُّ على ذلك موقفٌ له مع شاعر العصر الفرزدق، يندرج تحت بند ما نسميه بلغتنا المعاصرة «قصف جبهة». فقد أراد الفرزدق أن يتلطَّف معه بطريقةٍ لا تخلو من الاستفزاز على عادة العديد من الكبار مع الصغار النابهين أصحاب الردود المميزة، فسأله قائلًا: يا غلام هل تحب أن أكون أباك؟، فرد عليه الكميت ردًا أقسى من المطرقة قائلًا:

أَمَّا أَبِي، فَلاَ أَبْغِي بِهِ بَدَلاً، وَلَكِنْ يَسُرُّنِي أَنْ تَكُوْنَ أُمِّي!

فذهلَ الفرزدق، ولم يستطِع أن يرد، وابتلع الإهانة راضيًا أو غيرَ راض.

وكان الكميت بن زيد في شبابه يعلم الأطفال القرآن في مسجد الكوفة. ولعلّ نشأته في الكوفة، المعقل الأزلي لأنصار آل البيت وشيعته والناقمين على الأمويين، قد فعلت فعلتها في تركيبته النفسية والاعتقادية، وجعلته آليًا من المتشيّعين لآل البيت بكل ما تحمله تلك الصفة من معانٍ.

أَلاَ لا أَرى الأيّامَ يُقضَى عَجِيبُها … بِطولٍ، وَلاَ الأحداثَ تفنَى خُطُوبُها
وَلاَ عِبَرَ الأيّامِ يَعْرِفُ بَعْضَها … بِبَعْضٍ مِنَ الأقْوَامِ إلاّ لَبِيبُها
وَمَا غُبِنَ الأقْوَامُ عن مِثْلِ خُطّةٍ … تَغَيّبَ عَنْهَا يَوْمَ قِيلَتْ أَرِيبُها
وإن لم يكن إلا الأسنّة مركب … فلا رأى للمضطرّ إلا ركوبها
من شعر الحكمة للكميت بن زيد الأسدي

لم تقتصر مواهب الكميت بن زيد على الشعر الذي نُسب إليه فيه أكثر من 5 آلاف بيتٍ، فقد كان خطيبًا مفوَّهًا تفتخر به قبيلته أسد، وكان بارعًا في حفظ الأنساب، وكان هذا بالغ الأهمية للعرب في ذلك الزمان، كما أشاد العديدون بجودة خطه وحسن كتابته. كما كان فارسًا قويًا يجيدُ فنون القتال، ووصفه بعض معاصريه بأنه كان أمهر بني أسد في الرماية.

ومما تنقله كتب التاريخ عن الكميت، والجوانب المتميِّزة في حياته، قصة الصداقة القوية العجيبة التي كانت مضرب الأمثال في وقتها بينه وبين الشاعر الطرماح بن الحكيم الطائي. فقد كان الكميت شيعيًا شديد التعصب لآل البيت، بينما كان الطرماح على مذهب الخوارج الصفرية الذين كانوا من أشد فرق الخوارج تعصبًا وإن كانوا أقل حدة من الأزارقة، والخوارج عموما ينتقصون من أو يكفرون الإمام علي. كما كان الكميت متعصبًا لأصوله العربية العدنانية، بينما كان الطرماح عربيًا قحطانيًا، نُسب له عديد من الأبيات في هجاء بني تميم، واحدة من أكبر قبائل العرب العدنانية.

الكميت وآل بيت الرسول

طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ … ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
ولكن إلى أهلِ الفضائل والنهى … وخير بني حواء والخير يُطلَبُ
إلى النفر البيض الذين بحبهم … إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ
بني هاشم رهط النبي فإنني … لهم وبهم أرضى مراراً وأغضب
من شعر الكميت بن زيد في مدح آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام

يروي ابن منظور في «مختصر تاريخ دمشق» أن الكميت كان يوصَف من البعض بأنه فقيه الشيعة، وهذا يدل على سعة علمه واطلاعه الديني والعقدي والمذهبي، وأنه كان من أبرز المجادلين والمناظرين عن أفكار شيعة آل البيت ومواقفهم.

يذكر الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن الكميت امتدح علي زين العابدين بن الحسين بشعره، فجمعه له عليٌّ مبلغًا كبيرًا من المال منه ومن أقربائه تقديرًا له، فرفض الكميت أن يأخذ شيئًا من هذا المال، وطلب في المقابل قطعة من ملابس علي بن الحسين لكي يرتديها تبرُّكًا بها، فخلع له علي ما كان يرتديه، وأهداهُ له، فطار بها الكميت فرحًا وملأ الجوَّ زهوًا. وكان علي بن الحسين يدعو له، فكان الكميت دائمًا ما يردد أنه ما فتئ يرى بركة دعاء ابن الحسين له في مواقف حياته.

