في العام 1977م تُوفِّي الدكتور علي شريعتي بنوبة قلبية في شقته بالمنفى في لندن، وأشارت أصابع الاتهام إلى شاه إيران في موت شريعتي، كان الاعتقاد بموت الدكتور شريعتي مغتالاً، ما ينقصه لأن يصبح أسطورة جماهيرية، استطاعت أن تلهم الشباب في إيران على اختلاف تياراتهم الفكرية، الحلم بتفتيت عرش الطاووس الذي يجلس عليه الشاه، وتأسيس الجمهورية الإيرانية، وهو الحلم الذي حقَّقه الخميني

اُعتبر شريعتي في نظر الكثيرين «منظّراً للثورة الإيرانية»، فقد طور أيديولوجية انتقائية جمعت بين التأثيرات الفلسفية العلمانية واليسارية وعلم اللاهوت الكاثوليكي التحريري ورمزية ولغة الإسلام الشيعي، تصور شريعتي الإسلام الشيعي على أنه أيديولوجية تحررية حقة، يمكن استخدامها لخلق مستقبل اشتراكي بدلاً من الاكتفاء بالنظر بحنين إلى الماضي، أراد شريعتي أن ينبثق من تلك الأيديولوجية مجموعة من المؤمنين الذين بدلاً من نظرهم إلى الداخل والتفكير فقط في الخلاص والعالم الآخر سوف يسعون جاهدين لتحقيق المثالية التوحيدية لمجتمع لا طبقي على الأرض.

حينما قُتل شريعتي سنة 1977 كان الحلم بإيران جمهورية قائماً، وكان هناك في المنفى رجل عجوز طاعن في السن يخطط لإضافة كلمة «إسلامية» إلى ذلك الحلم، وطور المذهب الشيعي هو الآخر، فبدلاً من انتظار عودة الإمام الثاني عشر من غيبته ليقيم موازين العدل في الأرض، استحدث آية الله الخميني مصطلح «ولاية الفقيه» لينوب عن الإمام الثاني عشر، ويرجع له رئيس الدولة وحكومته يستشيرونه بصفته جامعاً للأمور الدنيوية والدينية معاً، ومن خلال ذلك المصطلح بلور الخميني العلاقة بين المؤسسة الدينية والسياسة داخل إيران في شكلها الأخير.

الإمام موسى الصدر يُصلي على شريعتي خلال تشييع جثمانه

الشارع الإيراني عشية الثورة

فرضت التبدلات في السلطة والواقع السياسي الإيراني في العهد البهلوي تبدلات في اتجاهات التغيير وتنوع آلياته، وتلك التبدلات ليست معزولة عن تأثيرات الإحباط الناشئ عن فشل الثورة الدستورية التي اندلعت عام 1905 في وجه الدولة القاجارية، والتي تم استئصالها تماماً في عهد رضا بهلوي الأب، الأمر الذي أدى إلى تباين التصورات حيال أزمة السلطة وسبل استبدالها، ونجد تجلياً لذلك الوضع انفرازاً في أربعة مناهج للتغيير السياسي على النحو التالي:

1. تغيير عسكري:
عن طريق حركات فدائية مثل حركة «فدائيان إسلام» التي تزعمها نواب صفوي في الأربعينيات، وتخصصت في اغتيال وتصفية كبار الوزراء ورجال البلاط، ورأت أن إقامة الحكم الإسلامي مشروط بانهدام مؤسسة الحكم عبر تصفية رجالها، وجاءت منظمتا فرقان ومجاهدي الشعب كامتداد لتلك الحرب واستمرتا حتى الثورة.

2. تغيير ثقافي:
وهو يرى أن الأزمة الحضارية التي يعشيها المجتمع الإيراني لا تحل إلا بالتغيير الثقافي، الذي ينال أساسيات الفكر عند المسلمين الشيعة، وبنية الوعي التاريخي الشيعي، أي بنية الوعي الديني/المذهبي، بوصفه مدخلاً للتغيير الجذري الشمولي في الأمة، وتزعم تلك الحركة الدكتور علي شريعتي.

