إمام فَذٌّ من أئمة البيان، عاش في العصر الذهبي للأمة العربية، عصر الرشيد والمأمون، عصر العلوم والآداب والفنون، عصر الحواضر الإسلامية الزاهرة في البصرة والكوفة وبغداد وقرطبة وسائر عواصم الإسلام، فكان إنتاجه معبرًا عن روح هذا المناخ العظيم؛ إذ عاصر أئمة العلوم والفنون كلها، فعاصر من رجال الفقه والحديث مالكًا والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري، ومن الكُتَّاب ابن المقَفَّع، والصُّولي، وابن قُتَيْبَة، والمبَرِّد، وابن الزَّيَّات. ومن علماء اللغة الخليل بن أحمد، ومن الشعراء بَشَّار بن برد، وأبا نواس، ومسلم بن الوليد، وأبا العتاهية، وأبا تمام، والبُحْتري، وابن الرومي. ودرس على الأصْمَعي، وأبي عبيدة، وأبي زيد الأنصاري، والأخفش، وأبي إسحاق النَّظَّام.


مولده ونشأته وتكوينه العلمي

ولد أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ عام 150هـ بمدينة البصرة، وكانت يومذاك مركزًا للعلم والثقافة، فأمضى فيها طفولة شَقِيَّة، إذ تُوفِّي أبوه وهو طفل صغير، وتركه من غير مال يعيش به. غير أن جو المدينة العلمي طغى عليه، فذهب إلى الكُتَّاب، وأظهر فيه ذكاءً خارقًا، ونَهَمًا للعلم والمعرفة لا تحده حدود. فلما اشتد عُوده راح يَقْتَاتُ ببيع الخبز والسَّمَك في الأسواق [1] إلى جانب طلب العلم. إذ كان يَغْشَى المساجد يلقى علماءها يسمع منهم أو يُجادلهم، ويتردد على سوق المِرْبَد قرب البصرة وإليه يختلف الشعراء والخطباء، فشغله ذلك كله عن طلب العيش حتى ضاقت به أمه، وذات يوم جاءها يطلب طعامًا فقدمت له طبقًا فيه كراريس ورق وقالت: كُلْ، سخرية من اشتغاله بالكتب والقراءة، وانصرافه عن الكسب. فخرج إلى المسجد وفي صدره مرارة عظيمة، ورآه يونس بن عمران فأدرك حاله وسأله عن شأنه، فلما وقف على أمره أعطاه خمسين دينارًا. فأخذها الجاحظ ومضى إلى السوق، فاشترى دقيقًا وطعامًا، وعاد إلى داره مزهوًا والحمالون من ورائه، فلما رأته أمه دهشت، وسألته: من أين لك هذا؟ فرد عليها متشفيًا: من الورق الذي قدمته لي في الطبق [2].

كان الجاحظ –كما سبقت الإشارة- معاصرًا لأعلام كبار، ومنهم ثلاثة عرفوا بكثرة التأليف هم: أبو عُبَيْدَةُ مَعْمَرُ بن المثَنَّى، الذي بلغت مؤلفاته مائة مؤلف وخمسة، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني، وقد ألف نحو مائتين وأربعين مصنفًا، وهشام بن محمد الكلبي وله نحو مائة وأربعين مؤلفًا. عاصر الجاحظ هؤلاء المُكْثرين فوجد فيهم القدوة والحافز على المنافسة، فلم يَدَّخرْ وُسعًا في طلب العلم والمعرفة، فكان قارئا نَهِمًا، لم يقع في يده كتابٌ قط إلا استوفى قراءته، حتى إنه كان يَكْتَرِي دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للنظر والدرس والمطالعة [3]. وإلى جانب العلم المقروء الذي أسهم في تكوين ثقافته كان الجاحظ صاحب رحلة، فقد أمضى حياته متنقلاً بين البصرة وبغداد، ورحل إلى دمشق، وزار أنطاكية، وثمة احتمال بأنه زار مصر، فأكسبه التنقل وتنوع البيئة وتباين العيش عمقًا في التجربة، وشمولاً في النظرة، وخبرة واسعة بأحوال الحياة والناس [4]، ظهر أثرها جليًا في كتبه ومؤلفاته.