ودافع الكميت عما كان يراه حقَّ آل البيت في خلافة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله:

فإن هي لم تصلحْ لحي سواهم …. فإن ذوي القربى أحقُّ وأوجبُ

في بلاط الأمويين

هلم إلى أمية إن فيها …. شفاء الواريات من الغليل

تنوعت وتباينت الأدوار التي لعبها شعر الكميت في البلاط الأموي، من الغزل الصريح في جواري القصر إلى إبداء الرأي في أشد المسائل حساسية، وهي قضية الخلافة وتوريثها.

ينقل ابن منظور في «مُختصر تاريخ دمشق» أن الكميت زار يزيد بن عبد الملك في خلافته، الذي كان مشهورًا بحبه للجواري وجلسات الطرب، وكانت جاريته الأثيرة سلّامة حاضرة، فطلب رأي الكميت فيها، هل تستحق أن يشتريها بمالٍ كثير أم لا، فأطرى الكميت على جمالها، وعبَّر عن ذلك شعرًا:

هي شمسُ النهار في الحُسن إلا … أنها فُضِّلَت بفتكِ الطِّرافِ
زانها دلُّها وثغرٌ نقيٌّ … وحديثٌ مرتَّلٌ غيرُ جافِ
خُلِقَتْ فوق مُنيةِ المُتمنِّي … فاقبل النصح يا بن عبد منافِ !

فأغدقَ عليه يزيد بن عبد الملك بأعطية وافرة، وقال له قد قبلتُ نصيحتك يا كميت.

لكن لم تمنع تلك العلاقة مع الأمويين من تعرض الكميت للتنكيل السياسي، فقد سجنه والي العراق خالد القسري، الذي كان شديد التعصب ضد المتشيعين لآل البيت (كان من عادة الأمويين تخصيص ولاية العراق لأشرس ولاته، وأحدهم موقفًا من آل البيت ومناصريه المتركزين في العراق)، غاضبًا من إحدى قصائده، ولم يستطِع الكميت الخروج من سجنه إلا فارًّا في ثياب امرأة.

وظلَّ الكميت لسنواتٍ هاربًا في عصر هشام بن عبد الملك الأموي خوفًا من بطشه به لتشيعه لآل البيت، فلما ملَّ اختار الهروب، لجأ إلى مسلمة بن عبد الملك، القائد العسكري المشهور وعميد البيت الأموي، واستنجد به أن يحصل له على عفوٍ من هشام بن عبد الملك قائلًا:

قف بالديار وقوف زائرْ … وتأنَّ إنك غير صاغرْ
يا مسلم بن أبي الوليد … لميتٍ إن شئت ناشرْ
علقت حبالي من حبا … لك ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمية … والأمور إلى المصائرْ

فأخذه مسلمة إلى بلاط هشام بن عبد الملك، وهناك ألقى الكميت خطبة عصماء يعتذر فيها إلى الخليفة هشام عن أي إهانة سابقة قد صدرت منه بحق الأمويين، ويتوب إلى الله من أي قولٍ غير منصف سبق أن قاله بحقهم ! ثم أغدق المدائح على هشام بن عبد الملك، فعفا عنه، ومنحه جائزة وافرة. وتذكر رواية أخرى أن الكميت لكي يحصل على عفوٍ من هشام لجأ إلى حيلةٍ ذكية، فاستجار بقبر معاوية بن هشام بن عبد الملك، الذي مات في حياة أبيه شابًا فحزن عليه، فلم يستطع هشام أن يفتكَ به وفاء لابنه الراحل، وأنشده الكميت أبياتًا قوية في امتداح بني أمية:

أبني أمية: إنكم … أهل الوسائل والأوامرْ
ثقتي لكل مُلِمِّةٍ … وعشيرتي دون العشائرْ
أنتم معادن للخلافة … كابرًا من بعد كابر
بالتسعة المتتابعين … خلائفًا وبخير عاشر

وينقل ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن الكميت بن زيد دعم بشعره محاولة هشام بن عبد الملك توريث الخلافة إلى ابنه أبي شاكر، بعد ابن أخيه الوليد بن يزيد الذي فرضته عليه وصية أخيه الخليفة يزيد بن عبد الملك. يقول الكميت في ذلك:

إِنَّ الْخِلَافَةَ كَائِنٌ أَوْتَادُهَا … بَعْدَ الْوَلِيدِ إِلَى ابْنِ أُمِّ حَكِيمِ

توفي الكميت بن زيد الأسدي عام 126هـ، وكان عمره زهاء ستة وستين عامًا.