3. تغيير سياسي سلمي:
وهو الإتجاه الذي آمن بالبرلمان كوسيلة للتغيير، وتبلور في حركة الدكتور محمد مصدق وثورته عام 1951.

4. التغيير الثوري الجماهيري:
وهو النهج الذي يرى انهدام السلطة على يد الجماهير باعتبارها صاحبة الوزن الأكبر في موازين القوى الداخلية، والمحرك الأول والأقوى لعجلة التغيير، ولكن تظل الجماهير بحاجة إلى قيادة العلماء والفقهاء، باعتبارهم مفاتيح الحراك الاجتماعي والقادرين على الحشد، وكان على رأس هذا الاتجاه الإمام الخميني.

بسبب غياب التنظيم في حركات التغيير العسكري، وإسقاط الديمقراطية في عهد الشاه عقب الانقلاب على مصدق، لم يتبقَّ لآمال التغيير متنفساً إلا في التغيير الثقافي بقيادة الدكتور شريعتي، والتغيير الثوري الجماهيري بقيادة الإمام الخميني، وكان الرجلان بدورهما يحملان المقومات الشخصية والفكرية التي تؤهلهما للقيادة.

كان الخميني أول فقيه شيعي يتطابق أفقه السياسي مع حركته الاحتجاجية، فقد كان الفقيه الشيعي الأول الذي يحمل مشروع دولة، ويسعى لتجسيده بالفعل، وتميز مشروع الخميني بكونه مشروعاً ثورياً في خطابه السياسي والديني، وثورياً أيضاً في آلياته، وبدأ الخميني في تنفيذ مشروعه على أساس تقويض التدابير الفقهية السلطانية المرتهنة إلى النص الديني، وإقامة السلطة في عصر غيبة الإمام، وانبثق من ذلك المشروع مفهوم «ولاية الفقيه».

تمتع الخميني بشخصية أسطورية في عصره لا تضاهيها شخصية في تعلق الجماهير بها، يردها الفيلسوف ميشال فوكو إلى العديد من العوامل، فالخميني «ليس هنا» بسبب نفيه منذ خمسة عشر عاماً، ولا يريد العودة منه إلا بعد ذهاب الشاه، والخميني لا يقول شيئاً سوى لا للشاه والنظام والتبعية، والخميني ليس رجلاً سياسياً له حزب أو حكومة، إنما هو نقطة تحديد لإرادة شعبية مشتركة يراد بها التخلص من الهيمنة الخارجية والسياسة الداخلية.

أما شريعتي فكان عدواً للنظام الملكي والإمبريالية، ولم يكن أيضاً صديقاً لرجال الدين، فقد اعتبرهم تقليصاً للإسلام إلى مجموعة من القواعد الثابتة والطقوس الجافة التي لا معنى لها، وقد ألهمت تلك الفكرة مجموعة من الطلاب والمثقفين في نضالهم ضد الشاه أثناء الثورة، وقد ضحى الكثيرون منهم بحياتهم في حرب العصابات بينهم وبين شرطة الشاه.

كان الإسلام أصيلاً ومحورياً في منهج علي شريعتي الإصلاحي، وقد أشار الفيلسوف فرانز فانون إلى ذلك المنهج في إيجابيته وعيوبه في رسالة أرسلها إلى شريعتي، اعترف فانون أن للإسلام قدرة على العمل كقوة تقدمية ضد الاستعمار، ولكن إذا عجز المثقفون اليساريون من أمثال شريعتي عن بث تلك الروح في جسد الشرق المسلم المنهك، فإنهم يخاطرون بدلاً من ذلك بالمساهمة في إحياء الطائفية، التي تعيد الأمة إلى الماضي، وكان قد وجه المؤرخ الإيراني إرفاند أبراهاميان نقداً مماثلاً لفكر شريعتي، فقد طرح السؤال فوق منهج شريعتي عن إمكانية المرء أن يشرع في تمرد تحت راية الدين، مع إبقاء قيادة هذا التمرد بعيداً عن أيدي السلطات الدينية ذات العقلية التقليدية؟

