وكم تمنيت أن ألقى بها أحدًا … يُسلِّي من الهم أو يعدي على النُوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا … كانت مواعيدهم كالآل في الكذب

هكذا هجا أمية بن عبد العزيز– أبوالصلت- (توفي1135م – 529هـ) مصر وأهلها، بعد أن سجنه الأمير الأفضل شاهنشاه أحمد بن بدر الجمالي، قائد الجيش الفاطمي، في عهد الخليفة المستعلي بأمر الله، وبعد أن خرج من السجن نفي من القاهرة إلى الإسكندرية، ولكنه هرب منها إلى القيروان، بحسبما جاء في رسالته «المصرية».

ما ذكرناه من هجاء لمصر لم يكن حالة فردية تخص أبوالصلت، فشعر هجاء المدن والبلدان كان شائعًا في دول المشرق العربي (بخاصة مصر والشام والعراق) في فترة الحروب الصليبية، كجزء من الحالة الهجائية العامة التي طالت كل شيء في هذا الوقت.

في هذا العصر هاجم الشعراء في المشرق العربي كل شيء حولهم، من المسؤولين والحكام، إلى أصحاب المهن والحرف، إلى المدن والبلدان والمرافق العامة، وحتى الأهل والأقارب، ناهيك عن الهجاء الطائفي… لقد كانت نيران الكراهية والرفض تُصَوّب تجاه كل شيء، بحسبما تؤكد المصادر.

في هذه المقالة نستعرض أشعارًا لشعراء من المشرق العربي، هجوا مدنهم وكرهوها، في مصر والشام، وكذلك العراق الذي لم يكن بعيدًا عن التأثر بالحالة العامة التي طالت المنطقة، بل ربما كان حاله أشد سوءًا، ولكن قبل أن نتناول هذه الأشعار وملابساتها، نلقي نظرة أولًا على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بالتأكيد أثرت على الشعراء ودفعتهم لهذه الأشعار.

صحيح أن ظاهر بعض الأبيات الشعرية يوحي بأن النزعات الفردية للشعراء كان لها الدور الأكبر في هذا الهجاء، كما يجادل الدكتور مشهور الحبازي في دراسته «شعر هجاء المدن والأقاليم في زمن حروب الفرنجة»، إلا أننا لا نستطيع فصل هذه النزعات عن السياق المجتمعي العام، المتأثر بالضعف السياسي والاقتصادي، ومظاهر ذلك من ظلم وغياب للعدالة وشيوع للفقر، في ظل ضعف الدول وحكامها، أو تبعية بعضهم للصليبيين الذين احتلوا أجزاءً كبيرة من منطقة الشرق العربي، بحسبما نفهم من دراسة الدكتور مفلح ضبعان الحويطات «شعر الهجاء في مصر والشام زمن الحروب الصليبية».

خلافتان وإقطاع وصليبيون.. وفقراء

كانت المنطقة في هذا التوقيت تخضع لخلافتين، إحداهما في بغداد (العباسية)، والثانية في القاهرة (الفاطمية)، وأصيبتا بضعف سياسي واقتصادي شديد، جعل أجزاء كبيرة من منطقة الشام وآسيا الصغرى (تركيا الحالية) تُحتل من الصليبيين، وتخرج من سلطة الدولتين اللتين كانتا تتصارعان على هذه المنطقة.

وفي هذا السياق كانت طبقة الفلاحين من أكثر الطبقات الاجتماعية التي ساءت أوضاعها، بسبب ما كان يفرض عليها من ضرائب، في كل الأقاليم، إضافة إلى ما كانت تواجهه الأراضي الشامية من غارات صليبية استهدفت نهب محاصيلهم وتخريب أراضيهم، بحسبما يوضح حلمي الكيلاني في دراسته «الخطر الصليبي: أبعاده ومقاومته».

غارات الصليبيين لم تكن على الفلاحين في الضِياع فقط بل طالت المدن الحضرية، في الشام، وكثرت الهجرة إلى الأقاليم الأبعد، كما وثق ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب».

الغارات والسلب والنهب لم يتعلق بالصليبيين فقط، بل كان قطاع الطرق وقبائل بادية الشام يفعلون نفس الشيء، في ظل ضعف أمني وترهل سياسي ونزاعات سياسية واحتلال صليبي لمدن كثيرة في الشام، والأمر نفسه كان يفعله عربان مصر من ساكني الصحاري المتاخمة للوادي والدلتا، بحسبما نفهم من كثير من المصادر.

