استطاع عبد الرحمن بن معاوية، المشهور بصقر قريش، أن يؤسس دولة أموية قوية في جنوب غربي أوروبا، منذ وصوله إليها، سنة 138هـ، عُرفت بِاسم الأندلس، بعيدًا عن سيطرة الدولة العباسية، التي تأسست في المشرق.

استقرار الأوضاع سياسيًا على يد عبد الرحمن الداخل في الأندلس، صاحبه ازدهار تجاري في عصره، وعصور الأمراء من بعده، وفتحت أسواق وموانئ الأندلس أمام تجارة أهل المشرق، فأصبح هناك ازدهار للعلاقات التجارية، رغم الخلاف السياسي.

خَلق حسن المعاملة، والإقبال على شراء بضائع تجار الشرق في الأندلس، حالة من الألفة بين التجار وأهلها، وخير دليل على هذا حركة السفن الدائمة بين الأندلس وسوريا ومصر، لجلب مختلف السلع والبضائع، وهذا ما شجع أهل قرطبة على الرحيل إلى مصر، خصوصاً مدينة الإسكندرية، التي عرفوا أهلها وحُسن خُلقهم من المعاملة التجارية معهم، عندما حدثت ثورة الرّبض.

الصلاة يا مخمور

إحدى أشهر الثورات التي شهدتها الأندلس في عهد الحكم بن هشام، ثالث أمراء بني أمية، هي ثورة الرّبض في مدينة قرطبة، سنة 198هـ، والرّبض هي ضاحية من الضواحي المحيطة بقرطبة.

يحكي ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ»، عن الحكم بن هشام، أنه كان على عكس أبيه وجده، فعُرف عنه انشغاله باللهو والصيد، وحبه للخمر، مما دفع الناس أن يأتوا إلى قصره عند كل أذان؛ قائلين: «الصلاة يا مخمور» وهو ما كان يغضبه، وزاد من غضبه ما فعله العلماء.

حيث أنكر عليه علماء ومشايخ قرطبة، هذه الأمور، وأرادوا خلعه وإجلاس ابن عمته على عرش الأندلس، المعروف بابن الشماس، وكان في مقدمة هؤلاء العلماء يحيى بن يحيى الليثي أحد رواة الموطأ، وطالوت بن عبد الجبار وعيسى بن دينار وغيرهم من فقهاء قرطبة، لكن الحكم بن هشام استطاع أن يعرف ما يدبره العلماء، وقبض على مجموعة منهم وقتلهم. بحسب ما يقول ابن القوطية في كتابه «تاريخ افتتاح الأندلس».

حُزن أهل قرطبة على العلماء، جعلهم يتعرضون لجنود الحكم في الطرقات بالأذى والسب، وهو ما أغضب ابن هشام، فبدأ بتحصين قرطبة وعمارة أسوارها، وجلب المزيد من الجنود، حتى يكون مستعداً لأي خروج من الناس عليه. هكذا وصف ابن الأثير حال قرطبة في كتابه.

ثورة الرّبض

بدأت بذور الثورة تنبت في نفوس سكاني الرّبض، عندما قرر ابن هشام فرض مزيد من الضرائب وهي عُشر الأطعمة، تبعها القبض على عشرة أشخاص من كبار الضاحية، ثم قتلهم صلبهم في الطرقات، مما زاد من غضب وكُره الناس له، وأخيرًا كانت حادثة مقتل أحد سنّاني السيوف على يد أحد جنوده في شهر رمضان لسنة 198هـ.

فحمل سكان الرّبض السلاح ومعهم أهل الأرباض الأخرى، واتجهوا إلى قصر الحكم بن هشام، للتعبير عن غضبهم ورفضهم لما يحدث، ولكن قطع عليهم الطريق جنود ابن هشام، ودارت بينهم معركة شديدة، ورغم ما لدى جنود ابن هشام من خيل وأسلحة فإنهم انهزموا، وأحاط أهل الرّبض بالقصر.

