يعتقد غير القانونيين أنهم يفهمون ببساطة معنى كلمة «قانون». في المقابل، ربما يكون النقاش حول «ما هو القانون؟» أكبر نقاش مفتوح داخل الدوائر القانونية.

بشكل مختصر وشديد الاختزال، هناك مدرستان أساسيتان في هذه المسألة: المدرسة الفرنسية والمدرسة البريطانية. بالنسبة للمدرسة الفرنسية، وهي مدرسة «القانون المدني» (Civil Law) يكمن القانون في «المدونة القانونية»، بحيث إذا كنت مواطناً فرنسياً وأردت أن تعرف ما «القانون» في أي مسألة؟ ستجد كتاباً يتلو عليك القانون المنظم لمسألتك. فـ«المدونة القانونية» هي مدونة الأحكام الثابتة التي يجب أن تكون ملزمة للقاضي أثناء نظره القضايا، بحيث لا يمكن للقاضي وفق هذه المدرسة أن يكون مشرعاً. فصلاحيات القاضي وفق هذا النظام تقف عند النظر في القضية لمعرفة أي المواد تنطبق عليها ومن ثم يقوم بتنزيل الحكم. وهذا النظام هو ما نعرفه في مصر وفي كثير من الدول التي استعمرتها فرنسا فعلياً أو ثقافياً.

في مقابل هذه المدرسة، تنظر المدرسة البريطانية – وهي مدرسة «القانون العمومي» (Common Law) إلى القانون بشكل مختلف تماماً. فالقانون بالنسبة لهذه المدرسة لا يكمن في مدونة أحكام، وإنما يكمن في السوابق القضائية. بمعنى أن القاضي عند نظره لأي قضية، يجد نفسه ملزماً بالسوابق القضائية التي قضى بها القضاة السابقون عليه في القضايا المماثلة. وبهذه الطريقة يكون التشريع -بشكل ما- من ضمن عمل القضاة، على عكس الحال في المدرسة الفرنسية.

ربما يكون وجود هذا النظام الأخير- أي النظام البريطاني- مفاجئاً بالنسبة للقارئ غير المتخصص، كما أنه قد يكون كذلك عسيراً على الفهم، بخاصة لو كان القارئ يقطن في دولة تتبع المدرسة الفرنسية، ولا يعرف سوى أن القانون في دولته يكمن في «مدونات» كما هو الحال في فرنسا. ويمكنني أن أقدم مساعدة لهذا القارئ المتعجب بأن أذكّره بمشاهد المحاكمات في المسلسلات الأمريكية، حيث تتبع الولايات المتحدة قانونياً المدرسة البريطانية.

في هذه الأعمال، لا ترى المحامين عادة يعودون إلى كتب تتضمن المواد القانونية، وإنما يجمعون ملفات القضايا السابقة ويقومون بمراجعتها تفصيلياً لمعرفة سوابق الأحكام في القضايا الشبيهة، ومن ثم يتوقعون الحكم الذي سيلجأ إليه القاضي. ربما يحتج عليّ المتخصصون في القانون هنا بأن ثمة تقاطعات كثيرة بين النظامين حدثت على مر الزمن، وأن كلا النظامين –حالياً- لم يعودا بهذه المثالية من الناحية العملية وأن تلاقحاً قد حدث بينهما في نقاط عديدة، وهو احتجاج في محله، لكنه لا يتعارض مع ثبات الفكرة الأساسية خلف كل نظام.

مصر: مقاومة الاستعمار بالقانون الفرنسي

في مصر، مرَّ علينا الفرنسيون والبريطانيون كمستعمرين، أي أن كلا النظامين قد مرَّا علينا بالفعل. ولكن طوال عصر التحديث، أي طوال القرن التاسع عشر، مالت النخب السياسية والقانونية في مصر للمدرسة الفرنسية. بقيت فرنسا طوال القرن هي النموذج الهادئ للنخب السياسية المصرية منذ كتَبَ رفاعة الطهطاوي كتابه الأيقوني «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وحتى قامت ثورة يوليو 1952. بل وفوق ذلك، استخدمت النخب السياسية المصرية الثقافة القانونية الفرنسية كحائط صد ضد محاولات الاستعمار الإنجليزي الذي جاء في نهاية القرن التاسع عشر، وحاول جاهداً «جلنزة» النظام القانوني المصري، أي تحويله للنظام البريطاني، ولم يفلح تقريباً.