وحين رحل الجاحظ من البصرة إلى بغداد وهو في الخمسين من عمره، وكان ذلك في عصر المأمون سنة 204هـ، تصدى هناك للتعليم والمناظرة، فقَصَدَهُ الأدباء والعلماء وأمَّهُ الطلاب من كل صَوْب، ولما ذاع فضلُه وانتشر صِيتُه وعُرِفَتْ مؤلفاته، أقبلت عليه الدنيا، وصارت له وظائف مالية يتقاضاها من دار الخلافة في كل شهر؛ وولي ديوانَ الرسائل في عهد المأمون، فلم يمكث به إلا ثلاثة أيام، ثم اعتذر عنه زُهْدًا منه في قيد الوظيفة، وإيثارًا للحرية والعافية، وانصرف إلى الكتابة والتأليف.


مصنفاته ومنهجه في التأليف

أخرج الجاحظ للمكتبة العربية زهاء ثلاثمائة وستين مؤلفًا في ضروب شتى من العلم، وقد فُقِدَ أكثرها بفعل عوداي الزمن. وأشهرها: كتاب الحيوان، والبيان والتبيين، وكتاب البُخَلاء، وكتاب البُرْصان والعُرْجان والعُميان والحُولان، وكتاب التَّاج في أخلاق الملوك، والمحاسِن والأضداد، وكتاب البغال، وكتاب العثمانية، ورسالة التربيع والتدوير وغيرها. وجدير بالذكر أن الأستاذ عبد السلام هارون شيخ المحققين قد نهض بعب تحقيق جل إنتاج الجاحظ وأخرجه في صورة بهية، حتى أصبحت نشراته لكتب الجاحظ هي المعتمدة بين الباحثين والدارسين والمشتغلين بعلوم اللسان العربي جميعًا.

ولم يكن هّمُّ الجاحظ في تأليف كتبه هَمَّ غيره من المؤلفين في الجمع والرواية والحفظ، وإنما كان منهجه أن يبتكر وأن يأتي بالطريف، وأن يخلق للناس بديعًا، وأن يمسَحَ على جميعها بالدُّعابة والهزل، ويشيع الفكاهة في أثناء الكلام، فجمع بذلك قلوب القارئين إليه، واستمالهم إلى كل ما يكتب، فصَبوا إليه وأُغْرِموا به غرامًا. وذلك لأنه كان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة، فطارت كتبه في الدنيا وغَزَتِ الآفاق.

وقد عَرَفَ الجاحظ في نفسه ذلك كله؛ فقال في كتاب الحيوان: «إنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه، بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر، وضروبِ الأحاديث، ليخرجَ قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل؛ فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاَّ في طريق الرَّاحة، التي إذا طالت أورثت الغفلة»[5]. وعلى هذا النحو كان الجاحظ يُرْسِل نفسه على سَجِيَّتِها، لا يتقيد بنظام يَتَرَسَّمُه، ولا بمنهج يلتزمه، يبدأ الكلام في قضية ثم يَدَعُها أثناء ذلك ليدخل في قضية أخرى، ثم يعود إلى ما أسلف حتى ليَصْعُبَ الاهتداءُ في جنبات مؤلَّفِهِ إلى الفكرة والرأي لمن يبحث عنهما.[6] لكنك ترتوي أثناء ذلك كله من مَعِينٍ شهي لا ينضب، وتحصِّل من المتعة والفائدة شيئًا عظيمًا لا مزيد عليه. وتجدر الإشارة إلى بعض كتب الجاحظ ومنها:

كتاب الحيوان:

وهو من أشهر كتب الجاحظ، وأكبرها حجمًا وأغناها بالعلم، ألَّفَه وأهداه إلى الوزير محمد بن عبد الملك، المعروف بابن الزَّيَّات، وزير الخليفة المعتصم، فكافأة بخمسة آلاف دينار. وكان الجاحظ بذلك أول واضع لكتاب عربي جامع في علم الحيوان. وعلى الرغم من أن عنوانه يوهم بأنه خُصِّصَ للحيوان وما يتصل به فَحَسْب، فقد حوى كذلك معارف واسعة، حتى إنه ليقدم صورة صادقة لثقافة العصر العباسي كله. فهو إلى جانب حديثه عن ممالك الحيوان وأجناسه وحياته وأمراضه وكل ما يعرض له، يحتوي على طائفة صالحة من المعارف الطبيعية والمسائل الفلسفية، وعلم الكلام والسياسة والفقه والمسائل الدينية، وتحدث فيه كذلك عن خصائص كثير من البلدان، وأثر البيئة في الحيوان والإنسان، وحوى كثيرًا من أقوال العرب وأخبارهم وأشعارهم ونوادرهم ومجونهم.

