تعد ظاهرة الشتات أو الدياسبورا דיאסבורה من أكثر الظواهر المسيطرة على تاريخ اليهود على مر عصورهم، إذ تفرقوا وتشتتوا في كثير من بقاع وبلدان العالم بفعل عوامل تاريخية وسياسية، وانقسموا إلى جماعات تستمد خطابها الثقافي والحضاري من الشعوب والسكان الأصليين للبلدان والمناطق التي تشتتوا فيها وأصبحوا يعيشون بين ظهرانيهم.

وارتبط اليهود كقاعدة بلا استثناء في كل بلد ومكان يعيشون فيه شرقًا وغربًا بـ(العزلة السكنية) في حي خاص من المدينة التي يعيشون بها، وكان من أشهر هذه التجمعات السكنية الانعزالية اليهودية «الملاح Mellah» في مدن المغرب [1]، والذي رغم كونه معبرًا عن الانعزالية والخصوصية اليهودية لا سيما على مستوى الديانة، إلا أنه كان فضاءً بارزًا لحالة التعايش اليهودي في بلاد المغرب الإسلامي تحت ظل سلطة إسلامية متسامحة، وبالتالي لم يكن حيًا خاصًا باليهود وحسب، بل كان يمثل أيضًا مؤسسة سكانية واقتصادية تزاول فيها الأنشطة التجارية والحرفية كافة، بشكل جعله حلقة وصل اقتصادية وإنسانية في آن بين اليهود والمسلمين في المغرب.


روايات التسمية والنشأة

تعددت واختلفت الروايات حول الملاح لاسيما المتعلقة بتسمية أو أصل وتاريخ نشأته، ولربما يكون هذا الاختلاف والتعدد عائدًا إلى فقدان الحيادية والموضوعية في الكثير من الكتابات حول يهود المغرب وما يتعلق بهم، وخاصة حول الملاح، إذ استأثر بمعظم هذه الكتابات إما مستشرقون فرنسيون جاءوا على جناح الاستعمار الفرنسي للمغرب، أو حتى باحثون يهود لم يلتزموا الدقة والموضوعية التامة حول هذا الأمر.

بالنسبة لتسمية الملاح، فالرواية الأكثر شيوعًا والأقرب للمصداقية والموضوعية التاريخية، هي إطلاق هذا الاسم على أول ملاح تم بناؤه في العهد المريني عام 1438م بمدينة فاس المغربية (جنوب شرق) بمنطقة كان يجمع بها (الملح) ويخزن تمهيدًا لتصديره عبر القوافل لأوروبا؛ حيث كانت مادة الملح تُجْمَع في موقع عند مدخل المدينة قبل توزيعها، فكان ذلك أول تَجَمعٍ خاص باليهود، ومنذ ذلك الحين تم تعميم مصطلح الملاح لتتداوله الأوساط المسلمة واليهودية في المغرب كحي محاط بأسوار عالية له في الغالب بابان ويقطنه اليهود، ثم أصبح الملاح بعد ذلك كلمة تصف كل تجمع سكاني لليهود في المغرب سواء في المدن العتيقة والكبيرة أو حتى في القرى الصغيرة والجبلية [2].

وتقول الرواية الأخرى إن اليهود المغاربة كانوا مجبرين على العيش داخل أحياء ضيقة ووسخة محاطة بالأسوار وشبيهة بالسجون والتي يطلق عليها اسم الملاح؛ لكون سكانها كانوا يمارسون فيها مهنة معالجة الرؤوس التي يأمر سلطان المسلمين بقطعها وتحنيطها بالملح قبل تعليقها على أبواب المدينة لتخويف الساكنة، إلا أن الكثير من الكتابات التاريخية تصف هذه الرواية بـ(البشعة) وتعتبرها غير أمينة؛ إذ اقترنت بما بات يعرف بـرواية (أرض الملح الملعونة) المنسوبة إلى المؤرخ الفرنسي هنري دي لامارتنيز، والذي روج لها في بداية عصر التغلغل الاستعماري الفرنسي في شمال أفريقيا.