فلما رأى ابن الحكم ما يحدث، نزل إلى جنوده، ليحثهم على القتال، وأمر ابن عمه عبيد الله، أن يحدث فُرجة (شق) في أحد أسوار القصر، ويخرج منه ومعه مجموعة من الجنود، للالتفاف وضرب أهل الرّبض من الخلف، فأضرموا فيهم النار، وقتلوا منهم الكثير.

ويقول ابن الأثير في كتابه، إن النصر الذي حققه ابن الحكم، شجعه أن يُصدر أمر بقتل ثلاثمائة أسير من أهل الرّبض، ثم صلبهم منكسين، ولم يكتفِ بذلك بل أمر برحيل مَن بقي من أهلها من قرطبة خلال ثلاثة أيام، وهذا ما حدث، وتم هدم وتخريب جميع الدور والمساجد على يد جنود ابن الحكم.

الإسكندرية: صراع النفوذ

ألِف أهل الأندلس السفر إلى الإسكندرية في رحلاتهم التجارية، لذلك عندما تفرق أهل الرّبض في أراضي الأندلس والمغرب، تخير جماعة منهم، وكان عددهم نحو 15 ألفًا، أن يركبوا البحر ويذهبوا إلى مدينة الإسكندرية، للاستقرار فيها. كما ذكر ابن القوطية في كتابه.

وصل أهل الرّبض إلى الإسكندرية، وكانت مصر تعاني من الفتن والثورات بسبب الصرع على العرش العباسي بين الأمين والمأمون، والذي انتهى لصالح الأخير، بعد قتل أخيه الأمين، سنة 198هـ، في بغداد بالعراق.

فلما استقر الأمر للمأمون في بغداد، بدأ النظر في الدول البعيدة ومنها مصر، فعين المطلب بن عبد الله الخزاعي، أميرًا عليها، وعبد العزيز الجرويّ قائدًا للشرطة، للقضاء على الثورات ورجال الأمين في مصر، ولكن ظلت الفتن تهدأ ثم تشتعل من جديد.

وكانت أشهدها الثورة التي أشعلها عبد العزيز بن الوزير الجروي، بعد أن عُزل عن وظيفته كقائد للشرطة، واستقر في تنيس (الواقعة في بورسعيد)، ومد نفوذه على مدن الوجه البحري، محاولًا إخضاع الإسكندرية له، سنة 199ه، للتخلص من الخزاعي.

مما دفع الخزاعي إلى تعيين عمر بن ملاك حاكمًا على مدينة الإسكندرية، لمواجهة الجروي، لكن بعد ثلاثة أشهر عزله، وعين مكانه الفضل بن عبد الله بن مالك، فحزن ابن ملاك لهذا، فحرّضه الجوري على الثورة وطرد الفضل منها والدعاء له – الجروي -على المنابر، فلبى طلبه.

الأندلسيون في قلب الإسكندرية

دعا ابن ملاك الأندلسيين، لمشاركته في إخراج الفضل من الإسكندرية، فواجهوا أهلها، وانهزم الأندلسيون أمامه، وعادوا إلى مراكبهم مرة أخرى، فعزل الخزاعي الفضل، وعين مكانه إسحاق بن أبرهة بن الصباح، ثم عزله، وعين مكانه أبا بكر بن جنادة بن عيسى المعافري.

وفي سنة 200هـ، لجأ الجرويّ إلى السري بن الحكم، وهو من جنود المأمون، الذين دخلوا مصر ودعوا له بالخلافة في مصر، سنة 196هـ، واتفق الجرويّ وابن الحكم على خلع المطلب عن إمارة مصر، وبايع الجنود السري بن الحكم واليًا على مصر، واستطاع أن يهزم المطلب، ورحل إلى مكة المكرمة.

