علي تقي الدين شريعتي، المثقف والعالم، المسلم الشيعي الوهابي، الماركسي التنويري الرجعي والثائر. واحد من أبرز مفكري حقبة النهضة والثورة الإسلامية والتحرر من الاستعمار. بأي صفة يمكنك أن توصّفه؟ يستعصي عليك أن تحصره في صفة واحدة أو أن تضعه في إطار معين، لكن يسهل عليك استكشاف مدى إبداعه وقدرته على التحرر من السياق النمطي والبحث الدائم عن النباهة والأصالة.

لم يكن علي شريعتي مفكرًا بالمعنى التقليدي؛ بل كان مغامرًا و«مجربًا فكريًا»، بحث دائمًا عن الأدوات والأفكار التي تعينه على كسر حاجز الظلمات وعبور بحر التيه الذي جالت فيه أمته دون أمل من منفذ إلى أرض فكرية حضارية صلبة يقفون عليها.


قبس من نار لا تخمد

ولد علي شريعتي في قرية من قرى محافظة خراسان بإيران لأسرة متدينة وناشطة، فقد كان أبوه تقي الدين شريعتي أحد رجال الدين المجددين في تلك الناحية، حيث اجتهد في محاربة التقاليد والطقوس والممارسات والخطابات الخرافية التي غرق فيها التدين الشيعي في تلك الفترة. اقتبس منه ابنه علي جذوة من نار هذا السعي، فكان طالبًا مسلمًا حركيًا نشيطًا، انضم إلى جناح الشباب في الجبهة الوطنية وهو ما يزال بعد صبيًا، ثم بعد سقوط مصدّق، انضم إلى حركة المقاومة مما أدى إلى اعتقاله لمدة ستة أشهر.

كان شريعتي ما يزال طالبًا في كلية الآداب حين أسس اتحاد الطلبة المسلمين، ثم بعد تخرجه تحصل على منحة لدراسة علوم الاجتماع وعلم الأديان في السوربون في فرنسا حيث بدأت إحدى أخصب المراحل في حياته.

في فرنسا، لم تكن لتلك النار التي اشتعلت في مشهد أن تنطفئ، فقد احتك علي شريعتي مباشرة بالحراك النشيط المضاد للاستعمار الذي شهدته باريس في تلك الفترة، فتعاون مع الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، وقرأ لفرانز فانون وترجمه إلى الفارسية، ثم أسس حركة الحرية لإيران في الخارج، وتعرف على فيلسوف الحرية الفرنسي سارتر وغيره من أكاديميي ومفكري ومستشرقي تلك الفترة، مثل لويس ماسينيون، جاك بيرك، وعالم الاجتماع جورج غورفيتش، وأدى خروجه لإحدى المظاهرات للتضامن مع الرئيس باتريس لومومبا، أول رئيس منتخب للكونغو – اغتالته المخابرات البلجيكية – إلى اعتقاله مدة وجيزة من الزمن.

بعد حصوله على درجة الدكتوراة في علم الاجتماع وتاريخ الدين الإسلامي، قفل شريعتي عائدًا إلى إيران حيث تم اعتقاله على الحدود وأُودع السجن فترة من الزمن ليعمل بعدها مدرسًا في جامعة مشهد.

لم يكتفِ شريعتي بدوره التثقيفي في الأطراف، فاتجه إلى المركز في طهران، وافتتح مع مرتضى مطهري حسينية الإرشاد، وألقى فيها محاضرات مثلت خلاصة فكره في القضايا الإجتماعية والسياسية والدينية المختلفة، وجذبت إليها آلاف الحضور وتم طباعتها ونسخها وتوزيعها، وتجاوزت مبيعاتها العشرين مليون نسخة.

أقلق السلطات الإيرانية هذا الانتشار والتأثير الكبير والمفاجئ، فأغلقت الحسينية واعتقلته مع بعض طلابه لمدة عام ونصف، ثم أفرجت عنه بعد تزايد الضغط الشعبي وتدخل المسؤولين الجزائريين، وسمحت له السلطات بمغادرة البلاد إلى لندن حيث لقي حتفه بعد ثلاثة أسابيع بما قالت السلطات البريطانية أنه نوبة قلبية، ولكن الرأي السائد أن السلطات الإيرانية هي التي اغتالته بالطريقة التي اغتالت بها العشرات من المعارضين في الخارج.

انطفأت حياة علي شريعتي لكن جذوته لم تنطفئ؛ فقد هيأت أفكاره وكتبه ومحاضراته الأرض في إيران لقيام ثورة أطاحت بنظام الشاه بعد وفاة شريعتي بسنتين فقط.