انحدر شريعتي من وسط ديني، حيث تلقى تعليماً دينياً من والده، ودرس في جامعة مشهد، وبصفته من جيل الشبان الذين تأثروا بحركة دكتور محمد مصدق التي شرخت الهيبة في صورة آل بهلوي، كان شريعتي ناشطاً سياسياً ضد النظام، وقد تعرض للسجن عدة مرات خلال حياته، وسافر إلى فرنسا واستطاع الحصول على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون، وقد تأثر فكر شريعتي بعدد من المفكرين الأوروبيين الاشتراكيين مثل لويس ماسينيون وجورج جورفيتش، وتتلمذ على يد جاك بيرك المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي، وأتاحت له الدراسة في فرنسا الاتصال بمسئولين في الثورة الجزائرية، وعدد من الناشطين في اليسار المسيحي، وقد تعرف شريعتي على أعمال الفيلسوف فرانز فانون.

عاد شريعتي إلى إيران للتدريس في مشهد التي تعلم فيها، وانصب اهتمام شريعتي الفكري على المعنى الحقيقي للتشيع، فكان يرى أنه لا ينبغي البحث عن معنى التشيع الحقيقي في مذهب الدولة الرسمي من القرن السابع عشر، بل في درس العدالة والمساواة الاجتماعية الذي قدمه الإمام الأول علي بن أبي طالب، وفي هذا الإطار قدم شريعتي أحد إسهاماته الفكرية المهمة في كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي».

كان شريعتي خطيباً مفوهاً، وذا حضور طاغي، ضمت محاضراته أطياف المجتمع الإيراني، ففي أحد المحاضرات في طهران التي ألقاها خارج الجامعة في قاعة أحد المساجد، تواجد جمهور من آلاف المستعمين، من الطلاب والملاوات والمثقفين والعامة وتجار البازار وحتى أهالي الريف العابرين في المدينة، كان الزخم قوياً حول شريعتي، بما ذكر المستمعين بالأئمة الشهداء، ومنحه اغتياله مكانة مميزة جداً كغائب حاضر دوماً، كما هي العادة في المذهب الشيعي.

وُصف فكر شريعتي في بعض الأحيانب أنه نسخة راديكالية ديمقراطية وتقدمية من الإسلام، وكان مسلماً ناشطاً سياسياً ولكنه ليس إسلامياً بالمصطلح المعروف في السياسة، آمن شريعتي أن الله يقف في صف الفقراء، ويعارض الظلم البنيوي الذي خلقه الإنسان، وما جعل شريعتي شخصية بارزة كقائد بارز في اليسار الإيراني وعالم دين في جانب المظلوم، هو السياق التاريخي الذي ظهرت فيه كتاباته في أعقاب ثورة الشاه البيضاء التي أطلقها محمد رضا بهلوي في ستينيات القرن العشرين، وما أعقب تلك الثورة من ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، رغم أن نواياها من المفترض أن تكون في صالح الفقراء، وزادت حدة الانقسام الطبقي في المجتمع، بالإضافة إلى ازدياد وطأة القهر السياسي.

كان إرث شريعتي واضحاً في أحداث 1979، وحمل المتظاهرون صورته جنباً إلى جنب مع صورة الخميني، وغذت أفكاره وكتاباته الشعبية وخطاباته الثورة، وألهمت جيلاً من الشباب المثاليين، كان يترددون على زيارة التجمعات في المساجد خلف الخميني.

ثوار إيرانيون يحملون صورة علي شريعتي خلال الاحتجاجات

السياسة الروحانية

في سنة 1978 اندلعت شرارة الثورة الإيرانية، وتواجد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في موقع الأحداث كصحفي يغطي أحداث الثورة، ويدرس اتجاهات الشارع الإيراني، في كتاباته عن الثورة الإيرانية، استقبل فوكو الإسلام كخبرة سياسة أخلاقية، وأضاف الإسلام لمعادلة الحداثة ولمح فيه وميض حل لمعضلة الحداثة الرئيسية التي تتمثل في غياب الروحانية السياسية، العامل المهم الذي كان يتم تجاهله في سياق الحداثة ومشكلاتها الفلسفية والسياسية، رأى فوكو أن الإسلام بروحانيته السياسية الديناميكية يطرح نفسه بديلاً للشكل المهيمن للذاتية الغربية المادية، وقد استطاع الإسلام في نيران الحدث الثوري في إيران تصفية السياسة اللاروحانية وتعريف كلٍّ من السياسي والروحي، الواحد من خلال الآخر، حتى يفسح الطريق لحياة سياسية جديدة لا تشكل عقبة أمام المكون الروحي، بل إنها تحفظ وجوده وازدهاره.