أما روايات نشأة الملاح، فهي متعددة أيضًا وهناك من يقسمها إلى رواية (إسلامية) وأخرى (يهودية)، أولى هذه الروايات تقول بأن الملاح لاسيما في فاس لم ينشأ خصيصًا من أجل اليهود للعيش به، بل إنه كان حيًا عاديًا من أحياء المدينة القديمة، واليهود اختاروا السكن بالمنازل والغرف الصغيرة فيه لرخص ثمنها، أي أنه كان لسبب اقتصادي بحت، لكن مع الوقت بدأوا ينعزلون داخل هذا الحي ويتكاثرون به نتيجة معاملتهم معاملة أهل الذمة، إلا أنهم لم يكونوا يعيشون بمفردهم بالملاح بل كانوا يسنكون بجوار المسلمين [3]. يستثنى من ذلك فقط ما يسمى بـ( ملاح مكناس الجديد) في مدينة مكناس (وسط المغرب)، والذي بناه اليهود بالقرب من الملاح القديم ليتجمعوا فيه عقب الاستعمار الفرنسي للمغرب، إذ ارتابوا من تأثير الثقافة الفرنسية الغربية على ثقافتهم اليهودية التقليدية التي بدأت تتغلغل بين أطياف المجتمع المغربي [4].

هناك رواية أخرى أكثر شيوعًا تقول بأن ملوك وسلاطين المغرب دأبوا على بناء حي صغير لليهود بالقرب من قصورهم ومراكز السلطة لحماية اليهود؛ خوفًا من التنكيل بهم أو الثورة عليهم أو تعرضهم لعمليات الاضطهاد، إذ كان الحكام والسلاطين يعتمدون عليهم في مجالات التجارة ومضاربة الأموال وكذلك صناعات الذهب والمجوهرات والتي كان يتقنها اليهود بشدة وتميزوا بها، فكان الملاح بمثابة حصن لهم بالقرب من قصر السلطان يحميهم من أية مخاطر، إذ إن معظم الملاحات في المغرب بُنيت بالقرب من قصور الحكم لا سيما في المدن الكبيرة مثل فاس والرباط [5].

وتقول رواية أخرى لكنها (يهودية) إن نشأة الملاح جاءت بعد ما سُمي بـ(مؤامرة الخمر) عام 1438م، والتي اتهم فيها اليهود باستبدال وعاء من الماء بوعاء من الخمر بأحد مساجد المناطق القريبة من فاس، مما أدى إلى الهجوم على اليهود لا سيما في ظل ضعف الحكم المركزي في البلاد وتزايد التشدد الديني الإسلامي بها، وهو ما أدى إلى إنشاء الملاح في فاس كحي خاص ليعيش اليهود به وتم طردهم من جميع المناطق المحيطة بهذا المسجد. وفي راوية متعلقة بنفس هذه الراوية أيضًا، تقول بأن إنشاء الملاح جاء بعد اكتشاف قبر إدريس الثاني، أحد مؤسسي الدولة المغربية، بالحي الذي كان يقطن به اليهود في فاس، وحرصًا على مشاعر المسلمين تم بناء حي خاص لليهود وترحيلهم إليه بعيدًا عن هذا القبر [6].


الخصوصية والتعايش

من غير المبالغة القول إن الملاح في المغرب جمع بين أمرين نقيضين، وهما: الحفاظ على الخصوصية اليهودية داخل المجتمع المغربي ذي الأغلبية المسلمة، وفي نفس الوقت كان فضاءً للتعايش بين المسلمين واليهود في المغرب، لا سيما أنه كان وما يزال القلب التجاري والاقتصادي النابض في كل مدينة مغربية يوجد بها، لا سيما ملاح مدينة الصويرة (جنوب غرب المغرب) الذي كان يُسمى بــ«ملاح تُجار السلاطين».

إذا وقفنا على خصوصية الملاح، فمن المهم ذكر أنه لم يكن يشتمل على دور ومنازل اليهود المغاربة فقط، بل أيضًا على معابدهم ومحاكمهم ومدارسهم الدينية وجميع مؤسساتهم الخاصة عدا المقابر في بعض المدن التي كانت خارجه أو قريبة منه، فقد كان الملاح يمثل – في أغلب الأحيان- شكلاً معماريًا خاصًا باليهود داخل العواصم التاريخية للمغرب، ولكنه من خلال تجسيده لوضعية أهل الذمة كان يتمتع بالاستقلال النسبي في تسييره وإدارته وقضائه، مما يسمح لليهود بحرية ممارسة شعائرهم داخل الملاح وتنظيم حياتهم الاجتماعية وفقها، بشكل حفظ لهم تلك (الخصوصية اليهودية)[7].

