في يوم الأربعاء 29 مارس/آذار 2017م اعتمد المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بيانًا أسماه «شِرعة الإمام» في محاولة منه لمساعدة المساجد الفرنسية على مواجهة خطاب العنف، ولإلزام المسلمين الفرنسيين عامة به، فهو خطاب «إسلامي وسطي» يُناسب الدولة الجمهورية الفرنسية.

فما الداعي لهذا البيان؟، وما علاقته بخطاب إصلاح الإسلام؟، وهل مصيره إلى نجاح؟.


البدايات

تساءل «رواد الإصلاح والنهضة الإسلامية الحديثة» – كرفاعة الطهطاوي ومحمد عبده – سؤالاً حدد منظورهم إلى الدين والدنيا معًا، ألا وهو: «لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟».

قد يبدو السؤال في محله إذا ما نُظر للمسألة من زاوية الإنجازات العسكرية والتقنية الهائلة التي حققها الغرب. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، خاصةً بعد مضي ما يقرب من قرن من الزمان.

اعتمد المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بيانا أسماه «شِرعة الإمام» لمساعدة المساجد الفرنسية على مواجهة خطاب العنف وإلزام المسلمين الفرنسيين به

يرى دايفيد سكوت أن السؤال، أي سؤال، يحمل بداخله مجموعة من الافتراضات والتصورات التي تجعل السؤال ممكنًا أصلاً، ثم إجابة السؤال – والتي من الممكن أن تأتي على شكل فعل سياسي أو اجتماعي – تأتي كاستجابة لهذه الافتراضات؛ وبالتالي يمكن للسؤال أن يُعيد رسم صورة الماضي والحاضر والمستقبل لدى من يطرحه.

بهذه المقاربة يمكن النظر لسؤال «المصلحين الأوائل»، كذلك يمكن النظر لبيان «شرعة الإمام» الصادر من فرنسا. فأما سؤال «الإصلاح»، فيفترض ضمنيًا عدة صور على أنها مسلّمات يمكن أن يُذكر منها: أن هناك خطًا زمنيًا مُقسمًا لماضٍ وحاضر ومستقبل تمشي عليه المجتمعات؛ بحيث يُمثل المستقبل كل ما هو مُتقدم.

ثانيًا، أن الغرب احتل مكانًا متقدمًا على هذا الخط؛ فأصبح الغرب متقدمًا، والمسلمون في تأخر.

ثالثًا، أن هناك فجوة زمنية تتطلب فعلاً سريعًا حتى يستطيع «المسلمون المتأخرون» اللحاق بـ«الغرب المتقدم». إن هذه الافتراضات فتحت مجالاً في فكر من يُسلِّمُ بها لتقبّل الغرب على أنه مثلٌ يمكن أن يُحتذى به.

وبالفعل هذا ما وقع: فمثلاً نجد أن محمد عبده أول من سارَع إلى تقديم تقرير حول «إصلاح» المحاكم الشرعية في عام 1899م.

وبتحليله لهذا التقرير وجد طلال أسد أن محمد عبده ساهم بشكل جذري في تحويل الشريعة الإسلامية إلى مجموعة من القوانين والقواعد تُمكِّـن الدولة المصرية «الحديثة» من التدخل فيما أصبح يُطلق عليه «الأسرة».

لفهم هذه النقطة يمكن الإشارة إلى أن «الأسرة» هي الوحدة الأولى التي اهتم بها الفكر العلماني الأوروبي وحاول صياغتها والتدخل فيها لتشكيل الإنسان الغربي، بينما في المجتمعات الإسلامية لم تُعرف «الأسرة» وإنما عُرفت «العائلة» والتي لا تدخل فيها أي جهة سيادية بشكل قانوني مُلِزم.

فقد قامت الافتراضات الموضحة سلفًا بتسهيل تقبل محمد عبده لفكرة «الأسرة» ولإمكانية تحويل الشريعة إلى قانون يُنظم تلك الأسرة.

وبهذا يُمكن النظر أيضًا لموقف قاسم أمين حول «الأسرة»: فبعد أن أصبح الإطار الفكري مهيئًا لتقبل الافتراضات الغربية، وبعد أن قدم محمد عبده نفسه فعلاً عمليًا يحول به فكرة «الأسرة» إلى مؤسسة تحكمها الشريعة بعد أن تحولت إلى قانون، أصبح المجال مهيئًا لقاسم أمين أن يذهب لأبعد من ذلك؛ وهو المناداة بتحويل الأسرة المصرية إلى أسرة على النمط الغربي .


العلمانية الفرنسية و«شرعة الإمام»

ولكن إذا كان هذا الحال مع جذور «الإصلاح الحديث» وأسئلته، فما حال مسألة «شِرعة الإمام» الفرنسية؟.

إذا ما تطرقنا لفرنسا وجدنا أن الإطار الفكري الذي يُمدّها بتصوّرها عن نفسها وعن الآخر هو «العلمانية اللائكية»، ومن هنا البداية.

