مئتان وخمسون عامًا هي عمر الولايات المتحدة منذ إعلان استقلالها عن الممالك الأوروبية عام 1776، لكن رغم قصر تلك المدة نسبيًا فإن الولايات المتحدة الأمريكية تُعتبر واحدة من أكثر الدول التي خاضت حروبًا في التاريخ المعاصر. وإذا أضفنا التدخلات المحدودة والغارات الاستثنائية مثل قصف سوريا والصومال، فستصبح الولايات المتحدة أكثر دول العالم خوضًا للمعارك بشكل عام.

الرابط المشترك بين تلك المعارك أنه لا واحدة منها جرت على أراضٍ أمريكية، فدائمًا ما كانت أراضي الآخر هي مسرح الحروب الأمريكية. هذا الآخر يشمل العالم أجمع، فرغم الاختلاف الظاهر بين دول العالم في الدين والمذاهب السياسية، وفي اللون، وفي التعامل مع الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة جمعت بينها جميعًا بصفة مشتركة، العدو. فكل ما هو خارج الولايات المتحدة عدوٌ لها، وغزوه عسكريًا أمر وارد إذا رأت القيادة الأمريكية مصلحةً في ذلك.

وإذا استبعدنا الحرب العالمية الأولى والثانية حيث كان العالم بأكمله يتناحر مع بعضه، وحذفنا من حديثنا ذِكر الدول الأفريقية والآسيوية التي تدخلت فيها الولايات المتحدة عسكريًا، سنجد أن جسد العالم الأبيض يحوي آثار مخالب الجيش الأمريكي في العديد من أجزائه.

مع إسبانيا: لا تقتربوا من استثماراتنا في كوبا

لمدة ثمانية أشهر كاملة خاضت الولايات المتحدة حربًا ضد إسبانيا عام 1898. الحرب سببها خلاف نشب بين الحكومتين في فترة كانت إسبانيا تسيطر على العديد من المستعمرات في أمريكا الجنوبية وغرب المحيط الهادي، وأشهر تلك المستعمرات كانت كوبا.

كوبا تخوض صراعًا دمويًا للتخلص من الاحتلال الإسباني، إسبانيا تحاول إخضاع ذلك الصراع، أما الولايات المتحدة فشعرت أن استثماراتها في كوبا البالغة 100 مليون دولار آنذاك في مزارع السكر باتت محل تهديد. كان الكوبيون يواجهون الجزّار، فاليريانو ويلر نيكولو، الجنرال الإسباني صاحب الرغبة الواضحة في سحق الكوبييين للأبد. لذا تعالت الأصوات داخل الكونجرس للتدخل ضد إسبانيا لإنقاذ الكوبيين.

هددت الولايات المتحدة أولًا بالتدخل، واستغلت مصادفة انفجار بارجة أمريكية كانت راسية في ميناء هافانا لتقول، إن الإسبان وراء ذلك الانفجار، وإنه إذا لم يتنازل الإسبان عن كوبا فسوف تغزوها، فردت عليها إسبانيا بإعلان الحرب رسميًا. في أول مايو/ آيار عام 1898 كان الأسطول الأمريكي البحري يخوض أول معركة بحرية له في خليج مانيّلا قرب الفلبين. سرعان ما مالت كفة المعركة للجيش الأمريكي فوافق الطرفان على إنهاء الحرب في أوائل عام 1899. وصيغت الشروط النهائية في اتفاقية باريس التي أجبرت إسبانيا على الانسحاب من كوبا وبورتوريكو وجزيرة جوام.

خسرت الولايات المتحدة في تلك الحرب 379 جنديًا، بينما خسر الإسبان 4234 جنديًا. وألزمت معاهدة باريس الولايات المتحدة أن تنقل الأسرى الإسبان الذين أخذتهم إلى بلادهم على نفقة الولايات المتحدة.

فازت الولايات المتحدة في تلك الحرب وخسرت إسبانيا، والمفاجأة أن كوبا هي الأخرى خسرت كفاحها. فقد اشترطت الولايات المتحدة على كوبا لاحقًا منح قواعد بحرية للولايات المتحدة، كما منعت كوبا من توقيع أي معاهدة تجعل كوبا قادرة على الدوران في فلك أي قوة أجنبية غير الولايات المتحدة.

مع إنجلترا: حرب بلا أسباب أو نتائج

قبل الحرب الأمريكية الإسبانية بقرابة 86 عامًا خاضت الولايات المتحدة حربًا ضروسًا ضد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في حرب عام 1812 خسرت بريطانيا 1600 جندي، وفقدت الولايات المتحدة 2260 جنديًا.

أسباب تلك الحرب تتلخص في أن البلدين كانت لديهما رغبة قوية في الصراع سويًا وكانا يتربصان بأي سبب ليعلنا بسببه الحرب. لذا فأثناء حرب بريطانيا مع فرنسا تحرشت بريطانيا بالسفن الأمريكية من أجل إجبار البحارة الأمريكيين على الحرب لصالحها، وفرضت بريطانيا قيودًا تجارية على الولايات المتحدة كي تتوقف عن دعم فرنسا، وآخر ما كان من بريطانيا أنها ضربت سفينة أمريكية فقتلت ثلاثة من طاقمها.

حينها وجدت الولايات المتحدة الفرصة سانحةً لإعلان الحرب على بريطانيا، بخاصة أن الولايات المتحدة كانت تريد إيقاف دعم بريطانيا للقبائل الهندية المناهضة للتوسع الأمريكي، كما أرادت الولايات المتحدة أن تتوسع حال الفوز على بريطانيا في الحرب والظفر بأي مستعمرة كانت تقع ضمن الإمبراطورية البريطانية.

