في يوم 3 فبراير عام 1974 نشرت الصحف المصرية والعربية خبر اختيار الرئيس السادات – بوصفه رئيسًا للاتحاد الاشتراكي – الكاتب والصحفي المعروف علي أمين مديرًا لتحرير جريدة الأهرام. الاختيار جاء بعد يوم واحد من إقالة محمد حسنين هيكل من منصبه في الجريدة وتعيينه مستشارًا لرئيس الجمهورية.

وبقدر ما كان قرار الرئيس السادات بإقالة هيكل مثيرًا على المستوى الصحفي والسياسي، فإن قراره باختيار علي أمين مكان هيكل كان أكثر إثارة، حيث لم يتوقعه أحد على الإطلاق، سواء من الناحية السياسية أو الناحية الصحفية.

وبالطبع كان الرئيس يدرك تمامًا تأثير قراره على العاملين في الأهرام، الذين قابلوه بنوع من الاعتراض الصامت، ولكنه لم يتراجع، وبعد عدة أيام – يوم 9 – وتدعيمًا لموقف مرشحه أصدر قراره بتعيين علي أمين رئيسًا لتحرير الأهرام.

لكن عناد السادات لم يستمر طويلًا، فبعد أقل من أربعة أشهر اكتشف أن علي أمين لم ينجح في مهمته في الأهرام، وهكذا يوم 24 مايو من نفس العام أصدر قرارًا بتعيين أحمد بهاء الدين رئيسًا لتحرير الأهرام، ونقل علي أمين رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم، وبذلك انتهت فترة من أغرب الفترات التي عاشتها أكبر جريدة في مصر.

مناقشات علي أمين والسادات

في مذكراته التي صدرت بعنوان: خمسون عامًا في قطار الصحافة، يذكر الكاتب الصحفي الكبير الراحل موسى صبري أن الرئيس السادات بعد سماحه لعلي أمين بالعودة إلى مصر، كان يلتقيه كثيرًا، وعلى ما يبدو فإنه ارتاح له ولآرائه، خاصة – كما يشير صبري – أن معظمها كان يتركز على إلغاء الرقابة على الصحف، وتعديل الدستور، وإقامة حياة حزبية على أساس نظام الحزبين، كما في بريطانيا.

أكثر من ذلك – يقول صبري – أن علي أمين كان هو صاحب اقتراح هدم سجن أبي زعبل، على غرار ما حدث في سجن الباستيل في فرنسا أيام الثورة.

ومن الوارد جدًّا أن ذلك كله كان في ذهن الرئيس السادات وهو يقرر اختيار علي أمين مديرًا ورئيسًا لتحرير الأهرام، خاصة مع التغييرات الكبيرة التي أعقبت حرب أكتوبر.

سياسة الصدمة الكهربائية

في كتابه «محاوراتي مع السادات» تعرض الكاتب الصحفي الكبير الراحل أحمد بهاء الدين لقصة وأسباب اختيار الرئيس السادات لعلي أمين بديلًا لهيكل. في يوم 2 فبراير كان بهاء ضيفًا على الغداء في بيت توفيق السامرائي، وهو سياسي عراقي كان يقبع لاجئًا في مصر وقتها، وهناك التقى علي أمين الذي أخبره أن هيكل خرج من الأهرام وأن السادات اختاره مكانه، وأنه ذاهب بعد ساعة ليتسلم الجريدة.

يروي بهاء أن الخبر وقع عليه وقع الصاعقة، فلم يكن يتصور أن الأمور والخلافات بين الرئيس وهيكل وصلت لهذه الدرجة، ثم إن اختياره لعلي أمين تحديدًا بدا له غير مفهوم وغير منطقي، ليس تقليلًا من كفاءته أو قدرته وإنما لأن منصب رئيس تحرير الأهرام – مهما قيل – هو منصب سياسي في المقام الأول، واختيار من يشغله يخضع لاعتبارات معينة.

وبعد عدة أسابيع التقى بهاء الرئيس السادات ومنه عرف لأول مرة أن اختياره لعلي أمين كان نكاية في هيكل، ومع أن بهاء كان قريبًا من علي أمين وهيكل وصديقًا للاثنين فإنه لم يكن يتصور درجة العداء والخلافات بينهما، فقبل أيام من إقالته استقبل هيكل علي أمين في الأهرام وصحبه في جولة بالجريدة وكان بهاء معهما، ولم يلحظ – كما يقول في كتابه – أي نوع من العداء أو الخلاف بينهما.