«ما الذي تريدونه؟» كان هذا سؤال فوكو للجماهير التي التقاها طيلة فترة تحقيقه الصحفي، ولم يجد فوكو كلمة «ثورة» كإجابة، بل «نريد حكماً إسلامياً»، وكانت تلك كلمات آية الله الخميني أيضاً التي كان يرد بها باقتضاب على بعض الصحفيين.

إن الإسلام الشيعي يقدم عدداً من السمات التي من شأنها أن تضفي على إرادة الحكم الإسلامي لوناً خاصاً، فعلى المستوى التنظيمي، يُلحظ غياب تراتبية في المدرسة الدينية، واستقلال لرجال الدين بعضهم عن بعض، وعلى الصعيد المذهبي فالمبدأ الحاكم هو أن الحقيقة لم تكتمل مع رسالة النبي محمد، فبعده بدأت مرحلة أخرى لم تكتمل من الوحي، هي مرحلة الأئمة، أقوالهم وأفعالهم وتضحياتهم، وبالاقتداء بهم تكتمل الرسالة.

أن تسمح الحركة السياسية الإسلامية في إيران بإدخال بعداً روحياً فيها، فلا تكون تلك الحياة السياسية كما كان حالها دائماً عائقاً امام الروحانية، بل هي الوعاء الذي يحويها، وفرصتها وخميرتها، كانت تلك آمال شريعتي والخميني معاً.

موت القائد

كانت فترة نشاط شريعتي من منتصف الستينيات إلى وفاته 1977، هي فترة تشتت وانحسار للحركة السياسية المنظمة، وفترة اختمار النهوض الإسلامي، وصراع بين الأيديولوجيات في الحركة السياسية، ولكنها لم تخلُ من نضالات وطنية مسلحة تزعمها «مجاهدي الشعب» و«فدائيي الشعب» ولكن أعمال تلك المنظمات كان محدوداً بالاغتيالات، وقد جرت محاولات عديدة لبناء منظمات سياسية سرية، حالت دونها أساليب السافاك في القمع المنظم للمعارضين، لذلك جرى التمهيد الأساسي للثورة خارج أطر التنظيمات السياسية التقليدية.

يوجد تصور شعبي عام عن الثورة الإيرانية أنها ثورة طليعة دينية بقيادة آية الله الخميني، غير أن تلك الثورة لم تكن لتكتمل بغياب دور علي شريعتي، فالخميني وشريعتي هما الركيزتان الفكريتان للثورة الإيرانية.

شاركت في الثورة أطياف عدة من الشعب، كان منها اليسار الإسلامي الإيراني الذي كان شريعتي منظره وقائده الرئيسي، قاد الخميني ثورة 1979 بنجاح، ولكن موت شريعتي قبل الثورة آل باليسار إلى أن يكون بدون قيادة، في عام 1978 بعد عام واحد من وفاة شريعتي كانت الحركة العمالية في إيران تنظم إضرابات لمطالب اقتصادية طفيفة، أصبحت تدريجياً أكثر سياسية، غير أن اليسار لم يكن له قيادة واضحة، فلذلك ظل تابعاً للحركة الإسلامية.

كان اليسار قوة نشطة، غير أنها فارغة من القيادة، ومرد ذلك جزئياً إلى القمع الواسع النطاق للحركات العلمانية واليسارية من قبل الشاه، والقمع المستهدف لشريعتي الذي عرف السجن كثيراً منذ عام 1957، وأُجبر على النفي حتى وفاته.