فالعلمانية اللائكية تحملُ طرحًا ضمنيًا يؤكد على ضرورة الفصل الحاد بين الديني والسياسي؛ بحيث يكون الديني محله الشأن الخاص فقط. لكن هناك ما هو أبعد، فالعلمانية لا تعمل وفقًا لهذا المنطق التبسيطي حتى وإن بدا منها ذلك.

إن العلمانية لا تسعى لفصل الدين عن الدنيا، وإنما تسعى إلى ترسيم الحدود بينهما بشكل مستمر لصالح السياسي. فالعلمانية، تحديدًا في فرنسا، تُصوّر الدين على أنه شيء واحد وثابت؛ فلا فرق بين الإسلام والمسيحية لأن كليهما «دين».

ثم تبدأ في طرح أسئلة مبنية على افتراضاتها هي عن الدين حيث تجعله مُلزمًا بتقديم أجوبة تُرضيها، وآلتها في كل ذلك هو «السيادة الحديثة»؛ فالسيادة العلمانية الحديثة هي موقف ناشئ قبل الديني والسياسي ليرسم حدودها.

فالصورة العامة هنا هي أن هناك مجالاً يختلط فيه السياسي والديني، ثم تأتي السيادة العلمانية لتبدأ بطرح أسئلة سيادية تُرسم الحدود بينهما، ثم تبدأ بطرح مزيد من الأسئلة على الديني.

بفهم هذه النقاط، يبدو بيان «شرعة الإمام» جوابًا على أسئلة طرحتها «السيادة الفرنسية» على التواجد الإسلامي هناك، كذلك يبدو جوابًا على أسئلة مُلحة تطرحها العلمانية على الدين بشكل عام.

كذلك يمكن أن نقول إن البيان هو استجابة تتضمن في داخلها افتراضات علمانية. فقد أكد «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» في بيانه أن مشروع البيان بدأ الإعلان عنه عقب الاعتداءات «الإرهابية» في نوفمبر/تشرين الثاني 2015م بفرنسا .

فأول نقطة هنا هي أن البيان لم يصدر بناءً على اجتهاد ولا على تصور عُمل عليه، وإنما صدر كردة فعل على هجمات صُنفت على أنها هجمات إرهابية.

ويمكن التساؤل: من الذي صنفها كإرهابية؟، ولماذا اعتبر المجلس الفرنسي أن المسلمين مُلزَمون بإحداث تغيير كلي لرد هذا التصنيف عنهم؟، عدة أجوبة يمكن تقديمها مثل: أن التواجد الإسلامي في فرنسا تواجد مهدد ومُستهدف ويسعى لمحاولة إيجاد مكان له في الوجود الفرنسي.

لكن تماشيًا مع محاولة تحليل خطاب «الإصلاح» بشكل عام، فإن الجواب يمكن أن يكون أن السيادة العلمانية هي من صنفت الهجمات على أنها إرهابية، وعن طريق ممارستها لعملية ضغط مُستمر على التواجد الإسلامي في فرنسا، ونتيجة للمناخ العام الضاغط على الإسلام كدين بشكل عام، لجأ المجلس إلى أن يستجيب إلى العلمانية وأن يُقر بمسلماتها وأن يبدأ في تنفيذ إجراءات وفقًا لهذه المسلمات.

إن البيان يحاول تقديم صورة عامة وإرشادية للفرد المسلم وللجماعة في فرنسا إذا ما تُتبعت وُجدت فيها افتراضات علمانية خالصة، لكن يُمكن الاكتفاء بالافتراض السابق ذكره وهو قوة العلمانية على ترسيم حدود الديني.

فنجد مثلاً: أن البيان يُفتتح بتعريف الإسلام نفسِه على أنه ثمرة لتفسير النص الديني بما يتوافق مع الواقع الفرنسي فيما أسماه البيان بالاجتهاد. لكن، هذا «الاجتهاد» نجده يُفسر ضمنيًا على أنه تفسير ينبع من وطأة الواقع ويصب في خدمة النظام الجمهوري الفرنسي لا غير؛ فقد حدد العلماء على أنهم هم فقط من يتمتعون بالشُهرة في فرنسا.

وأعطى البيان إرشادًا للمسلم فيما يجب عليه فعله وما يجب أن يمتنع عنه مثل: ضرورة التخلي عن ذبح الحيوانات في المناطق العامة، وإمكانية أن تُترك الصلاة لصالح النظام العام إذا ما تعارضا، والدعوة للتخلص من تعدد الزوجات والذي «لم يعد له داعٍ»، كذلك ضرورة الامتناع عن خطابات الكراهية والعنصرية والالتزام بالمعاملة الحسنة.

يتضح من هذا أن الاجتهاد ليس في حقيقة الأمر عرفته كتب أصول الفقه، وإنما هو مجرد اسم يُستخدم لحفظ النظام العام الفرنسي، وحفظ التواجد الإسلامي من الضغط الممارس عليه. فلم يرد في النص إشارة لأي نقاش فقهي لمسألة التخلّص من تعدد الزوجات مثلاً، وإنما اكتُفي بتعليل هذا الحكم بمقتضيات الواقع الفرنسي.