كذلك كان لنظام الإقطاع الذي كان سائدًا دورًا في تقسيم المجتمع إلى طبقتين بينهما فوارق شاسعة، وهما طبقة الأمراء الإقطاعيين وتوابعهم من التجار وأصحاب الأعمال، وطبقة الفقراء وهي الأكثرية من الشعب، بحسبما يوضح محمد زغلول سلام في دراسته «الأدب في العصر الأيوبي».

كل ذلك إلى جانب العوامل الطبيعية المتعلقة بعوامل المياه والزراعة إلى جانب الكوارث الطبيعية كالزلازل، أدت إلى ارتفاع الأسعار في كثير من الأوقات، بل والمجاعات، وكثرة الاضطرابات الاجتماعية… وانعكس ذلك على الشعر والشعراء.

في السطور التالية نستعرض أشهر مدن ودول إقليم الشرق العربي، التي هاجمها الشعراء خلال فترة الحروب الصليبية، وأبرز ما قالوه فيها، والملابسات التي أحاطت بهذا الهجاء.

مصر

وكثيرًا ما كان يقصد بمصر في العصور الوسطى، ما يعرف الآن بالقاهرة، لأن القاهرة وقتها كانت منطقة القاهرة الفاطمية فقط، وهي التسمية (مصر) التي ما زالت دارجة على ألسنة العوام من الناس بالنسبة لإقليم القاهرة الكبرى حتى الآن.

ومما جاء في هجاء مصر في هذا العصر، ما قاله محمد بن عبدوس الواسطي (توفي601 هـ – 1204 م)، وهو من أكثر الشعراء هجاء لمصر، ومما قاله:

يا أهل مصر مدحتم مصرًا بلا برهان
وقلت هي عينٌ، نعَم، بلا إنسان
أرض عدِمنا لديها عوارف الإحسان
وكل بِر تراه فإنه في اللسان
يوم ارتحالي عنها جعلته مهرجان

وكما نرى يشتكي بن عبدوس من أن المصريين يَبِرُّون بعضهم باللسان فقط، وليس بها إحسان، ويرى أن سعادته في ارتحاله وهجرته منها، ولكنه لم يهاجر ومات فيها، بحسبما جاء في «معجم البلدان» لياقوت الحموي».

ومن هجاء مصر أيضًا، ما قاله محمد بن يوسف التلعفري (توفي675 هـ – 1276م):

مالي ولمصر لا سقاها ربي غيثًا غدقًا من ساريات السحب
بالروح دخلتها وبالقلب، فلا بالروح خرجت لا، ولا بالقلب

وكما هو واضح كان التلعفري من تلعفر بالعراق، وهاجر إلى مصر، ونتيجة معاناته بها، كتب هذا الأبيات التي يدعو فيها على مصر.

ومن هجاء مصر أيضًا ما قاله ابن الساعاتي (توفي604هـ – 1207م)، بعد ما أحس بضيق الحال والفقر بها، وعدم مساعدة أهلها له، حتى وصف نهر النيل نفسه بالبخل، بحسبما جاء في ديوانه:

وها مصر لا يقضى بها حاج طالب .. بغاها، ولا يمضى لذي أمل حكم
لأبحر منها النيل وهو مجاحة .. من البخل، لا بل أظلم القمر التم

والساعاتي ولد بدمشق، ثم انتقل إلى مصر، وكان من كبار الشعراء ولكنه لم يشعر بتقدير أهل مصر له كما ينبغي، إضافة لمعاناته المالية بها، فهجاها في أشعار كثيرة.

الإسكندرية

هي ثاني أكبر المدن المصرية بعد القاهرة، ولفترات طويلة كانت هي العاصمة، وكانت أكبر من القاهرة، وفي هذا العصر تعرضت للهجاء، وممن هجوها كان ظافر الحداد (توفي 529هـ – 1134م)، وهو من أبناء المدينة، حيث يقول في ديوانه:

لهفي على الإسكندرية، كيف يسكنها اللئام
بلد عدمت به السرور كما بها عدم الكرام
حسنت وقبح أهلها فضياؤها بهم ظلام
قوم إذا استيقظتهم لمكارم الأخلاق ناموا
قوم إذا قعد الكرام على بساط العز قاموا
فحلالهم من شحهم في كل مسألة حرام
قوم إذا استطعمتهم في يوم عيد الفطر صاموا

ويبدو أن الحداد الذي كان يعمل حدادًا، عاش حياة بائسة في الإسكندرية، مع تدهور الأحوال الاقتصادية في عصر الدولة الفاطمية، التي كانت في عصور اضمحلالها خلال حياته، ولذلك اتهم أهل الإسكندرية بسوء الخلق والطباع، والأهم البخل والشح، حتى أنه يتهكم ويتفكه عليهم بأنهم إذا سألهم سائل عن طعام يوم عيد الفطر قالوا إنهم صائمون.