هذه الممانعة من النخب المصرية هي السبب في توغل الصبغة الفرنسية للنظام القانوني المصري، على الأقل في صيغه الأولى. على سبيل المثال، يمكن التذكير هنا بالخلاف الشهير بين سلطات الاحتلال الإنجليزي وأيقونة المدرسة القانونية المصرية، إدوار لامبير. تولى لامبير، وهو القانوني الفرنسي الكبير، رئاسة مدرسة الحقوق الخديوية -وهي كلية الحقوق حالياً وكانت الدراسة فيها حينها بالفرنسية- في نهاية عام 1906 خلفاً لثلاثة رؤساء فرنسيين آخرين. وهو الأستاذ الذي أسهم في تشكيل عدد كبير من أهم الرموز في مسيرة التحديث القانوني في مصر، لعل أشهرهم عبد الرزاق السنهوري، الذي صك المعادلة «الحديثة» للنظام القانوني المصري كما نعرفها اليوم.

تواكب تولي لامبير لرئاسة المدرسة مع احتجاجات واسعة من الطلاب ضد اللائحة الجديدة للمدرسة، التي وضعتها سلطة الاحتلال البريطاني، ممثلة في مستشار نظارة المعارف دوجلاس دانلوب. حاول دانلوب تقليص النفوذ الفرنسي داخل المدرسة من خلال التدخل في تعيينات الأساتذة ونظام التدريس، كما حاول تقليص نفوذ الأفكار المناهضة للإنجليز في صفوف الطلبة. وعلى إثر ذلك، قدم لامبير استقالته وكتب مقالته الشهيرة التي أشاد فيها بالحركة الوطنية المصرية وبنضال الطلاب ضد الاحتلال الإنجليزي، وبهذا الموقف صار رجل القانون الفرنسي رمزاً من رموز الوطنية المصرية. وقد تبعه عدد كبير من طلاب المدرسة للدراسة تحت إشرافه في فرنسا، كان السنهوري من بينهم.

نحو تقنين الفقه

هذه المقدمة كان لا بد منها، حتى يمكننا أن نفهم المعارك التي ستدور لاحقاً حول مسألة «تقنين الفقه الإسلامي». فلا يمكننا أبداً فهم المعنى الدقيق لكلمة «تقنين» إلا بالرجوع إلى معنى كلمة «قانون» في قاموس المدرسة الفرنسية كما تقدم في بداية المقال. فالمسألة تتعلق تحديداً بإعداد قوائم ثابتة من مدونات الأحكام يقوم القاضي بتطبيقها عند النظر في القضايا. كلمة «قانون» إذن ليست بسيطة أو ثابتة المعنى أو مطلقة كما قد نتصور، ولكلٍّ من المفهومين عن «القانون» – البريطاني والفرنسي- تاريخه الاجتماعي كذلك.

فالتفكير الفرنسي في القانون بهذه الطريقة مرتبط بتاريخ الثورة الفرنسية التي قامت أساساً ضد فساد إقطاعي لعب فيه القضاة دوراً فاعلاً من خلال تلاعبهم بالأحكام في القضايا، وبالمساحة التي كانت متروكة لهم للتشريع. ومن ثم، حرصت الثورة الفرنسية على محاصرة صلاحيات القضاة التشريعية، عن طريق التأكيد الدائم على أهمية المدونة القانونية التي لا دخل للقاضي في إعدادها. فالمُشرِّع وفق هذه المدرسة يجب أن يكون مفوضاً من «الشعب»، وقد وضعتُ كلمة الشعب هنا بين معقوفتين للتأكيد على حمولتها الثورية في التاريخ الفرنسي وفي نشأة «الجمهورية». وعلى الجانب الآخر، يرتبط التفكير القانوني البريطاني بثقافة «التقاليد» العريقة في العقل الإنجليزي (Traditions) وبالسلطة المعنوية للسوابق والأعراف. إلى أي مدرسة من هاتين المدرستين ينتمي نظام الفقه الإسلامي إذن؟