دولة الأندلس بالإسكندرية

لما استقر الأمر لابن الحكم، في شهر رمضان لسنة 200هـ، ذهب عمر بن ملاك إلى الإسكندرية، لعزل أبي بكر المعافري، وأصبح حاكمًا على مدينة الإسكندرية، وقرر بن ملاك أن يخرج الأندلسيين من الإسكندرية لما فعلوه فيها من الفساد، ولكن منعه طائفة يُعرفون بالصوفية، يرأسهم أبو عبد الرحمن الصوفي، واشتهروا بالأمر بالمعروف ومعارضة الحاكم.

تحالف الأندلسيون والصوفية، كان له تأثير قوي في مدينة الإسكندرية، بخاصة لما تخيروا لأنفسهم أفضل منطقة ليعيشوا فيها، وعُرفت بـ«لخم»، وهكذا أصبحت مدينة الإسكندرية تحت النفوذ الأندلسي، وكانوا يواجهون أي معارضة لهم في المدينة بالقوة والعنف، وخير شاهد على ذلك ثورتهم على ابن ملاك، وحصارهم لقصره، ثم دخولهم إليه وقتله هو وأخاه، مما أغضب أهل الإسكندرية فحاربوا الأندلسيون لاسترجاع أرضهم، لكنهم انهزموا، وظفر بها الأندلسيون، فأعلن أبا عبد الرحمن الصوفي واليًا على الإسكندرية، في ذي الحجة، سنة 200هـ.

لم يظل الصوفي في حكمه كثيرًا، وهذا بسبب فساده وكثرة القتل والنهب من جماعته، فعزله الأندلسيون، وأجلسوا على كرسي الولاية رجلًا منهم، يُعرف بالكناني، وحاربوا بنو مُدلج، وانتصروا عليهم وطردوهم من الإسكندرية، ولم يعودا إليها إلا بعد أن استأذن لهم السري بن الحكم في العودة، فرجعوا.

وفي سنة 201هـ، ذهب الجرويّ ومعه خمسون ألفًا من الجنود، لمحاصرة مدينة الإسكندرية، وطرد الأندلسيين منها، ولكن إرسال السري بن الحكم بجنود على مدينة تنيس، مقر بيت الجرويّ دفعه للعودة، وترك محاربة الأندلسيين، لكنه أعاد الكَرة، سنة 203هـ، وحصر الأندلسيين بالإسكندرية، ولم يطل الحصار حتى اصطلحوا على فتح حصن المدينة، والقبول بأمير عليها من قبله، ولكن لم تمضِ شهور حتى خلعوه وطرد من المدينة، وهكذا ظلت إمارة الأندلس في الإسكندرية ما بين حرب وهدنة مع والي مصر ورجاله، حتى أرسل المأمون، عبد الله بن طاهر واليًا على مصر، سنة 212هـ.

موطن جديد

في سنة 212هـ، أرسل الخليفة العباسي المأمون واليًا جديدًا على مصر، لإنهاء الفتنة فيها، وضبط أمرها، وإخضاع أهلها بالطاعة إلى البيت العباسي، وقد استطاع رجُل الخليفة عبد الله بن طاهر، أن يحكم قبضته على مصر، وقضى على جميع الثورات التي كانت في مصر، حتى بقيت له مدينة الإسكندرية، التي دخلها بعد أن حاصرها بضع عشرة ليلة.

أرسل إلى ساكنيها من أهل الأندلس، وخيرهم بين أمرين أما الحرب أو الطاعة للبيت العباسي، فأجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، ولكن طلبوا منه أن يسمح لهم بالرحيل عن مصر، فأذن لهم بن طاهر، فتكرر مشهد صعودهم إلى المراكب وقطع بحر الروم بها، مرة أخرى، وذهبوا إلى جزيرة من حزر البحر، يقال لها إقريطش، فاستوطنوها، وعاشوا فيها زمن، إلى أن غزاها الروم سنة 345هـ.

المراجع
  1. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، الجزء الأول.
  2. الولاة والقضاة للكندي.
  3. تاريخ الطبري، الجزء الثامن.