في الوقت نفسه تعرض الخميني أيضاً للنفي، ولكن المساجد والعلماء لم يتم قمعهم إلى الحد الذي كان فيه اليسار، وذلك سهل على الخميني العودة، في الوقت الذي لم يترك فيه موت شريعتي اليسار الإيراني دون زعيم كاريزمي فحسب، بل إن فقدان شريعتي كان يعني أيضاً أن الفصائل المختلفة من اليسار الإيراني انغمست في التنظير المجرد بدلاً من العمل الاستراتيجي، وعدد من الجدالات النخبوية التي لا طائل وراءها، في الوقت الذي كانت فيه حركة الخميني تحاول أن تضم الجميع في كنفها في البداية.

لم يؤدِّ فقدان شريعتي فقط إلى تفاقم المشاكل التنظيمية لليسار الإيراني المكبوت، ولكن الابتعاد عن أفكار شريعتي جعل اليسار غير ذي صلة قوية بالأحداث في اللحظة الثورية، وهذا معناه أنه على الرغم من أسباب الثورة غير المنبثقة عن عوامل دينية، فإن حركة الخميني الدينية لم يكن لديها معارضة فعالة أو جذابة لمنعها من احتكار أحداث عام 1979.

الكرة في ملعب الحوزات الدينية

نظراً لقمع معظم السبل الأخرى للاحتجاج والغضب في أوائل السبعينيات، كانت مساجد الشيعة ورجال الدين الذين يديرونها هي المنتديات الوحيدة لأي مواطن إيراني غير راضٍ عن الشاه، استخدم رجال الدين المسجد كمقر للجان الثورية، ومركزاً لتوزيع السلع الأساسية والتعبئة الشعبية، مما أهلهم للعب دور حيوي من حيث الهيكل التنظيمي والسلطة في الثورة، وذلك، على الرغم من أن مطالب السكان لم تكن مرتبطة بقوة بالإسلام، إلا أن الرموز الإسلامية كالمسجد سمحت بالتعبير عن هذه المطالب، وبالتالي أصبحت العامل المهيمن في الثورة.

في سبعينيات القرن الماضي عانى اليسار الإيراني والتجار من رجال البازار الذي يمثلون الطبقة الوسطى في المجتمع من بطش الشاه، وكان من يجرؤ أن يرفع رأسه في وجه الشاه تضربه عصا الشرطة ليطأطئ تلك الرأس، ولكن لم يكن القمع لرجال الدين بنفس الدرجة، فنظراً لقدسية مكانهم كانوا أقل عرضة للتنكيل، كما أن أصحاب الرتبة العالية منهم الذين يحملون لقب «آية الله» تمتعوا بحصانة دستورية ضد الإعدام، وهو ما أتاح الفرصة للخميني أن يهرب من قبضة الشاه في أعقاب احتجاجات العام 1962، لذلك لم يكن ما أنتج الشكل الإسلامي للثورة هو الإحياء الإسلامي، بقدر ما كان قمع أنماط أخرى من الخطاب السياسي، وكان هذا الهروب من القمع إلى كنف العلماء يعني أن العلماء لديهم موارد أكبر في الأيديولوجيا والقوى البشرية والتنظيم والقيادة، لذلك كان طبيعياً أن المنظمة التي تمتلك أكبر قدر من الموارد ستقود الثورة بشكل حتمي.

في آخر السبعينيات كان الشاه يتوجه إلى المجتمع بإصلاحات جديدة في مجال حقوق الإنسان، نتيجة لطلبات الرئيس الأمريكي كارتر صديقه، فخفف القمع، ولكن الأوان كان قد فات بالنسبة للحركات العلمانية واليسار الإسلامي، فقاد رجال الدين الثورة.

