وجوه شاحبة، كأنها نُقِعَت للتوِّ في المادة الخام للموت. لا ينازع شحوبَها في معركة السيطرة على ملامحها سوى جروحٍ وحروقٍ مروعة، تنسابُ منها الدماء، وكأنها تفر منها. يمشون في خطواتٍ متثاقلة، تحمل من الصدمة والذهول أضعاف ما تحمل من الألم. تغشاهم نوبات عنيفة ومستمرة من التقيؤ، الذي يكاد لا ينتهي، حتى يشعر من يراهم أنهم على وشك إخراج أجوافهم نفسها، وليس ما فيها فحسب. ثم لا يلبثون أن يسقطوا أرضًا، كأنهم صرعى مباراةٍ في المصارعة الرومانية.

ليس هذا المشهد البشع السابق وصفًا للموتى الأحياء، أو «الزومبيز»، أبطال أفلام الرعب الشهيرة، مثل «الشر المقيم – Resident Evil»، إنما هو تجسيد لما حدث لضحايا كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل السوفيتي عام 1986م، والأعراض السابقة هي أعراض التسمم المباشر بكمية كبيرة من الإشعاع النووي.

ولأننا نعيشُ في عالم مضطرب، تُدَق فيه طبول الحرب بين دول كبرى، تمتلك منشآت أو أسلحة نووية، وتطمح دول أخرى لامتطاء صهوة الطاقة النووية الجامحة، فقد نجد أنفسنا غير بعيدين عما هو أخطر من تشيرنوبل، أو في القلب منه.

سنستعرض في السطور القادمة ما خفَّ وزنه، وثقُلتْ قيمته، من أضرار الإشعاع على أجسامنا، وكيفية التعاطي الشخصي مع تلك الكارثة الخطيرة.


التسمم الإشعاعي.. الموتُ الذي يقتحم الجسم

بالمعدَّلات الضخمة التي تعرَّض لها هؤلاء، سيمزق الإشعاع المأين البنية الخلوية لأجسامهم، فيبدأ الجلد بالتحول إلى فقاقيع، ثم يتحول لونه إلى الأحمر، فالأسمر، ثم يعقب هذا فترة من النقاهة الخادعة لبوم أو يوميْن، تنحسر فيهما الأعراض الأولية، فيبدو الأمر وكأنَّ المصاب آخذٌ في التحسن، ثم فجاة يبدأ تضرر خلايا الجسم في البروز، فيتوقف نخاع العظام عن العمل، وينهار جهاز المناعة، وتبدأ الأجهزة الحيوية في الفشل، وتتحلَّل الأوعية الدموية، وخلال أيامٍ أو أسابيع قليلة تأتي الوفاة.

البروفيسور السوفيتي «فاليري ليجازوف»، متحدثًا عن مصير مهندسي المفاعل، ورجال الإطفاء الذي كانوا أول ضحايا انفجار مفاعلتشيرنوبل عام 1986م (حوار من الحلقة 3 من مسلسل تشيرنوبل، إنتاج HBO 2019)

قبل أن نخوض في الحديث عن الآثار الصحية للإشعاع النووي على أجسامنا، لا بد أن نعرف نبذة مختصرة عن الإشعاع المًأيَّن. الإشعاع هو باختصار انبعاث الطاقة من مصدر ما، وأنواع الإشعاعات لا تعد ولا تُحصى، لكن ما يهمنا هنا هو الإشعاع المًأيَّن، وهناك أنواعٌ عديدة من هذا الإشعاع، منها أشعة رونتجن X-ray الشهيرة باستخداماتها الطبية الواسعة، وأشعة ألفا وبيتا وجاما والأشعة الكونية … إلخ.

يحدث النشاط النووي، نتيجة التحلل الذاتي لذرات العناصر النشطة نوويًّا مثل اليورانيوم، فينتجُ كمية هائلة من الموجات الكهرومغناطيسية، و الجسيمات متناهية الصغر، والتي تمتلك قدرًا كبيرًا من الطاقة، كافيًا لانتزاع الإلكترونات من مداراتها حول الذرات، فتتحول الأخيرة إلى أيونات مشحونة، وأقل استقرارًا. ومن هنا جاء وصف «المُأيَّن».

