من أكثر الأسئلة التي تصلني: أي فلسفة علينا اتباعها؟ وما هو الشكل العام والطريق الذي علينا حذوه في رحلة التعليم؟

الإجابة على هذا التساؤل صعبة، فكل تجربة من تجارب التعليم المنزلي متفردة بتفرد واختلاف ظروف كل أسرة وتفرد كل طفل، لذا أنا لا أؤمن بوجود (one size fits all) أو أسلوب أو فلسلفة واحدة تناسب الجميع لذا لجأت إلى الدمج بين بعض الفلسفات، فإن شبهت رحلتنا في التعليم المنزلي بأي شيء قد أشبهها برحلة نحلة في انتقاء ما يفيدها من رحيق الأزهار ولكل مرحلة يوجد رحيق أو فلسفة يكون مناسبًا لنا، قد لا يناسبنا في مرحلة أخرى ولا نأخذ أيًا من الفلسفات بشكل مجمل دون إسقاطها على ظروفنا ومبادئنا واختلاف طبيعة أطفالنا، ودائمًا البوصلة في تحديد اتجاهنا هم أطفالنا كما تحدثت عن ذلك في هذا المقال.

في تعليمنا المنزلي نتبع أسلوبًا (eclectic) أي نقوم باستخدام فلسفات مختلفة وندمج بينها تبعًا للهدف العام الذي وضعناه، فنحن نستخدم فلسفة منتسوري وندمجها مع فلسفة والدورف بالإضافة لنظام الوحدات، وندخل بعض الأشياء من فلسفة تشارلوت ماسون مثل (nature Journaling) أو ما قد يطلق عليها (مذكرات من الطبيعة)، وأعتقد أن هذا الدمج ساعدنا على جعل التجربة ثرية لنا كأسرة فبشكل عام لكل منا شخصيته المتفردة والدمج يساعد على وجود ما يستهوي كل فرد من أفراد الأسرة وإثراء حواسنا جميعًا بكيفيات مختلفة تناسب أنماطنا وطبائعنا وتحدثت عن هذا الدمج في هذا المقال.

في الوطن العربي توجد الآن كتابات كثيرة عن تطبيق فلسفة المنتسوري في التعليم المنزلي وبدأت مدونات كثيرة تتناول فلسفة والدورف أيضًا وتطبيقها في التعليم المنزلي، لكن ما لاحظته من بعض تلك الكتابات أنه بدأ يتكون فريقان؛ واحد متحيز جدًا لفلسفة ويقلل من شأن الفلسفة الأخرى وتحول تناول فلسفات تعليمية بديلة إلى مباراة كرة نشجع فيها فريقنا ونسب في الفريق الآخر، وهذا ما وجدته محيرًا جدًا بل ومنفرًا، فمن خلال دراستي لفلسفة المنتسوري درست عن فلسفة والدورف والفلسفات الأخرى ولم أجد أيًا من معلمي ومحاضريِ يتحدثون عن باقي الفلسفات باستهجان وإنما سمعت عن العديد من نقاط الالتقاء وتعلمت أن هذه الفلسفات بُني بعضها على بعض مثلما نبني الصرح أو الهرم المتماسك، وفي ظني كل من تناول أمر التعليم البديل سيوفر جزءًا من الأحجية لكن لن يتمكن فرد واحد أو صاحب فلسفة واحدة من جمع كل أجزاء الأحجية تحت مظلة واحدة، وفي ذلك رحمة وتنوع ويدربنا على انتقاء الخير والمفيد أينما كان كما علمنا ديننا الحنيف.

التعمق في دراسة الفلسفتين، منتسوري ووالدورف، جعلني أكتشف أن بهما متشابهات أكثر مما بهما مختلفات وأنه بشكل سطحي قد تجد أنهما فلسفتان متناقضتان لكن مع قراءة كتابات كل من ماريا ومنتسوري ورودلف شتاينر ستجد أنهما كانا شخصين أحدثا ثورة على نظم التعليم التقليدية، كل منهما بما تناسب مع عصره وما تناسب مع المحيط الذي نشأ فيه حينها.

ولغزارة المحتوى العربي الآن عن فلسفة المنتسوري لن أستفيض فيه، لكن لمن لا يعرفون شيئًا عن فلسفة والدورف سأقوم بتعريف بسيط لهذه الفلسفة وما هي النقاط التي تبدو بشكل سطحي أنها تناقض المنتسوري ولكنها تتشابه معها أو على الأقل تسير في نفس الاتجاه.