أظهرت تلك الحماية المؤسسية التي استفاد منها العلماء، بالإضافة إلى مواردهم الهائلة، فقد تكونت لديهم الأموال نتيجة التبرعات المباشرة التي يتلقونها من المواطنين في شكل من أشكال الزكاة، يعرف باسم «الخُمس» الذي كان يعطى للرسول في حياته، بينما عطل أهل السنة ذلك المفهوم، استمر المذهب الشيعي في اتباعه وتخصيص الخمس للعلماء، مما أعطاهم مقدرة مادية جعلتهم الأجدر بحمل لواء الثورة، في الوقت الذي كان يقودهم فيه من الخارج آية الله الخميني بكاريزماه، وكلماته النارية، وبهذا تحققت نبوءة فانون التي أسر بها لشريعتي في رسالته.

كان الخميني يقود ثورة «شرائط الكاسيت» ضد الشاه بلا هوادة، ولم يثنِه عن عزمه حتى اغتيال السافاك لابنه مصطفى، وبشخصيته الورعة، وتاريخه النضالي ضد ظلم الشاه، كان الخميني كاريزما أخرى تجتذب الشارع في صفها مثل علي شريعتي، وتشابهت حال الرجلين بين السجن والمنفى ومحاولات الاغتيال.

ساعد مفهوم الحداد في المذهب الشيعي، ونموذج كربلاء، في صناعة هيكل تنظيمي للثورة ذي شكل ديني، فمنذ 7 يناير عام 1978 كانت الاحتجاجات تخرج إلى الشارع كل أربعين يوماً وهي مدة الحداد بعد الجنازة، وكان نموذج كربلاء بصفته رمزاً للمعاناة والعزاء والثورة المتمثلة في حركة الحسين بن علي في وجه يزيد بن معاوية، يزيد من عزم المحتجين الذين رأوا أنفسهم حسيناً، ورأوا الشاه كيزيد، لذلك على الرغم من أن المطالب والاضطرابات التي بدأت الثورة كانت سياسية واقتصادية، إلا أن الثورة كانت ذات رمزية إسلامية.

كلمة سواء

في تغطيته الصحافية لأحد خطابات آية الله الخميني بعد الثورة، رأى الصحفي «جونكيفنر» أن الإمام قد هاجم بطل الشباب المسلم المثقف علي شريعتي بسبب كتاباته عن الأصولية الإسلامية، فقد قال الإمام: «يجب علينا التيقن من كون هؤلاء مسلمين ومع القرآن، إذا كانوا يريدون الإسلام بدون رجال دين أو روحانية، فعليك أن تعلم أنهم أعداؤك، وسيرمون كل حوزاتنا الدينية في البحر، الشاه نفسه يتظاهر بأنه إسلامي أحياناً، ومن العجب أنك لا ترى أن هؤلاء الذين يهاجمون رجال الدين، لم يذكروا ولو مرة واحدة في حياتهم كاملة كلمة باسم الله».

رغم حدة خطاب الخميني وكلماته النارية كالعادة، فإن العلاقة بين علي شريعتي ورجال الدين لم تكن دائماً تحول دون وجود نقاط التقاء واتفاق، ويمكننا أن نرى أن شريعتي ربما هو النموذج الوحيد الذي اعتبره الملالي علمانياً، ولا زال الإيرانيون يحتفون به، حتى إن الحكومة قد أطلقت اسمه على أحد الشوارع، عكس نموذج دكتور مصدق مثلاً الذي رُمي به إلى غياهب التاريخ.

مثل شريعتي كان الخميني ثائراً على المؤسسة الدينية، وعلى خلاف شريعتي كان الخميني ثائراً من داخل المؤسسة نفسها، ففي الستينيات تزعم الخميني تياراً يدعو لتثوير المؤسسة، وحثها على تصدر الكفاح الوطني المناهض للاستعمار، وآمن الخميني أن الإسلام هو رسالة دائمة، وثورة دائمة، وهو دين كله سياسة، والكفاح السياسي هو من صلب واجبات المسلمين، ومن باب أولى علماء الدين.