يمتلك الإشعاع المُأيَّن قدرة هائلة على اختراق أجسامنا، والعبث باستقرار الذرات متناهية الصغر المكونة لخلايانا. وكلما زادت كمية الإشعاع المًأيَّن، ومدة التعرض له، زادت الجرعة التي تمتصها أجسامنا، وازداد الضرر الحادث لأجسامنا.

ويمكن لأجسامنا أن تتعرض لهذا الإشعاع الضار من الداخل أو من الخارج. يحدث التعرض الداخلي باستنشاق أو ابتلاع المادة المشعة، أو وصولها إلى الدورة الدموية من خلال حقنٍ ملوثة … إلخ، ولا يتوقف التعرض لهذا الإشعاع، إلا بعد خروج المادة المشعة من أجسامنا مع الفضلات، أو بتعاطي دواءٍ مضادٍّ إن وُجِد.

أما التعرض الخارجي، فيكون عن طريق ترسب الرذاذ والأتربة المحمَّلة بالمواد المشعة، على ملابسنا، وسطح أجسامنا، ولا يتوقف هذا التعرض، إلا بالتخلص من الملابس الملوثة، وتطهير الجسم من بقاياها، والابتعاد عن مصدر الإشعاع فورًا.

جديرٌ بالذكر أن معظم تعرضنا للإشعاع، يكون لأسباب طبية، حيث يجرى سنويًّا حول العالم أكثر من 3.6 مليار فحص إشعاعي، منها 37 مليونًا من أشعات الطب النووي، كما يتلقى مرضى السرطان حول العالم حوالي 7.5 مليون جلسة علاج إشعاعي. ولحسن الحظ، فمعظم الفحوصات الطبية الإشعاعية، وكذلك العلاجات الإشعاعية للأورام، لا تسبب التعرض لجرعة خطيرة من الإشعاع، ينتج عنها التسمم الإشعاعي.

فيديو مبسَّط يشرح الآثار السلبية للإشعاع على الصحة


أعراض التسمم الإشعاعي وعلاجه

لا يشترط أن يحدث التسمم الإشعاعي نتيجة انفجار قنبلة نووية، أو مفاعل ذري، إنما قد يحدث نتيجة تسرب المواد المشعة من جهاز طبي لا يعمل بشكل جيد، أو نتيجة جرعات كبيرة من العلاج الإشعاعي للسرطان … إلخ.

تعتمد شدة الأعراض على كمية الإشعاع الذي تعرض له الجسم، وهل كان تعرُّضًا كليًأ أم جزئيًا، وقصر أو طول مدة التعرض، ومدى قرب أو بعد الجسم من مصدر الإشعاع، وكذلك على نوع الإشعاع، وشدته. كذلك تختلف أجهزة الجسم في مدى تأثرها بالإشعاع، فالجهاز الهضمي، ونخاع العظام المكون لخلايا الدم، من أشدها حساسيةً للإشعاع.

دائمًا ما يكون العرض الأول هو الغثيان والقيء، وكلما تسارع ظهوره بعد التعرض للإشعاع، دلَّ هذا على أن كمية التسمم الإشعاعي كبيرة. كذلك قد يصحبه الإصابة بالإسهال، وبالصداع الشديد، وظهور احمرار بالجلد يشبه حروق الدرجة الأولى، أو حروق الشمس.

بعد ساعات أو أيام، يبدأ الشخص بالتحسن تدريجيًا، لكن يكون هذا تحسُّنًا مؤقتًا، إذ لا تلبث الحالة خلال أيام أو أسابيع على الأكثر أن تتدهور، وتتفاقم الأعراض السابقة، ويضاف إليها أُخَر، مثل فقدان الشهية، واضطراب في درجة الوعي، وأحيانًا الإصابة ببعض التشنجات العصبية. كذلك تظهر إصابات أشد على الجلد، قد تصل إلى تفقَّع مساحاتٍ كبيرة من الجلد، وتحول بعضها إلى قرح. كذلك يتساقط الشعر بشكلٍ جزئي أو كلي.