لم يكن أي طرف من الاثنين مستعدًا لهذه الحرب، بريطانيا مشغولة بحروبها مع بونابرت، والولايات المتحدة كانت لا تزال فتية ليس لها العدد الكافي من الجنود، فالأمريكيون في تلك الحقبة كانوا يفضلون القتال في ميليشيات عشوائية بدلًا من القتال في جيش نظامي، كما أن الولايات المتحدة كانت تعاني من عجز في التمويل في تلك السنوات. لكن كان إصرار الجمهوريين على الحرب قويًا لدرجة دفع 12 سفينة أمريكية لمواجهة أسطول بريطانيا العظمى البالغ 800 سفينة، كما نشبت حرب برية على الجبهة الكندية بطول البحيرات العظمى والجنوب الأمريكي.

بريطانيا دافعت في البداية لأنها مشغولة بحرب نابليون، أما أمريكا فهاجمت فكان لها الجولات الأولى. هُزم نابليون فقررت بريطانيا الهجوم وعززت بـ15 ألف جندي إلى أمريكا الشمالية، فهزموا قبائل هنود الكرى الموالية للولايات المتحدة. فوز تلو الآخر دخل البريطانيون واشنطن العاصمة وأحرقوها. لكن هُزم البريطانيون في معركة بلات سبرج عام 1814، فاحتفظ الأمريكيون بنيويورك، وخشى البريطانيون أن الجولات المقبلة لن تكون لهم.

المفاجئ أن العامل الأساس في تلك الحرب كان غياب التواصل السريع بين الطرفين، فقبل اندلاع الحرب بيومين أعلنت بريطانيا موافقتها على كافة مطالب الولايات المتحدة والكَف عن انتهاكاتها في حق البحارة الأمريكيين، لكن لم يكن ثمة اتصال برقي بين الطرفين فظن الأمريكيون أن بريطانيا لم تستجب لمطالبهم.

 وفي النهاية أيضًا حين وقع الطرفان اتفاقية كِنت لإنهاء الحرب لم تعلم السفن البريطانية أو الأمريكية التي كانت في المحيط الأطلسي بخبر نهاية الحرب إلا بعد ستة أسابيع كاملة، واستمروا في تبادل النيران طوال تلك المدة. واكتشف الطرفان بعد توقيع الاتفاقية أن شيئًا لم يتغير على أرض الواقع، حتى أن العديد من مؤرخي الجانبيين تساءلوا عن جدوى تلك الحرب!

مع الدومينكان: حرب الديون

لا أحد ينجو من الجيش الأمريكي حتى لو كانت الدومينكان، من عام 1916 حتى عام 1924 احتلت الولايات المتحدة الدومينكان. أسباب الاحتلال كانت الحالة الفوضوية التي عاشتها الدومينكان فمنعتها من تسديد ديونها للولايات المتحدة. فقررت أن تحتل البلد لتحصل على مستحقاتها، والملفت أن الاحتلال لم يحظ بشعبية بين الأمريكيين كذلك الذين رأوه مضيعةً للمال.

لكن ما رأته الولايات المتحدة ولم يره الآخرون أن أي دولة موجودة حول قناة بنما هي دولة استراتيجية ويجب مراقبتها عن كثب، حتى لو استدعى الأمر احتلالها لضمان أمان الاستثمارات الأمريكية. في فترة الاحتلال أنشأت الولايات المتحدة شركة سانتو دومينجو وجعلتها مسئولة عن تنظيم واستلام جمارك موانئ الدومينكان.

وبعد أول رسو للسفن الأمريكية التي أتت تفرض وصايتها على البلاد استقال خوان ايسيدرو جيمنس الرئيس الدستوري للبلاد اعتراضًا على تلقي أوامره من الاحتلال الأمريكي. في 15 مايو/ آيار 1916 بدأت قوات المارينز الأمريكية في ابتلاع الدومينكان شبرًا تلو الآخر.

تميز الغزو الأمريكي للدومينكان بأن القصف كان يتم بالمدافع الثقيلة لفترات طويلة متواصلة تصل إلى 45 دقيقة في معظم المعارك. فلم تكن حربًا مباشرة ولم تكن حربًا يعتمد فيها الجنود على بنادقهم اليدوية، بل تسبقهم قذائف المدفعية وطلقات المدافع الرشاشة حتى تقضي على المقاومة ثم يتقدم الجنود الأمريكيون لحصر الجثث والأسلحة التي تركها الجنود القتلى والهاربون.

وحين وصل الجنود إلى العاصمة وباتت الدومينكان بالكامل في القبضة الأمريكية نصبّت الولايات المتحدة حكومةً تابعةً لها بقيادة الأدميرال هاري شيبرد قائد إحدى السفن المقاتلة، وأنشأ بدوره حرس الدومنيكان الشرطي الذي سلب السلطة من كافة النخب الوطنية وجعل ولاءه لهاري فحسب، وبالتبعية للولايات المتحدة.

استاء الشعب من تبعيته المهينة للولايات المتحدة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سخط الأمريكيون أنفسهم على حكومتهم، فقررت الولايات المتحدة الانسحاب من الدومينكان مع وضع العديد من الاشتراطات تجبر البلد الضعيف على القبول بكافة أوامر الجيش الأمريكي، وتجبره كذلك على الاقتراض من الولايات المتحدة بقيمة 2.5 مليون دولار، وأن تقبل بوجود ضباط أمريكيين ضمن الحرس الشرطي.

أُلغيت تلك الشروط تباعًا بعد حالات تمرد واسعة من شعب الدومينكان وانتهت تمامًا عام 1941، حيث استعادت جمهورية الدومينكان فيه سيطرتها الكاملة على إيرادتها الجمركية.