لا يمكن وصفنا جميعًا بأننا على نفس الدرجة من الانسياق الأرعن وراء الأدرينالين ومطاردته. مع هذا فمن اليسير القول بأنه إذا تمت إزالة عنصر «الرعونة» من المعادلة، سيتضح أن إرثنا التطوري لم يزل حيًا فينا بشكل بدائي إلى حد. فمنذ بزوغ فجر وعيهم، لطالما كانت أولوية البشر درء الأخطار وحماية الذات.

ومع تقدم التقنية المستخدمة في تحقيق ذلك، ظهرت في الأفق الشعوري البشري حاجات جديدة تشكل نوعًا من أنواع الحنين لفجر السلالة، أوقاتًا واجه البشر فيها المخاوف والقلق على نحو يومي طيلة حيواتهم القصيرة نسبيًا. الفارق هنا، أن استعادة هذه الذكريات لم يعد استدعاء واعيًا، ولم يعد مثيرًا للخوف بحد ذاته، بل أصبح لذة لا واعية.

هكذا لجأ البشر لبناء نسخ مصغرة تمثيلية من ماضيهم الخطر؛ مدن الملاهي التي يقطع البعض آلاف الكيلومترات لنيل ولو القليل من حماستها، ومن مخاطرها المتحكم بها.


كيف تتلاعب بك الألعاب؟

تعتمد مدن الملاهي في نشاطها على تشكيلة وافرة من الظواهر النفسية التي تضمن بقاءك مدهوشا. بينما تقضي مدن الملاهي على القلق والحاجة للتخطيط السريع فإنها تترك لعقلك فسحة للاستمتاع بالنشوة دون أي منغصات، مما يطبع التجربة على مستوى أعمق في ذهنيتنا وذاكرتنا.

يعود الحب العميق الذي نكنه لمدن الملاهي إلى كونها مصممة بحذق للتلاعب بنا منذ أن نطأ على أرضها، ما بين ألعاب المهارة المزيفة المصممة لجعلك تخسر بـ«فارق ضئيل للغاية – Near-miss effect»، إلى مداعبة الغرور الشخصي بإغرائه لتجربة لعبة تتطلب قدرات غير معهودة، ومن تأثير الحنين إلى الطفولة إلى شعور الترقب والانتظار المشوب بقلق يتصاعد مع مرور الوقت الذي تقضيه في الطابور الطويل.

حتى مواقع أكشاك الطعام تتلاعب بحالتك النفسية لتقدم لك فورًا وجبة لذيذة ذات مظهر مغر للغاية وغير صحية على الإطلاق تليق باحتفالية نجاتك من المعركة. وطبعًا كلما زاد عدد المنتظرين لاستلام طلباتهم اللذيذة، شعرت أنت برغبة أعلى في الفعل مثلهم حتى لو كنت تميل للالتزام بمعايير أكثر انتقائية لما تتناوله.

ليس هذا فقط، حتى المشي الهائم بين الأعداد الهائلة من البشر يعد من مكتسبات تجربة الملاهي. لا تمدك الملاهي بخرائط واضحة للوصول إلى هذه اللعبة أو تلك في أقصر وقت ومن أقصر طريق أبدًا. عوضًا عن ذلك، تحيلك خرائط مدن الملاهي إلى عالم كرتوني وطفولي أشبه بأفلام الكارتون.

بينما تسير، يكون عقلك في حالة «مستقبلة – receptive» تجعله قابلًا لتجربة الكثير من الأشياء الجديدة على سبيل المغامرة، مما يعني المزيد من المال المدفوع والمزيد من المتعة. على الجانب الآخر، فإن تجربة إيجاد الأشياء ذاتها تولد مشاعر إيجابية عميقة لدينا نحن البشر، عندما تكلل مساعينا بالنجاح، فإن هذه الحالة تكون قد سطرت للأبد في أذهاننا كنجاح حقيقي يشبه نجاح أسلافنا في إيجاد الغذاء أو المأوى.


أعجوبة قطار الملاهي

يضم تصميم «قطار الملاهي – Roller-Coaster» والذي تطلق عليه بعض الأماكن اسم «قطار الموت»، يضم عدة تفصيلات موضوعة بذكاء شديد للتحكم في ذهن الراكب بشكل يضمن له تجربة لا تنسى فعلًا. منذ أن ظهرت النماذج البدائية منها في أوائل القرن التاسع عشر وحتى الآن، يظل قطار الموت أعجوبة هندسية حقيقية.

هل لاحظت مرة أنه حتى أضخم قطارات الملاهي لا تستخدم محركًا؟ هذا بالطبع لأن قطارات الملاهي تعتمد بشكل بحت على تبادلية الطاقة الحركية وطاقة الوضع بينما تصعد وتهبط على قضبانها.

إذا سبق لك وارتدت مدينة للملاهي، ربما ستسمع في أذنك الآن صدى الصرخات الفزعة المستمتعة الأولى مع الهبوط الأول في طريق القطار. يصمم «الهبوط الأول – first drop» بحيث يكون الأعلى والأكثر إثارة للخوف والأكثر ميلًا. يضمن ذلك الانطباع الأول المخيف جعل شعورك بالرحلة أكثر عمقًا وثباتًا وإشباعًا للرغبة الأصلية، رغبة خوض المخاطر دون قلق حقيقي.


رحلة مستقبلية؟

تتقاسم الولايات المتحدة الأمريكية واليابان أعلى 5 مراكز لأكبر مدن ملاهي من حيث عدد الزوار على وجه الأرض، حيث تتصدر المدينة الأمريكية «Magic Kingdom at Walt Disney World Resort» القائمة – طبقًا لآخر تحديث في 2016- بـ20 مليونًا و492 ألف زائر في السنة.

أما قطارات الملاهي، فإن اليابان تملك أطولها تحت اسم تنين الصلب 2000 بطول يبلغ حوالي كيلومترين ونصف الكيلو متر. لكن إذا كانت السرعة هي أولويتك فإن بمقدورك زيارة القطار الأسرع – من النوع المعدني – في عالم فيراري بأبوظبي بسرعة تبلغ 240 كيلومترا في الساعة، بينما أسرع قطار على قضبان خشبية تجده في هوليوود الأمريكية بنصف سرعة مثيله المعدني.

أما محبو عبق التاريخ، فبإمكانهم زيارة أقدم مدينة ملاهي في العالم في الدنمارك، ما عليك إلا أن تقوم بحجز تذكرة في مدينة ملاهي «Bakken» لتقوم برحلة عبر الزمن بدأت منذ إنشاء المدينة في عام 1583. هناك، بإمكانك ارتياد قطار الملاهي الذي تم إنشاؤه عام 1932.

يصعب على التفكير العقلاني لم قد يتحمل أحدهم الكثير من العبء المادي والمجهود لتعريض نفسه لجرعة من الخوف المزيف. يعود ذلك إلى أن ميدان مدن الملاهي لا يسكن العقل بل الطبقة الأعمق من الوجدان، هذه المرتبة التي يلتقي فيها البشر متراصين في عربات قطار يصرخون بمجرد بدء الحركة، هذه المرتبة التي تعيد إلينا مشاهد من طفولة بعيدة شهدناها أو تمنينا أن نشهدها.