ويزعم عبد الرازق الجبران في كتابه «علي شريعتي وتجديد التفكير الديني» أن الخميني وعلي شريعتي قد التقيا في نقاط عدة، رغم أن الظاهر بينهما يوحي باختلافات، فقد حارب شريعتي والخميني كلاهما انغلاقية أفكار رجال الدين، وما أسماهم شريعتي «الروحانيين» الذين انشغلوا بالداخل، وتركوا الحاضر والتاريخ. يرى شريعتي أن رجال الدين منشغلون بالخوض في مسائل لم تعد من الواقع، وهو ما لا يجدي لإنهاض الأمة، بل تذهب بها إلى متاهات واتجاهات معاكسة للإسلام، تضره بدل أن تنفعه، وكان الإمام الخميني أيضاً يسمي هؤلاء بفقهاء «الحيض والنفاس» الذين أتعبوه بما لم يتعبه أحد من أعدائه، على حد قوله، حتى إن أحدهم بعد نجاح الثورة الإسلامية كان يقول: «لو أكمل الخميني تعليقاته على المكاسب -كتاب فقه- أليس أفضل من إقامته الدولة الإسلامية؟».

ويرى نقطة التقاء أخرى بينهما في أن شريعتي يدين الاتجاه الديمقراطي للحكم، الذي يحمل في فلسفته مسألة الرفاه والخدمة، وينادي بالاتجاه الثاني الذي تبنى فلسفته على أساس الإصلاح وبناء الجماهير، هذا الاتجاه أفضى إلى الوصول للمحور الأهم في فكر شريعتي بتدشين المذهب السياسي الإسلامي الذي يجمع فلسفة الحاكم والمحكوم، ما تمخض عنه مذهب أسماه «قيادة المفكر الملتزم» الذي يعتبره أبلغ وجه في مسألة الحكم في الفكر الاجتماعي السياسي العالمي والإسلامي.

ويرى الجبران أنه لا اختلاف لمذهب شريعتي السياسي هذا عن مذهب الإمام الخميني في ولاية الفقيه إلا في بعض الحيثيات والأطر التي تتناول الشخصية المعرفية للحاكم، بل إن هناك التقاءً جوهرياً كبيراً، مع فارق نوع المعالجة وآليتها وسعتها وعمقها، بين شريعتي والخميني.

المفكر عند شريعتي هو المسلم الذي وعى الإسلام كاملاً، وامتلك أيديولوجيا ومنظومة فكرية شاملة تغطي ما يحتاجه الواقع بما يستجد فيه، وهذا يستدعي اطلاعه على علوم خارج إطار المعرفة الدينية، وهو ما سيجمع بين مذهب الخميني ومذهب شريعتي في جهة، ويفرق بينهما في جهة أخرى، فعند الخميني، الفقيه هو الواعي لمسارات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني أن الإمام قامت نهضته على محاربة الفقيه الكلاسيكي، الذي أسماه بفقيه الحيض والنفاس، ولكن نقطة الاختلاف بين الرجلين، أن الخميني لم يوجب تلك المعارف والإضاءات الحديثة على الفقيه كي يأخذ مشروعية حكمه، وهو ما يتعارض مع فكر شريعتي، وشريعتي في المجمل لم يعارض نظرية «ولاية الفقيه» بل كان من المعروف عنه أنه يفاخر بما نسب إليه من تهمة الانتساب إلى الإمام الخميني وخطته الثورية الانقلابية.

لم يرفض شريعتي المؤسسة الدينية كلياً، بل إنه رفض فكرة وجود كهنوتية في الإسلام، واعتبر شريعتي أن علماء الدين ضرورة اجتماعية وحضارية بكل معنى الكلمة، وقد خالف شريعتي المفكرين خارج إطار المؤسسة الدينية من أغلب الاتجاهات الأيديولوجية في أنهم لا يرون أصالة لرجال الدين في حياة المجتمع، بينما رأى هو عكس ذلك، وقد رأى في المسجد والمنبر والمدرسة الحوزوية معقلاً لصيانة الثقافة الإسلامية والاستقلال المعنوي، وملجأ جماهير الأمة، وعقد عليها الأمل في خلق النهضة الإسلامية وإيقاظها وتحريك الفكر، فقد آمن بالخطيب وطالب العلوم الإسلامية بشكل أكبر من أمله في الجامعي وأستاذه.