سوء الأحوال في المدينة دفع شاعرها ابن مكنسة الإسكندراني (توفي 510هـ – 1116م) إلى وصف لبيته يبين مدى الفقر وضعف الحال الذي كان عليه، حيث يقول، بحسبما ينقل الأصبهاني في الخريدة:

لي بيت كأنه بيت شعر لابن حجاج من قصيد سخيف
ضايقني بنات وردان حتى أنا فيه كفارة في كنيف
أين للعنكبوت بيت ضعيف مثله وهو مثل عقل الضعيف
بقعة صد مطلع الشمس عنها فأنا مذ سكنتها في الكسوف

دمشق

دمشق التي كانت حاضرة الأمويين وعاصمة خلافتهم، كانت في هذا العصر من أكثر المدن تعرضًا للتحرشات الصليبية، والنزاعات بين الأمراء والسلاطين المسلمين، وضاق الحال بأهلها، لدرجة جعلتها أكثر المدن التي تتعرض للهجاء.

ومما جاء في هجائها، ما قاله ابن منير الطرابلسي (توفي 548هـ – 1153م):

وأعلنت ضلال الشام على الضلال المشتهر
وأطعتهم وطعنت في الخبر المعنعن والأثر
وسكنت جِلَّق واقتديت بهم وإن كانوا بقر
وهواؤهم كهوائم وخليط مائهم القذر
وعليمهم مستجعل وأخو الديانة محتقر
بقر ترى برئيسهم طيش الظليم إذا نفر
وخفيفهم مستثقل وصواب قولهم هذر
وطباعهم كجبالهم طبعت وقدت من حجر

«جِلّق» من أسماء مدينة دمشق. ويتهم ابن منير أهل المدينة بالضلال عن الدين، وإنكار الأحاديث الصحيحة، واصفًا إياهم بالبقر، كارهًا هواء المدينة، وحاكمها وطبائع أهلها.

كذلك هجا دمشق الحسن بن صافي «ملك النحاة» (توفي568هـ – 1173م)، بعد ضيق حاله وعدم تقديره بها، ما دفعه لأن يقرر الرحيل عنها، حيث قال– بحسبما جاء في «خريدة القصر» للعماد الأصفهاني:

لأرحلن مطيتي عن بلدة شعثاء يُكره ماؤها وهواؤها
ولأرمين دمشق غير مجحف بفواقر التَبَسَت لها أبناؤها
ولأزجرن العيسَ عنها مُعرضا إن أقدرتني دولة ولواؤها
فإلام أغضي في دمشق على قذى والأرض نازحة بها أرجاؤها

كما لاحظنا فإن ضيق حال الشاعر وإحساسه بعدم التقدير من قبل أهل دمشق، جعله يكره حتى هواءها وماءها، رغم أن دمشق تشتهر بطيب جوها وموفور خضارها ومائها.

أما يحيى بن مطروح (توفي 649هـ – 1251م) فشبه أهل دمشق باليهود، حيث قال– بحسبما جاء في الدراسة التي أعدها عن حياته وشعره الدكتور عوض الصالح:

اتخذتم السبت يوم عيد وهذه سنة اليهود
وكان يكفيكم ضلالًا شربكم الماء من يزيد

ونلاحظ هنا أن المقصود بتشبيه أهل دمشق باليهود، هو اتهامهم بالضلال والظلم، حيث أورد صورة أخرى تبين ضلال أهلها وظلمهم من وجهة نظره وهي أنهم من ناصروا يزيد بن معاوية، الذي شاع عنه شرب الخمر وعدم الالتزام بالتقاليد الدينية.

ولم يكن ابن مطروح دمشقي، بل مصريًا، ولكنه عاش لفترة طويلة في دمشق، حيث كان نائبًا عليها في عهد السلطان الأيوبي الملك الصالح، حيث كانت مصر والشام دولة واحدة.

حلب

كانت مدينة حلب وما زالت ثاني أكبر مدن الشام بعد دمشق، بل كانت كثيرًا ولاية مستقلة، ولكن شأنها في هذا الزمان شأن المنطقة، التي عانت من ضعف وصراع مع الصليبيين، فتعرضت وأهلها للهجاء.