والدروف

للتعريف بوالدورف علينا أولاً التعريف بمؤسس الفلسفة وهو (رودلف شتاينر 1861–1925)  الذي ولد في ما يعرف الآن بكرواتيا ودرس العلوم والفلسفة والهندسة وقام بتأسيس فلسفة Anthroposophy وهي فلسفة تجعل من العالم والكون كله نظامًا متكاملاً يعتمد كل جزء فيه على الآخر وركز فيها على نظام زراعة طبيعي يتبع إيقاعًا محددًا يتوافق مع النجوم ومواقعها، وبه أيضًا فن حركة جسدي أسماه (Eurythmy) وبدأ اهتمامه بالتعليم حينما أولى له إيميل مولت، صاحب مصنع سجائر في ألمانيا، أن يبدأ بتعليم أطفال عمال المصنع الخاص به وفعلاً بدأ شتاينر على العمل على تصميم فلسفة تعليمية تساعد على النهضة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

بدأت مدرسة والدورف (اسم المدينة التي بدأت بها أول مدرسة تتبع فلسفة شتاينر) كمدرسة أولاً ولم يكن بها روضة للأطفال في البداية.

تعتمد الفلسفة على دعائم هامة قد يبدو من الوهلة الأولى أن هذه الدعائم تجعل من فلسفة والدورف مناقضة للمنتسوري، لكن عند تفصيلها سنكتشف أوجهًا عديدة للتشابه.

الدعامة الأولى: التعليم بالمحاكاة والتقليد

دعا شتاينر إلى تعليم الأطفال من خلال اشراكه معنا في مختلف الأنشطة الحياتية اليومية التي نقوم بها من طهي وخَبز، وتشجيعه على تقليدنا وذلك بتوفير بيئة مثل المنزل في المدرسة يتمكن من خلالها الطفل من اللعب الحر مع المشاركة في كل الأنشطة الهادفة التي يقوم بها الكبار حوله وتقليدهم. وهذا ما تتفق فيه الفلسفتان بشدة وهو نقل جو البيت إلى المدرسة وإيجاد النموذج للطفل من خلال المحاكاة اليومية. كلتا الفلسفتين استفاضتا في التحدث عن إعداد المدرس إعدادًا روحانيًا وعقليًا وبدنيًا حتى يكون قدوة جيدة يحاكيها الطفل وينقل للطفل عادات ومهارات تعينه في الحياة.

الدعامة الثانية: أهمية صقل المهارات الحياتية من خلال الأعمال اليدوية

فلسفة منتسوري غنية عن التعريف في الحث على صقل المهارات الحياتية لدى الطفل من خلال ركن الحياة العملية والتي يتعلم فيها الطفل كيف يعتني بنفسه من خلال تعلم مهارات المأكل والملبس والعناية بالبيئة حوله وكل ذلك من خلال دروس تقدمها المعلمة بخطوات محسوبة تعد الطفل على التعامل مع البيئة حوله بإتقان واهتمام. أما فلسفة والدورف فتولي اهتمامًا بارزًا للأعمال اليدوية مثل الغزل بالصوف والحياكة والنجارة وصنع الشمع وهكذا، ويتم ذلك من خلال تدرب القائم بالعملية التعليمية أولاً وجعل الطفل أقل من 7 سنوات يشاهد أو يشترك في أعمال بسيطة منها ثم إشراك الطفل الأكبر سنًا في تلك الأعمال اليدوية فيما بعد كجزء لا يتجزأ من المنهج. وهنا شعرت بأهمية والإفادة من جمع الفلسفتين لدينا لأني أعتقد أن شتاينر اعتمد على أن المحاكاة قد تكفي وحدها لتعلم الطفل تلك المهارات وبعض الأطفال لا يتعلمون من خلال محاكاتك فحسب، لذا وجدت أن إعطاء الطفل دروسًا بخطوات محددة على شاكلة دروس منتسوري في تعليم الطفل الأعمال اليدوية يكون مفيدًا جدًا في تبسيط المهارة لديه.