ورغم مرور عشرات السنوات على رحيل علي شريعتي، إلا أن أفكاره عن المثقف والدين والمجتمع والاستعمار وغيرها ما زالت درسًا صالحًا لمجتمعاتنا التي هي بكل تأكيد في أمس الحاجة إلى الأسس الفكرية والأدوات المعرفية التي تنقذها من أوضاعها الراهنة.

فيما يلي استعراض سريع لخمسة من كتب «شريعتي» توضّح تجربته الفكرية، وإبداعه وقدرته على التحرر من النمطية.


1. بناء الذات الثورية

ليست الثورة نقطة انفجارية في حياة الإنسان والمجتمع، إنما هي حركة بنائية متجددة يتم بناؤها بالكد والمكابدة، فمن الصعب أن تظل مخلصا للثورة وطريقها ما لم تكن ثوريا قبلها.

أن تبقى مخلصا للثورة هو أن تبني ذاتك وتكافح في سبيل هذا البناء، هكذا يلخص شريعتي الأمر، وهذا البناء وهذه الثورة إنما هي انعتاق للجوهر الإنساني من حتميات الجغرافيا والتاريخ والمجتمع والبيولوجيا، هذا الانعتاق لا يكون كاملا بطبيعة الحال وإلا كان انفصالا وتشظيا، إنما هي مسؤولية الإنسان في أن يقرر ويرتضي لنفسه مصيره الذي يرى نفسه أهلا له.

يرى علي شريعتي لفكرة بناء الذات ثلاث مبادئ لا تكاد تخلو منها ثقافة أو حضارة، وهي: المعرفة الوجدانية، والسعي للعدل والمساواة، وأخيرا التوق للحرية.

هنا يكمن دور الأيديولوجيا بالنسبة لعلي شريعتي، وهو أن ترسم طريقا موصلا من المعرفة الوجدانية إلى الحرية مرورا بمجتمع عادل، هذا الطريق في الأيديولوجيا – الإسلامية تحديدًا – يتكون من ثلاث ممارسات رئيسية تسهم في تكوين الذات الثورية، وهي: العبادة والعمل والنضال السياسي.


2. مسؤولية المثقف

يمكننا اعتبار كتاب «مسؤولية المثقف» إحدى الركائز الأساسية التي انطلق منها مشروع علي شريعتي، والتي ستؤثر على شكل كل ما تلاها من كتب ومحاضرات.

تنبع فكرة الكتاب من التفريق الأوّلي الذي اختطه شريعتي بين ما سماه المثقف الأصلي والمثقف المقلد، المثقف الأصلي هو المثقف الأوروبي الذي نشأ في كنف الطبقة البرجوازية الأوروبية، التي عانت في بداياتها من استبداد الدين والسلطة، فخدمها هذا المثقف بأفكاره وأطروحاته وتفاعله مع مشاكلها.

أما المثقف المقلد فهو الذي تم استنساخه على نموذج المثقف الأوروبي في حضارات وسياقات مختلفة في الشرق والغرب، يبقى هذا المثقف المقلد شاذا في موضعه من المجتمع الذي لم ينتجه ويبقى غير قادر على التفاعل مع قضاياه، ما لم ينتج أدواته الخاصة ويتحرر من أصل التبعية الثقافية التي اصطنعته.

هذه هي المقدمة التي ينفذ منها علي شريعتي إلى ضرورة دور المثقف العضوي والمثقف المنتج محليا، فالتقدم والإنتاج الاقتصادي والحضاري لا بد وأن يسبقه إنتاج متقدم على مستوى الأفكار والثقافة، وهو هنا يجادل تحديدا ضد النزعة الحركية التي تقول إنه قد انتهى وقت الكلام وحان وقت العمل.

يرى شريعتي أن ما سبق لم يكن كلاما ينبني عليه عمل، إنما بدايات وعي بالأزمة التي تمر بها الأمة، ويجب أن يتبع هذا الوعي اشتباك معرفي وثقافي ودعوي تهيئ الأرضية لعمل حقيقي ومنتج في سبيل الحضارة. فالمثقف – مثل نبيّ بلا نبوة – يسعى بين الناس بوظائف النبوة.


3. النباهة والاستحمار

يعتبر هذا الكتاب هو الأشهر لعلي شريعتي، وهو تعميق لطرحه السابق في كتابه مسؤولية المثقف، هنا يتوسع علي شريعتي في قضية «نسبية القضايا الثقافية»، أي أن القضية الثقافية التي تطرح في سياق اجتماعي ما قد تؤدي لتقدمه أو حل مشكلة مستعصية بالنسبة له، هي هي نفس القضية عندما تطرح في سياق اجتماعي آخر قد تكون مدمرة لانها مفتقدة للدافع الاجتماعي والأولية.