البيان والتبيين:

وهو أسْيَرُ كتب الجاحظ، وأكثرها تداولاً، وأعظمها نفعًا وفائدة، ألَّفَهُ في أخريات حياته حين عَلَتْ به السِّنُّ وقَعَدَ به المرض، وأهداه إلى القاضي أحمد بن أبي دُواد. ويتضمن الكتاب عددًا من المباحث والقضايا حول البلاغة والبيان، والخطابة، والشعر والأسجاع، ويحوي كذلك نماذج من الوصايا والرسائل، وطائفة من كلام النُّسَّاك والقصاص وأخبارهم، وعرض لبعض كلام النَّوْكَى والحمقى ونوادرهم. وقد قَرَّظَهُ بعض أهل العلم القدامى ومنهم أبو هلال العسكري، وابن رشيق القَيْرَواني، ويقول فيه ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمُبَرِّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها».

كتاب البخلاء:

هو كتاب أدب وفكاهة وحياة، تظهر فيه روح الجاحظ الفَكِهَةُ تهز الأرواح، وتجتذب النفوس، وقد صور فيه باقتدار طبيعة الحياة الاجتماعية في صدر الدولة العباسية، وقد يغلب على الظن أن الجاحظ كتب هذا الكتاب وهو في سِنِّ الشاب، إبَّان الفُتُوَّة؛ لأن هذه السن هي التي يغلب فيها العبث والسخرية، والتَّنَدُّر والدعابة والتفكه بعيوب الناس، ولكن ورد في هذا الكتاب من الأخبار ما يُرَجِّحُ أن الجاحظ أملاه وهو مَفْلُوجٌ في آخر أيامه، يرعشه الهرم والمرض، بعد أن ثقلت على كتفيه أعباء السنين.[7] وهذا يدل على أن روح المرح والدعابة أصيلة في أبي عثمان لم تفارقه حتى في مرضه وشيخوخته، فظل يسخر مما لا يعجبه في الناس، ويهزأ بما فطروا عليه من الجبن والبخل. وقد عالج في هذا الكتاب نفسيات البخلاء وميولهم وأهواءهم وفلسفتهم، وأورد قصصًا ممتعة وأخبارًا شائقة، يضحك منها القارئ ويطرب لها أشد الطرب.

كتاب البُرصان والعُرجان والعُميان والحُولان:

لم يُرِد الجاحظ بكتابه هذا أن يذكر العيوب أو العاهات نعيًا على أصحابها، بل قصد بذلك أن يجلو صورة ناصعة مشرقة لذوي العاهات الذين لم تكن عاهاتهم لتَحُول بينهم وبين تَسَنُّمِ الذّرى. وقد مهد لذلك بسرد شواهد وآثار من أدب العرب القدامى والمعاصرين له، في الاعتزاز ببعض العاهات والدفاع عنها، والصعود أحيانا إلى الفخر بها والتَّمَدح، وصدق الانتماء. فمذهب الجاحظ في هذا الكتاب ليس مذهب السرد أو التشهير، أو ذكر المثالب، وإنما كان مذهبه أن يجعله ذريعة إلى بيان نظرة العرب في أدبهم وأشعارهم إلى هؤلاء القوم الذين كُتِبَتْ عليهم العاهة، وتعاملهم الإنساني الرفيع معهم بالقول والفعل.[8] ويلاحظ فيه أن الجاحظ لم يعقد بابًا أو فصلاً للعميان ولا الحولان ولا الصمان، وإن كان قد أورد أخبارًا يسيرة ونتفًا ضئيلة في طي الكتاب لا تمثل الجدية أو القصد المباشر.

المحاسن والأضداد:

أحد كتب الجاحظ القيمة، التي تتردد فيها أصداء ثقافة عصره المتنوعة، فقد جمع فيه كَمَا يظهر من عنوانه إلى محاسن الأمور مساوئها، وقرن أمثالها بأضدادها، ولم يترك قولاً مأثورًا، أو طرفة باعة، أو رواية شائقة إلا أوردها في الباب المخصص لها في كثير من البراعة والتوفيق. ومن الموضوعات التي طرقها في هذا الكتاب: محاسن الكتابة والكتب، ومساوئ اللَّحن في اللغة، ومحاسن كتمان السر وحفظ اللسان، ومحاسن السَّخَاء ومساوئ البخل، ومحاسن الشجاعة، ومحاسن الذكاء والحِيَل، ومحاسن النساء، ومساوئ مكرهن، ومحاسن الغيرة، وموضوعات كثيرة أخرى.