السيادة، القانون، ومستقبل مسلمي فرنسا

العلمانية لا تسعى لفصل الدين عن الدنيا والعلمانية تحديدا في فرنسا تصور الدين على أنه شيء واحد وثابت فلا فرق بين الإسلام والمسيحية لأن كليهما «دين»

الأمر الهام هنا هو أن البيان بدأ بالتأكيد على أن التواجد الإسلامي هو تواجد طبيعي وتاريخي في فرنسا، ثم نجده يحاول تبرير هذا التواجد عن طريق لجوئه لمواد الدستور الفرنسي، بل ويلجأ إليها لمحاولة الدفاع عن نفسه.

هذا التوتر بين التأكيد على أن التواجد طبيعي وأنه تواجد يحتاج لمبرر، يُبرز الضغط الذي تُمارسه العلمانية على المسلمين بحيث تجعلهم دومًا محتاجين لإعادة ترسيم حدود دينهم من جهة، ومن جهة أخرى يبرز أن العلمانية هي صاحبة الكلمة العليا لأنها صاحبة السيادة في فرنسا. لكن ما الذي قد يعنيه أن العلمانية هي صاحبة السيادة؟.

القانون الحديث المنبثق من السيادة العلمانية قانون محاط بالشك والريبة فالحياة الإنسانية المعاصرة حياة يصعب على القانون البشري استيعابها قبل وقوعها

إن القانون الحديث الذي يخرج من رحم السيادة العلمانية قانون مُحاط بالشك والريبة. فيرى «جورجيو أغامبين» أن الحياة الإنسانية المعاصرة حياة مُحاطة بإمكانيات لانهائية يصعب على القانون البشري استيعابها قبل وقوعها، ومن بيده السيادة فقط هو من يستطيع في حال وقوع هذه الإمكانيات أن يحولها إلى قانون، ولو بالقوة.

وبما أن الأمر كذلك فإن كل شيء في الحياة الإنسانية يُصبح عُرضة لأن يتدخل فيه صاحب السيادة -الدولة مثلاً- ليحوله إلى قانون . هذا المناخ العام يُنشئ شعورًا بالريبة لدى الأفراد: فهم لا يعرفون أهذا الفعل الذي هم مقدمون عليه فعلٌ يُعاقب عليه أم لا، مما يدفع صاحب السيادة للتدخل لفرض قوانين جديدة لإحكام السيطرة وهكذا.

فإذا ما تحولت الشريعة إلى قانون فإنها ستصبح بدورها مُحاطة بالشك والريبة، وستجعل لِزامًا على الدولة السيادية/العلمانية أن تتدخل لتفرض مزيدًا من القوانين التي قد تُعارض الشريعة قلبًا وقالبًا.

وبهذا، يمكن فهم كيف أن المحاكم الشخصية التي «أصلحها» محمد عبده تحولت في يومنا هذا إلى ساحات من النزاع والتي تشهد دومًا حالات التهرب من القانون، كذلك كيف تحول قانون الأحوال الشخصية إلى ساحة يمكن أن تتدخل فيها الدولة أحيانًا.

وبهذا يمكن التنبؤ أن الأساس الذي بُني عليه «ميثاق الإمام»، والذي يجد جذورًا له في خطاب «المصلحين الأوائل»، هو أساس علماني سيمكن الدولة من التحكم في الشريعة إذا ما طُبق.

فالافتراضات التي يقوم عليها البيان افتراضات رسّخت للتدخل الصارخ للدولة على مدار قرنين من الزمان، كما أنها افتراضات لا يُمكن القول إنها سُتنشئ حالة من الاستقرار لدى مسلمي فرنسا، بل ستجعلهم عُرضة لمزيد من «التدخلات السيادية».

وبكلمة أخيرة، إن هذا البيان لهو استمرار لحلقة جديدة من حلقات خطاب الإصلاح الذي يحتمي بالدولة ويقبل افتراضات العلمانية بكل سهولة بحثًا عن مكان «آمن» في هذا العالم المضطرب!.

المراجع
  1. Hugo Domenach, “Le Texte qui fonde un Islam en France”, Le Point, 29/03/2017.
  2. حنان محمد، "التغير الاجتماعي في الفكر الإسلامي الحديث"، (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية)، الطبعة الأولى، صــصـ: 160-162
  3. David Scott, “Conscripts of Modernity”, (London, Duke University press, 2004), p.4
  4. طلال أسد، "تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة"، ترجمة دينا حسن فرختو، (بيروت، جسور للترجمة والنشر، 2016)، صـ: 334-342
  5. Oliver Roy, “Secularism confronts Islam”, Trans. George Holoch (New York, Columbia University Press, 2007), p. Vii
  6. Georgio Agamben, “State of Exception”, Trans. Kevin Attel, (Chicago, University of Chicago Press, 2005)
  7. Hussein Ali Agrama, “Religious Freedom and the Bind of Suspicion in contemporary Secularity”, in: “Politics of Religious Freedom”, ed. Saba Mahmood and others, (Chicago, University of Chicago Press), p. 301