إذا كان المريض في طريقه للشفاء، فإن الجلد سيتعافى تدريجيًا على مدى أسابيع، وكذلك يبدأ الشعر في النمو شيئًا فشيئًا، وتأخذ الأعراض في الانسحاب. أما إذا أخذت الحالة طريق التدهور، فستستمر إصابة الجلد في التفاقم، فيفقد المريض كميات هائلة من السوائل، ويصاب بالجفاف، كما يتعرض للعديد من الإصابات البكتيرية الخطيرة نتيجة انهيار جهاز المناعة، نظرًا لتوقف نخاع العظام عن إنتاج خلايا الدم وعلى رأسها كريات الدم البيضاء، وتبدأ أجهزة الجسم الحيوية كالكلى والكبد والرئتيْن في التوقف، وتحدث الوفاة.

أول خطوات العلاج هي تقليل حدة الإشعاع، وذلك بالتخلص من الملابس والأحذية الملوثة بالإشعاع، وكذلك غسل الجسم جيدًا بالماء والصابون لإزالة الجزئيات المشعة العالقة به.

تنصب جهود العلاج بعد ذلك على عزل المريض، لتقليل فرص الإصابة البكتيرية، والمسارعة إلى علاجها بشكل صارم بالمضادات الحيوية القوية إن وقعت. كذلك تقديم العلاجات الداعمة، عبر إمداد جسم المريض بقدرٍ وفير من السوائل، والمغذيات، والغيار الجيد على جروح الجلد كي لا تتلوث، وكذلك إعطاء بعض العلاجات المنشطة لنخاع العظام كمادة الفيلجراموستيم، والتي تنشط تكوين كريَّات الدم البيضاء.

كذلك توجد بعض العلاجات الخاصة، والتي تقلل تضرر بعض الأجهزة الحيوية من أنواعٍ خاصة من الإشعاع، مثل اليود المستقر (يوديد البوتاسيوم) والذي يمنع التلوث باليود المشع من إتلاف الغدة الدرقية، حيث تمتصه خلاياها بدلًا من النظير المشع. أيضًا تستخدم صبغة أزرق بروسيا، في حالات التسمم بالثاليوم أو السيزيوم المشع، حيث ترتبط بهما، وتساهم في التخلص منهما في البراز. بالإضافة إلى حمض DTPA والذي يرتبط بالمواد المشعة مثل الإمريسيوم والبلوتونيوم، ويخرج بها إلى البول.

وقد تستغرق عملية التعافي التام ما بين بضعة أسابيع، وعدة أعوام، حسب شدة كل حالة، وجودة علاجها.


كيف أتجنب الإصابة بالتسمم الإشعاعي أثناء كارثة نووية؟

قد تستغرق عملية التعافي التام ما بين بضعة أسابيع، وعدة أعوام، حسب شدة كل حالة، وجودة علاجها.

مقطع يُظهر الأمراض التي نتجت عن الإشعاع الناجم عن كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل 26 أبريل 1986م

الاحتفاظ برباطة الجأش، والسيطرة الجيدة على رد فعلك، هو المحدِّد الأول لنجاحك في إنقاذ نفسك في مثل هذا الموقف العصيب. يجب كذلك أن تتابع جيدًا وسائل الإعلام الموثوقة، لتخبرك بأحدث التعليمات وفق تطور الموقف.

إذا كانت التعليمات تقتضي بقاءَك حيث أنت، فعليك أن توصِد النوافذ والأبواب جيدًا، وأن تغلق كافة وسائل التهوية المتصلة بالهواء الخارجي كأجهزة التكييف، والمراوح الخارجية. انتقل إلى أكثر غرفة داخلية، أو البدروم، ولا تغادرها قبل 24 ساعة على الأقل، أو حين تأمر تعليمات الجهات المختصَّة بالمغادرة. ويكون طعامك من المعلبات جيدة الغلق، وشرابك من المياة المعدنية.

أثناء عملية الإخلاء اتبع التعليمات، وتحرك في نظام، واصطحب فقط الأشياء شديدة النفع مثل الأطعمة المعلبة، وآلة فتحها، وكشاف الضوء،وبطاريات، وعلبة الإسعافات الأولية، وبعض الأدوية الهامة، وبالطبع بطاقات الائتمان، وأكبر قدر ممكن من الأموال السائلة.