ويسجل بهاء أن الرئيس السادات بذكائه كان يدرك أن معظم – إن لم يكن كل – العاملين في الأهرام لن يقبلوا علي أمين بديلًا لهيكل، فكل واحد فيهم – كما قال – يظن نفسه «هيكل صغير»، وهو لهذا السبب – كما يقول بهاء – كان يكره الأهرام، ولذلك أرسل لهم علي أمين كنوع من «الصدمة الكهربائية».

وكان أكثر شخص يكرهه السادات في الأهرام هو مدير تحريره «علي حمدي الجمال»، وهو نقيب الصحفيين وقتها، الذي كان يسميه «ميمي بيه»، فهو – أي الجمال – ضعيف الشخصية والدليل على ذلك أنه رأس اجتماعًا للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين قبل حرب أكتوبر، وفيها تطاول بعض الصحفيين على الرئيس السادات ولم يستطع الجمال السيطرة عليها.

نصيحة بهاء التي لم يسمعها علي أمين

بعد عدة أيام من تولي علي أمين منصبه مديرًا – ورئيسًا – لتحرير الأهرام بدأت المشاكل بينه وبين معظم الصحفيين فيه، بل امتدت الخلافات بين علي وعبد القادر حاتم، رئيس مجلس الإدارة، وكان الجميع يلجئون إلى بهاء لحل الخلافات بينهم. وكما يروي بهاء أنه حاول لفت نظر علي أمين كثيرًا إلى بعض أخطائه في الأهرام، لكنه لم يكن يسمع له، وكان تصوره أنه محل ثقة الرئيس، وأنه أطلق يده ليفعل ما يشاء بالجريدة.

لم يجد بهاء – كمحاولة أخيرة لإرضاء ضميره – حلًّا سوى عقد اجتماع مع علي أمين وتوأمه مصطفى لشرح كل الأمور بصراحة تامة أمامهما، وبالفعل اجتمع الثلاثة، وقال بهاء لهما بوضوح إن وضعهما في الصحافة المصرية لن يستمر طويلًا، لأن أولهما – علي – يرأس الأهرام، وثانيهما – مصطفى – يشرف على أخبار اليوم، وذلك تركيز للقوة لا يقبله أحد، والرئيس السادات ليس الرجل الذي يضع كل ثقته في شخص أو شخصين مهما كانت كفاءتهما.

ويشهد بهاء أن مصطفى أمين كان بالفعل يدرك تلك الحقيقة، وأكثر من ذلك فإنه كان يعرف أن الرئيس السادات لم يكن يحبه وأخاه، ودائمًا ما يتعامل معهما بالشك والريبة، وكان في يقينه أن الرئيس يستخدمها لصالحه وليس لكفاءتهما المهنية.

واتفق بهاء ومصطفى على أن ما يفعله علي أمين في الأهرام لن ينجح، لأنه – بنص ما قاله مصطفى – «لا يمكن لأي عاقل تغيير شكل جريدة عمرها مائة سنة في خلال عام واحد»، وعلى الرغم من كل ذلك فإن علي أمين لم يقتنع.

السادات لا يثق بعلي أمين

عندما دخل علي أمين الأهرام مديرًا ورئيسًا لتحريره فإنه اختار مكتب نوال المحلاوي، مديرة مكتب هيكل السابقة، ليجلس فيه، بينما كان عبد القادر حاتم، رئيس مجلس الإدارة، يجلس في مكتب هيكل نفسه، وبسبب قوة شخصية حاتم وخبرته السياسية الممتدة فإن الاثنين كثيرًا ما اصطدما بعضهما ببعض، خصوصًا في السياسة التحريرية للجريدة، ووصلت الأمور لحد أن حاتم كان يحذف أجزاء من مقالات علي أمين ويمنع نشر بعضها.

وكما يلاحظ بهاء فإن اختيار السادات لحاتم يدل على عدم ثقة منه في علي أمين، فهو لم يسلمه الأهرام كاملة، ومع أن ذلك وضع مقلق وغير طبيعي لكن – كما يقول بهاء – لم يعترض عليه علي أمين، بل قبله وفي تصوره أنه وضع مؤقت، وكان بعد فترة يلح على الرئيس السادات أن ينحي حاتم من منصبه في المؤسسة، ولم يستجب له الرئيس.