الدعامة الثالثة: إدخال الحس الفني والرسم في مختلف المواد التعليمية

تعتني فلسفة شتاينر بالرسم والتلوين والفنون بشكل عام عناية كبيرة ويتم تعليم التلوين باستخدام الألوان المائية على سبيل المثال من خلال خطوات محددة، ففي البداية يتم استخدام لون فقط من الألوان الأساسية ثم لونين معًا ثم الثلاثة ألوان وبذلك يتعرف الطفل رويدًا على الألوان الثنائية ويتعرف على درجات الألوان وذلك من خلال استخدامهم بشكل حي وخلطهما معًا، وأعجبت جدًا بهذا التدرج فأذكر عندما كنت أضع الألوان الأساسية أمام ابنتي في صغرها كانت تخلطهم جميعًا وتكون النتيجة لوحة من اللون البني لأنها خلطتهم جميعًا، أما بتقديم لون واحد فقط تعلمت اسم اللون ودرجاته ثم بعد ذلك تعلمت الألوان التي تتكون عن خلط الأحمر مع الأصفر ودرجاتهما ثم الأخضر مع الأحمر أو مع الأصفر وهكذا ويتشابه ذلك كثيرًا مع تقديم منتسوري للألوان في ركن الأنشطة الحسية والتدرج الذي قدمت به بطاقات الألوان.

في دراستي وجدت تشجيعًا على إيجاد ركن الابتكار في بيئة المنتسوري الذي يحتوي على الأدوات الفنية مثل الألوان والصمغ والصلصال وهكذا، لكن لم أجد دروسًا محددة تساعدني وتساعد الطفل على كيفية استخدام هذا الركن وإنما وجدتها متروكة لاكتشاف الطفل وهذا جيد، لكن لمن ليس لهم خلفية أو اهتمام بالجوانب الفنية مثلي وجدت صعوبة في جعل هذا الركن ممتعًا ومشجعًا لي ولأطفالي حتى بدأت بدمج والدورف وبدأت في التعرف على التكنيكيات المختلفة في الرسم والتلوين والنحت وبذلك استطعت أن أوضح لأطفالي كيف نرسم بمختلف أدوات الرسم وكيف نستخدمها ثم بعد هذا التقديم أترك لهما الحرية في اكتشاف تلك الأدوات واستخدامها بالشكل الذي يحلو لهما لكن التقديم المبدئي أعانني وأعانهم على فهم أفضل لمواصفات تلك الأدوات وكيفية التعامل معها.

الدعامة الرابعة: تأخير العلوم الأكاديمية والقراءة والكتابة حتى تبديل الأسنان اللبنية عادة بين 6-7 سنوات من عمر الطفل

هذه الدعامة قد تبدو من أول وهلة أنها شديدة التضاد في الفلسفتين فتجد في مدارس المنتسوري الأطفال يقرأون ويكتبون ويقومون بالعمليات الحسابية من سن 4 سنوات وذلك طبعًا من خلال تتبع الطفل وعدم إجباره، أما في مدارس والدورف أطفال ذوي السبع سنوات يبدأون في تعلم القراءة والكتابة والعمليات الحسابية لذا أحب أن أنوه أن التركيز على تأخير الأكاديميات في والدورف لم يكن تأخيرًا لسن معين وإنما لعلامة معينة وكانت هذه العلامة هي تبديل أسنان الطفل، ووجدت اختلافًا كبيرًا في وصول الأطفال لتلك العلامة فهناك من لا يبدأون بتبديل أسنانهم حتى السبع سنوات ومنهم من يبدأون بتبديلها مثل ابنتي ببلوغهم الخمس سنوات.

ما وجدت أنه ما قد يجعل الفلسفتين متشابهتين في هذه النقطة هو عدم فرض الأكاديميات مبكرًا، فإن كانت الأكاديميات تقدم مبكرًا في مدارس المنتسوري لكنها تكون باتباع الطفل لذا تجد في مدارس المنتسوري طفلاً يقرأ ويكتب في الرابعة من عمره وفي نفس الفصل زميله ذو الخمس أو الست سنوات لا يقرأ ولا يكتب، ومن يفهم فلسفة المنتسوري فلسفة حقة يجد أن احترام كليهما وتقديرهما هو أصل فلسفة المنتسوري وإجبار الأكاديميات لا يمت للمنتسوري بصلة. لذا كما ذكرت في مقالي هذا ما دفعنا للعلوم الأكاديمية في تعليمنا المنزلي كان تتبع طفلتي وليس العكس.