أجمل شريعتي نظرته إلى الحوزة الدينية حين رد على سؤال وُجِّه إليه بشأن استمراره في الهجوم على الحوزة قائلاً: «إن سبب إصراري على نقد الحوزة العلمية يعود إلى أننا ننتظر الكثير منها، بينما لا ننتظر شيئاً من نخب مثقفة وُلِدت في أحضان الثقافة الغربية، الحوزة العلمية قاعدة أصيلة، نأمل منها أن تقدم الكثير، وحين تتخلف عن العطاء في مقام العمل، فإننا نمارس النقد تجاهها»، وقد أثبتت تلك النظرة صوابها حين احتضنت المؤسسة الدينية الثورة عند اندلاعها.

كان منهج دعوة الخميني ودعوة شريعتي متشابهاً في آليته، فكلا الرجلين قد رأيا أنه لا يجوز للثائر أن يكتفي بالتنظير في الكتب، وتحبير الصفحات، لذلك ذهب شريعتي والخميني إلى الناس، كان الخميني يهاجم ويندد من حوزته وفي شرائط الكاسيت بعد نفيه، وكان شريعتي يجتذب الجميع من كل الفئات في «حسينية الإرشاد» التي هاجم منها الشاه ورجاله، وهاجم الأفكار التقليدية التي عزا تخلف المسلمين وفرقتهم إليها.

وكان الأثر الفكري الذي أحدثاه جعلهما بحق مهندسي الثورة الإيرانية، ونلاحظ موقفاً أورده محمد حسنين هيكل في كتابه «مدافع آية الله»، فبينما كان هيكل يناقش الطلاب في السفارة الأمريكية التي يحاصرونها في طهران، وجد أن أي واحد منهم خلال عدة دقائق يشير بالاقتباسات من كتب الخميني خمس مرات، ومن كتب شريعتي ثلاث مرات على الأقل.

في السنوات الأخيرة وقبل اندلاع الثورة يمكننا أن نرى أن نظرة علي شريعتي إلى رجال المؤسسة الدينية قد بدأت في التغير، ففي حديثه مع مجلة «سروش» قال «آية الله علي خميني» المرشد الأعلى للثورة الإسلامية حالياً، إن شريعتي لم يهاجم رجالاً بأعينهم ولا المؤسسة، بل هاجم أفعالاً تسببت فيها سنين من تخاذل المؤسسة الدينية، اعتقاداً منه أن رجال الدين لم يتصرفوا بشكل كامل في أداء واجبهم تجاه الشعب، وأضاف الخميني أنه من بعد عام 1973 أخذ شريعتي في التواصل مع رجال الدين الشباب وغيَّر وجهة نظره تماماً، ففي السنوات الأخيرة عام 1976 لم يكن إيمانه فقط برجال الدين كقوة فاعلة، بل إنه آمن برجال الدين في عصره حيث رآهم أصبحوا يسيرون على طريق المسئولية، كما أنه أحب وأعجب بشدة بشخصية الإمام الخميني.

ولكن وإن مات شريعتي وهو راضٍ عن المؤسسة الدينية، فإن المؤسسة الدينية حتى يومنا هذا لم تحسم في شأنه بشكل قاطع، فلا زال شريعتي في نظر البعض مفكراً إصلاحياً مرموقاً، وفي نظر البعض الآخر مهرطقاً، والحال نفسه مع الخميني والنظرة إليه من التيارات العلمانية واليسارية والتي لم يُقدَّر لها الوصول إلى الحُكم، فلم يُكتب لهذه الآراء الانتشار.

المراجع
  1. المقالات الإيرانية: ميشال فوكو
  2. فوكو صحافياً: البكاي ولد عبد الملك
  3. هكذا تكلم علي شريعتي: فاضل رسول
  4. علي شريعتي وتجديد الفكر الديني: عبد الرازق الجبران
  5. علي شريعتي الهجرة إلى الذات: جميل قاسم
  6. مدافع آية الله: محمد حسنين هيكل
  7. العودة إلى الذات: إبراهيم الدسوقي شتا
  8. الفقيه والدولة الفكر السياسي الشيعي: فؤاد إبراهيم