الأهرام نسخة من أخبار اليوم

كان علي أمين يدرك من أول لحظة له في الأهرام أنه غير مقبول من كل العاملين فيه، ومن ناحيته أيضًا لم يكن يقبلهم، وكان في تصوره أن كل عامل أو صحفي فيه هو «جاسوس» لهيكل، ولذلك فإنه من أول يوم حاول أن يتجنبهم، وعمل على إعادة تبويب الجريدة وإخراجها الفني وسياستها التحريرية، وبالطبع كان أول شيء يفعله هو كتابة عموده اليومي الشهير «فكرة»، الذي كان يكتبه في جريدة الأخبار لسنوات طويلة، بشكل يومي في الصفحة الأخيرة، ومقاله الأسبوعي، والذي كان بعنوان: «أخبار الغد»، وهو أيضًا منقول من أخبار اليوم، وكثيرًا ما كان يحتل المانشيت الرئيسي في عدد يوم الجمعة الأسبوعي.

والملاحظ أن معظم ما كان يكتبه، خصوصًا في المقال الأسبوعي، يحمل تصريحات وأخبار عن الرئيس السادات، وذلك بالطبع أمر طبيعي، لكن تكراره بذلك الشكل لا معنى له، لكن علي أمين كان يوحي بشكل غير مباشر بدرجة صلته وعلاقته القوية والمباشرة بالرئيس.

الملفت أيضًا هو أنه طوال فترة توليه منصبه في الجريدة لم يظهر أي مقال أو دراسة لمعظم كبار كتاب الأهرام، مثل توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ويوسف إدريس وغيرهم، كما أن أسماء معظم الصحفيين المخضرمين، مثل زكريا نيل ومحمد حقي وصلاح جلال ومكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وإبراهيم نافع وفهمي هويدي، لم تظهر كثيرًا.

شكوى السادات من علي أمين

وعلى الرغم من أن الرئيس السادات، مثله مثل أي رئيس، كان يهتم بالبروباجاندا والدعاية وتركيز الأضواء عليه وعلى أي نشاط أو تصريح له، وكان على اتصال دائم بكل رؤساء تحرير الصحف، فإنه كان يضيق كثيرًا من إلحاح علي أمين على الاتصال به أكثر من مرة في اليوم الواحد، وكذلك مقابلاته معه التي كان يطلبها، وقد اشتكى من ذلك لأحمد بهاء الدين، قائلًا له إن علي كثيرًا ما يقترح عليه أفكارًا وموضوعات ثم يفاجأ بها منشورة في الصفحة الأولى للأهرام منسوبة إليه، وكلها منشورة بالصيغة التي اشتهر بها علي أمين وهي: الرئيس قال لي.

وبالطبع لم يكن ما يدور في الأهرام من صراعات وخلافات بين علي أمين والعاملين فيه خافيًا على الرئيس السادات، وكانت النتيجة التي توصل إليها هو أنه أخطأ في الاختيار، وأن علي أمين فشل فشلًا ذريعًا، ولذلك قرر استدعاء أحمد بهاء الدين وعرض رئاسة تحرير الأهرام عليه، على أن يعود علي أمين إلى جريدته الأصلية، أخبار اليوم، بجوار توأمه مصطفى.

فرصة لم يستغلها علي أمين

بغض النظر عن أي شيء يمكن أن يقال عن أسباب اختيار الرئيس السادات لعلي أمين لإدارة أكبر جريدة في مصر، فلقد كانت أمام ذلك الصحفي الكبير فرصة كبيرة لتطوير الجريدة والصعود بها، وذلك نظرًا لكفاءته وقدرته وخبراته المعروفة، ففي سنوات منفاه على سبيل المثال كان يعمل مشرفًا على إصدارات دار الصياد اللبنانية، وقد استطاع أن يحقق لها نجاحًا مشهودًا.

لكنه في الأهرام ترك عواطفه الشخصية تتحكم فيه، وانساق وراء ما يمكن تسميته بـ «شهوة الانتقام» من صديقه وتلميذه القديم محمد حسنين هيكل، محاولًا إلغاء شخصية الجريدة وشكلها، ودخل في صدامات عنيفة مع المحررين، وكانت النتيجة أنه لم يستمر في منصبه إلا أقل من أربعة أشهر لم يحقق فيها شيئًا ولم يترك بصمة أو علامة.