رسائل الجاحظ:

أربعة أجزاء من البيان المُعْجِب الرائق لأبي عثمان، أخرجها الأستاذ عبد السلام هارون، وهي تعرض لقضايا ومسائل لطيفة شائقة، منها: مناقب الترك، والمعاش والمعاد، وكتمان السر وحفظ اللسان، وفخر السودان على البيضان، وفي الجد والهزل، وفصل ما بين العداوة والحسد، ومفاخرة الغِلْمان والجواري، وكتاب القِيَان، والتَّرْبيع والتَّدْوير، وذم أخلاق الكُتَّاب، وكتاب البغال، والحنين إلى الأوطان، وغيرها.

ويظهر في مؤلفات الجاحظ جميعًا بيانُه الرائق، وفوائده العملية الجَمَّة، وروحه الفكهة الجاذبة التي لا تفارقه، حتى لقد قال أبو الفضل بن العميد: «كُتُبُ الجاحظ تُعَلِّمُ العَقْلَ أولا، والأدَبَ ثانيًا». وقال عبد الله بن حمود الزٌّبيدي الأندلسي: «رَضِيتُ في الجنة بكُتُبِ الجاحظ عِوَضًا عن نعيمها».[9]


الجاحظ شهيد الكتب

تقدمت السِّنُّ بالجاحظ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فضَعُفَ جسمه ووَهَنَتْ قُواه، وأصيب بفالج (شلل) نصفي، فعاد إلى البصرة مسقط رأسه يعاني قسوة المرض، حتى إن المبرد قال: «دخلتُ على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مَفْلوجٌ لو حُزَّ بالمناشير ما شَعَرَ به، ونصفه الآخر مُنْقَرِسٌ لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك سِتٌّ وتِسعون سنة أنا فيها»[10]. وقال لمتطبب يشكو إليه عِلَّتَه: «اصْطَلَحَتِ الأضداد على جسدي، إن أكلت باردًا أَخَذَ برِجْلي، وإن أكَلْتُ حارًا أَخَذَ برأسي»[11]. ومن عجب أن الجاحظ لم يمت ضحيةَ هذه الأمراض التي اجتمعت عليه، وإنما راح شهيدَ الكُتُب، إذ كان من عادته أن يضعها كالحائط محيطة به، وهو جالس بينها يقرأ، فانهالت عليه وقَتَلَتْهُ ولَحَدَتْه مَيْتًا بعد أن كانت شاغلَ حياته، وسَلْوَةَ عقله [12]، وكان ذلك عام 255هـ، فحَوْقَلَ الناس وترحَّموا عليه، وبكى الخليفة المعتز لموته فقال بعض صحبه: لأميرِ المؤمنين طولُ البقاء ودوام النعماء. وبكاه أبو العَيْنَاء بدمع غزير، فسُئل: ليت شعري أي شيء كان يُحْسن الجاحظ؟ فقال: ليت شعري، وأي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟![13]


[1] ياقوت الحموي، معجم الأدباء، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، 1993، ج5، ص 2101.[2] الطاهر أحمد مكي، دراسة في مصادر الأدب، ص 112.[3] الجاحظ، الحيوان، ج 1 ، ص 5.[4] دراسة في مصادر الأدب، ص113.[5] الجاحظ، الحيوان، ج3، ص7.[6] البيان والتبيين، ج1، ص 6، والطاهر مكي، ص 120.[7] كتاب البخلاء، تحقيق أحمد العوامري وعلي الجارم، دار الكتب المصرية، 1938، ج1، ص 14.[8] كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان، دار الجيل، 1990، ص 15-16.[9] عبد السلام هارون، تهذيب الحيوان للجاحظ، ص 10.[10] معجم الأدباء، ج5، ص 2121.[11] السابق، ص2122.[12] دراسة في مصادر الأدب، ص 116.[13] أحمد كمال زكي، الجاحظ، أعلام العرب (62)، ص174.