بشكل عام، يمكن اعتبار النظام الفقهي الإسلامي نظاماً ثالثاً، يجمع بين سمات النظامين في بعض الجوانب، ويختلف عنهما كذلك في جوانب أخرى. وربما يكون هذا الكلام أيضاً صادماً لمن يتصورون النظام الفقهي الإسلامي باعتباره نظاماً للتفكير «الديني» وليس باعتباره نظاماً للتفكير القانوني يمكن مقارنته بالأنظمة القانونية المعاصرة سالفة الذكر. لكن صدّق أو لا تصدّق، هو كان كذلك: نظاماً للتفكير القانوني طوّرته عبر قرون نخب قانونية مدربة تدريباً بالغ الدقة، وهم الفقهاء والقضاة. صحيح أنه يعتمد في نظريته الأساسية على مصادر «دينية»، هي الكتاب والسنة. لكنه ظل يتطور ويتشكل عبر قرون من الممارسة القانونية والقضائية بحيث وصل إلى الشكل الذي عرفته المحاكم الشرعية في القرن الثامن عشر.

جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفيها نظام قائم للمحاكم الشرعية يقوم على دور فاعل للقاضي في «الاجتهاد» بالترجيح بين الآراء المتعددة في المذهب الواحد، وأحياناً بين الآراء المختلفة من خارج المذهب إذا اقتضى الأمر. فأغلب من يقرأون كتب الفقه اليوم -وتحديداً أبواب المعاملات- لا يفهمون الطبيعة «الاقتراحية» لتعدد الآراء حول المسألة الواحدة بين المذاهب المختلفة أو حتى داخل نفس المذهب، وأحياناً لدى نفس الفقيه في مراحل مختلفة من حياته. فكتابات الفقهاء بجانب دورها التعليمي لطلاب الفقه، كانت تعبّر عن نقاش مفتوح بين المذاهب والمدارس الفقهية المختلفة– التي نفهم الآن أنها مدارس «قانونية» أو «تشريعية» مختلفة- حول القضايا والمسائل.

كل هذه النقاشات يستحضرها «القاضي» في المحكمة الشرعية- والقاضي يكون فقيهاً في العادة- عند نظره للقضية محل النزاع، ومن ثم يقوم بالترجيح بين الآراء حسب طبيعة القضية، ثم يعطي حكمه. ولعلنا بهذا الكلام نفهم القاعدة التي يتحدث عنها الفقهاء التي تقول «إذا حكم القاضي ارتفع الخلاف».

يصطدم هذا التعدد المرن في كتب الفقه بتوقعات المسلم «المعاصر» الذي يعاني من الإحباط عندما يلجأ إلى كتب الفقه باحثاً عن «إجابة نهائية» تحل مسألته، فإذا به يلجأ للفقهاء والمشايخ فيجدهم يرددون عليه نفس الحديث المربك عن آراء عديدة، فينتهي به الحال إما إلى شيخ من حفاظ الحديث يتلو عليه الحكم القاطع بوصفه «الإجابة النهائية الربانية» التي يبحث عنها، أو إلى فقدان الثقة في النظام الفقهي بالكامل باعتباره نظاماً تاريخياً لا فائدة ترجى منه.

هذه الأنظمة الثلاثة، بتواريخها الاجتماعية المختلفة، التقت في مصر خلال القرن التاسع عشر، وشكلت تفاعلاتها وصراعاتها «القانون» المصري كما نعرفه اليوم. فكيف كان اللقاء بين هذه الأنظمة القانونية الثلاثة؟ وكيف شكل هذا اللقاء حياتنا القانونية والسياسية والفكرية المعاصرة؟ هذه كلها أسئلة تفتح الباب لمناقشة السرديات القائمة حول قرن التحديث القانوني في مصر، القرن التاسع عشر.

سنسعى لتقديم إجابات تلك الأسئلة في المقال المقبل.