وممن هجوا المدينة كان ابن عنين (توفي 630هـ – 1232م)، بحسبما ننقل عن ديوانه:

لا عاد في حلب زمان مر لي .. ما الصبح فيه من المساء بأمثل
سيان في عرصاتها رأدُ الضحى .. عندي ودَ يجورُ الظلام المسبل
في معشر لعنوا عتيقًا لا سُقُوا .. صوب الغمام ومعشر لعنوا علي
قوم عهود رجالهم محلولة .. أبدا، وعهد نسائهم لم يُحْلَل
من كل مائسة القوام رشيقة .. رودِ الشباب كدمية في هيكل

يهجو ابن عنين حلب لسوء حاله بها، ولعدم اهتمام أهلها به، ويرى أن رجالها ليسوا رجالًا، فمنهم القواد واللواط، وأن نساءها هن من يمتلكن الكلمة، رغم أنهن عاهرات… وبالطبع يبدو أن تجربته السيئة هناك هي السبب في هذه الأوصاف.

حماة

هي من المدن الكبيرة أيضًا في الشام، وتأثر أهلها بما تأثر به باقي إقليم المشرق العربي في زمن الحروب الصليبية، فهجاها كثيرون، ومنهم ابن المسجف العسقلاني (توفي 635هـ – 1237م)، الذي هجاها مع حاكمها «محمد» بن تقي الدين، الملقب بالمنصور، حيث قال– بحسبما وثق الحموي:

ما كان يصلح أن يكون محمد بسوى حماة، لقلة في دينه
قد أشبهت منه الصفات، فنهرها من جنسه وقرونها كقرونه

وهنا رأينا كيف أنه اعتبر أن أهل حماة ضعيفي الدين، ولذلك كان حاكمهم مثلهم، معتبرها أن نهر حماة (العاصي) من جنس حاكمها «عاص لله».

كذلك هجاها أمين الدين الحلبي (توفي 643هـ – 1245م)، فقال– بحسبما ننقل عن ابن الشحنة في «الدر المنتخب»:

عم البغا حَمُو حماة فمردها ونساؤها ورجالهن جميعًا
شبه النواعير التي يهدونها من مسه العاصي يدور مطيعًا

وهنا استخدم أمين الدين نفس المقاربة اللغوية التي استخدمها المنصور، حيث اعتبر أن أهلها عصاة للدين، كما نهرها «العاصي».

بغداد

عاصمة الخلافة العباسية، وحاضرة الدنيا، كانت قد تدهورت في هذا العصر، وأصبح الخليفة بها لا كلمة له أمام السلاجقة أو الزنكيين، ناهيك عن تآكل الدولة جغرافيا، كل ذلك أدى إلى شيوع المظالم والفقر بين الناس، فانعكس ذلك على الشعراء.

وممن هجوا بغداد وأشهرهم، كان سبط ابن التعاويذي (توفي 583 هـ – 1187م)، حيث قال في ديوانه:

يا قاصد بغداد جُزْ عن بلدة للجور فيها زخرة وعباب
إن كنت طالب حاجة فارجع فقد سدت على الراجي بها الأبواب

وابن التعاويذي يشتكي الظلم وغياب العدل في مدينته، حتى أنه يطلب من أي زائر غريب أن يرجع إلى حيث أتى.

وفي أبيات أخرى يوضح ابن التعاويذي كيف تبدل حال المدينة عن ماضيها الزاهر، حيث يقول:

ليست وما بعد الزمان كعهدها أيام يعمر ربعها الطلاب
ويجلها الرؤساء من ساداتها والجلة والأدباء والكتاب
والفضل في سوق الكرام يباع بالغالي من الأثمان والآداب
بادت وأهلوها معا، فبيوتهم ببقاء مولانا الوزير خراب

ابن التعاويذي لم يهجُ بغداد فقط، بل هجا العراق عمومًا، حيث قال:

لحا الله ليلا في العراق وسهرته أنقح في مدح اللئام القصائدَ
وأنسج من وشي القوافي حبائرا وأخرج من نظم المعالي فرائدَ
فلما نضا عني الظلام رداءه تيممت سوقًا للمدائح كاسدَ

الشاعر هنا يدعو على العراق الذي كان يمدحه وأهله، ولكنه اكتشف أنهم لئام ولم يعطوه مقابلًا لما أنشده فيهم فقرّر التهجّم عليه بكلماته.