كما كان لكل ملاح نواب يمثلون الطائفة اليهودية وينوبون عنها أمام السلطات ويرعون مصالحها ويعملون على حل مشاكل اليهود فيما بينهم، وبداخل أسوار الملاح أو بالقرب منها يتواجد كنيس أو أكثر للعبادة والصلاة ومدرسة أو أكثر لتلقين مبادئ الكتابة والدين اليهودي [8].

ورغم أن الملاح يندرج ضمن الأشكال السكانية الانعزالية لليهود سواءً غربًا أو شرقًا، على غرار الجيتو في ألمانيا وشرق أوروبا وحارة اليهود في مصر وقاع اليهود في اليمن، إذ كانت هذه الوحدات السكنية اليهودية تغلف بحائط أو سور خاص داخل المدينة، وأحيانًا يكون خارج المدينة الأم تمامًا [9]، إلا أن بعض الكتابات تشير للملاح بأنه حي يهودي داخل المدن العتيقة في المغرب لكنه تميز بانفتاحه الكلي وعدم وضوح حدوده، وتداخل بيوته مع بيوت المسلمين ولا ينعزل بعضها عن البعض الآخر إلا نادرًا، وهي حجرات تعيش فيها العديد من الأسر في وئام تام وتنفتح على ساحات مشتركة وتستعمل فيها المراحيض بشكل مشترك [10].

يشار كذلك أن هناك عدة مدن مغربية عرفت تواجدًا يهوديًا بارزًا لكن بدون وجود ملاح مثل مدينتي وجده (شرق المغرب) والعرائش (شمال المغرب)، إذ عاش اليهود والمسلمون سويًا في أحياء مشتركة لا تكاد يتم التمييز فيها بين منزل اليهودي والمسلم، فقد تجاوز الحضور اليهودي في هذه المدن نسق التعايش إلى نسق (التمازج) بشكل أصبح فيه اليهود في فترة من تاريخ المغرب يمثلون جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والوطني والسياسي.

كما اعتبر الملاح جزءًا لا يتجزأ من (المدينة الإسلامية) في المغرب بمفهومها المعماري والسياسي، والذي ظهر على أيدي المستشرق الفرنسي ويليام ماركيز عام 1961، إذ بُنيت المدن الإسلامية سواءً في حواضر المغرب أو الشام بشكل لا يتسم بالانعزالية، إلا أنه نظرًا للتواجد اليهودي الكثيف بالمغرب لظروف تاريخية متعاقبة فقد ظهر حي خاص بهم داخل هذه المدينة [11]، لكنه لا ينفصل عن نسيج المدينة بل كان يعد حلقة تواصل اجتماعي، ونقطة نشاط اقتصادية حية، وبوتقة صهر لحالة التعايش والوئام اليهودي – الإسلامي في المغرب.

المراجع
  1. جمال حمدان، اليهود أنثروبولوجيا، دار الهلال، 1996، ص 117.
  2. سعيد أيحيى: الملاح، حي يهودي
  3. Julio Calvo-Serrano,Fabian Garcia-Carrilo, Juan Manuel Santiago-Zaragoza; Mellah ; The Jews Quarter the Medinas Of Morocco, Anew interpretation of the minority's Space in the Islamic City, proceedia engineering journal (161) World Multidisciplinary civil Engineering-Architecture-Urban Planning Symposium 2016(WMCAUS); p 1322-1323.
  4. موقع مركز توثيق يهود شمال أفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية
  5. إثنا عشر قرنا من التاريخ اليهودي بمدينة فاس
  6. ירון צור: קהילה קרועה…יהודי מרוקו והלאומיות 1943-1954، הוצאת ספרם עם עובד תל-אביב 2002، עמ׳13-14.
  7. المرجع السابق.
  8. سعيد أيحيى، المرجع السابق.
  9. جمال حمدان، المرجع السابق، ص 117.
  10. رشيد بنبارك، التحولات التي عرفها المغرب وتأثيرها على التعايش بين اليهود والمسلمين، مقاربة سوسيولوجية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، 22 فبراير 2019.
  11. Julio Calvo-Serrano,Fabian Garcia-Carrilo, Juan Manuel Santiago-Zaragoza; Mellah;Ibid;p 1332.