يبرز هنا مصطلح «الاستحمار» كمضاد للنباهة والأصالة والإبداع، وهي الصفات التي تكون الذات الفاعلة في المجتمع وتجعله كيانا مستعصيا على الاستبداد والاستعمار، حين تختفي هذه الصفات يبرز الاستحمار كضد مناسب لنشوء الاستبداد.

قد يبدو الاستحمار مصطلحا طريفا، ولكنه معبر بشدة عن سياسة أو نمط تاريخي وحديث يتم استخدامه لصرف المثقف والذات الثورية عن التفاعل الجاد مع قضايا مجتمعه، تكمن فاعلية هذا الاستحمار في كونه يتعمد الانطلاق من أرضية أخلاقية، أي أنه يطرح قضايا ومسائل قد تكون مشروعة أخلاقيا ودينيا ولكنها ليست ذات أولوية اجتماعية.

كأن يحترق بيتك فيهرع إليك أحدهم قائلا: «هيا إلى الصلاة والعبادة»، مهما بدت هذه الدعوة أخلاقية ومقدسة إلا أنها تنطوي على شر كامن وماحق.


4. التشيع الصفوي والتشيع العلوي

إذا كان النقد الثقافي ومحاولات التأسيس هي الأطر التي يتشكل منها فكر علي شريعتي، فنقده للحوزة الدينية وللتدين الشيعي السائد في إيران في ذلك الحين هو تفاعله الحقيقي داخل هذه الأطر.

كان شريعتي مسلما متدينا لا يرى نهضة دون الإسلام، ولكنه أراد تخليص التشيع السائد في بلاده من نزعتين أساسيتين، النزعة الأولى وهي الخرافة والتقاليد، ولخص ذلك بقوله «إن مبادئ الدين التي في الكتب غير تلك المطبقة على الأرض»، وهو هنا يسحب البساط من تحت أقدام المثقفين الذين لم يتوانوا عن مهاجمة الإسلام واتهامه بأنه سبب التخلف استنادا على هذه الخرافات وهذه التقاليد، هو يدعو إذا إلى إعادة اكتشاف الإسلام ومعرفته، وهي القضية التي خصص لها مجموعة أخرى من المحاضرات تحت عنوان «معرفة الإسلام».

في كتابه هذا، استخدم شريعتي أدواته الفكرية والأكاديمية والمعرفية – التي نلحظ فيها توجها ماركسيا ربما اعتمد قليلا على التحليل الطبقي -، استخدم هذه المناهج في تفنيد ما سماه «التشيع الصفوي» أي التشيع المستعار الذي خدم سلطة الدولة الصفوية في مواجهة المد العثماني.

يحاول شريعتي، رغم كونه شيعيا، إنصاف الدولة العثمانية التي اعتبر أنها قامت بدور تاريخي في صد الحملات الصليبية والاستعمارية.

يرى شريعتي أن التشيع الصفوي سطا على أهم الأسس التي قام عليها التشيع العلوي الأصلي وقام بتحريفها وتغيير معناها، وهي: العترة والإمامة والعصمة والتقية والسنة والتقليد.

يتبع شريعتي منهجا تشريحيا ليقرر الفرق بين هذه المفاهيم عند كل من نوعي التشيع، ويرى أن الدولة الصفوية حرفت هذه الأصول لأغراض الإخضاع السلطوي والسياسي، وهو يشبهها بالدولة الأموية التي حرفت مبادئ المذهب السني لتبرر السيطرة على مقدرات البلاد والعباد.


5. مسؤولية المرأة

قضية المرأة بالنسبة لعلي شريعتي هي المثال الأنسب الذي يشرح منهجه الفكري والثقافي. في كتابه «مسؤولية المرأة» يطبّق شريعتي عمليا نقده للدين التقليدي السائد ونقده للتشيع الصفوي ونقده للمثقف المزيف، ويشرح طريقه لإعادة اكتشاف ومعرفة الإسلام والتشيع كأساس يقوم عليه مشروعه الحضاري.

يعتبر شريعتي أن المرأة في عهده تقع تحت نيرين؛ نير الاستبداد باسم الدين والتقاليد التي هي ليست من الدين في شيء، وهي امتداد لميراث العبودية والسلطة الأبوية، ونير المفاهيم الثقافية الغربية التي ليست سوى امتدادا للنزعة البرجوازية في نشر ثقافة الاستهلاك والجنسانية لتبرير وتهيئة الأرض لتمددها الإمبريالي.

وفقا لشريعتي، فالطريق الحقيقي للمرأة هو الاقتداء بـ«فاطمة» والتعلم منها في كل أحوالها، ويرى أن هذا هو الطريق الحقيقي لتحرير المرأة من نير التقاليد التي خالطت الدين حتى أصبحت منه.