الدعامة الخامسة: تشجيع التخيل من خلال القصص والحكايات

هذه النقطة هي من أكثر النقاط التي في ظني ظُلمت فيها فلسفة منتسوري لأن ما هو منتشر أن ماريا منتسوري كانت ضد الابتكار والتخيل خاصة قصص الخيال وكانت في دراستي هذه النقطة أكثر ما يؤرقني، فقد قرأت في العديد من المدونات عن البعد التام عن تقديم القصص التخيلية للأطفال التي تتحدث عن الجنيات والكائنات الخرافية أو الحيوانات التي تتحدث وهكذا ولذا سألت محاضرتي عن هذا الأمر وكان ردها أن ماريا منتسوري كتبت عن ذلك فعلاً وأنها كانت تشجع على سرد القصص التي تنبع من حقائق الطبيعة وكانت تقول إن الطبيعة ومعجزاتها بها بما يكفي لشحذ خيال الطفل وعلينا ألا ندفع بما نتخيله ككبار على الأطفال، لكن ماريا منتسوري كانت تقرأ لابنها ماريو قصص جنيات وقصصًا عن كائنات خرافية ولما سألها عن لماذا تكتب عن عدم القيام بذلك في حين أنها تقوم بذلك نفسها وكان ردها أنه إذا رغبت في تغيير عقلية أجيال عليك باتخاذ إجراءات صارمة وخازمة أو مجحفة في البداية حتى يصلوا إلى فهم أعمق. وكأني أرى من رد منتسوري أنها أرادت المجتمع الذي كان لا يلقي اهتمامًا للطفل وإنما يغرقه في تلك القصص الخيالية ويبعد عن تعليمه اكتشاف وتخيل الظواهر التي حولنا في الطبيعة بشكل يومي أن ينتقل هذا المجتمع إلى توازن ونقطة في المنتصف يكون بها التخيل نابعًا من الطفل نفسه ويساعد على تنمية قدراته العقلية وليس تشتيتها.

نقاط أخرى كثيرة وجدتها مختلفة في الفلسفتين ولكن بالبحث عن نقاط التقاء وتشابه بينهما والدمج بين ما نراه مفيدًا في رحلة تعليمنا المنزلي لهاتين الفلسفتين ولفلسفات أخرى وجدت تجربتنا أصبحت أكثر إمتاعًا وثراءً وتنوعًا.

لا يعني هذا أني أحث على الدمج وضد استخدام فلسفة بعينها، إنما مقالي هذا لتشجيع التفكير خارج الصندوق وتتبع أطفالنا فهم من سيدلوننا على أي اتجاه نحذو وأي فلسفة/فلسفات تتناسب معهم.

Montessori

  • MacLeod-Brudenell, I & Kay, J. (Eds), (2008, 2nd Ed.) Advanced Early Years, Harlow: Pearson Educational
  • Montessori Centre International (MCI) (2013) Module 1 Philosophy London: MCI
  • Montessori, M., (1983), The Secret of Childhood, (Carter, B.B., trans.), Hyderabad, India: Sangam Books (original work published 1936)
  • Montessori, M., (1967), The Absorbent Mind, (Claremont, C., trans.), New York: Dell Publishing (original work published 1949)
  • Montessori, M., (1966), The Discovery of the Child, (Johnstone, M., trans.), Madras, India: Kalakshetra Publications (original work published 1948)
  • Montessori, M.M., (1966), The Human Tendencies and Montessori Education, Amsterdam: Association Montessori International

Waldorf 

earthschooling
Waldorf Education: Rudolf Steiner’s Ideas in Practice 
An Introduction to Steiner Education: The Waldorf School

المراجع
  1. MacLeod-Brudenell, I & Kay, J. (Eds), (2008, 2nd Ed.) Advanced Early Years, Harlow: Pearson Educational
  2. thebearthinstitute
  3. Montessori, M., (1983), The Secret of Childhood, (Carter, B.B., trans.), Hyderabad, India: Sangam Books (original work published 1936)
  4. Montessori, M., (1967), The Absorbent Mind, (Claremont, C., trans.), New York: Dell Publishing (original work published 1949)
  5. Montessori, M., (1966), The Discovery of the Child, (Johnstone, M., trans.), Madras, India: Kalakshetra Publications (original work published 1948)
  6. Montessori, M.M., (1966), The Human Tendencies and Montessori Education, Amsterdam: Association Montessori International
  7. Montessori Centre International (MCI) (2013) Module 1 Philosophy London: MCI