موسيقي يعزف على البيانو بشكل ارتجالي ألحان تناسب الشخص الذي يراه، تتغير الموسيقى من البهجة الشديدة للحزن الشديد إذا مر أمام عينيه حبيبان ثم مر كهل وحيد مشتاق لأحبائه. 

هذه مواصفات عازف البيانو في فيلم المخرج الإيطالي جيوزيبي تورناتوري، الذي يحمل اسم The legend of 1900. وهي المواصفات التي يمكن عكسها تمامًا على مؤلف موسيقى الفيلم، المايسترو الإيطالي، والأسطورة السينمائية «إينيو موريكوني». 

موريكوني ألف الموسيقى التصويرية لما يزيد عن 500 فيلم، الرقم غير معروف بشكل مؤكد لأن الرجل في بدايته كان يؤلف موسيقى عشرات الأفلام الإيطالية سنويًا، لدرجة أن هناك حقبة كاملة من السينما الإيطالية يصعب إيجاد فيلم واحد منها دون موسيقى موريكوني، لكنه وعلى الرغم من هذا الإنتاج الغزير، إلا أنه لم يفقد بريقه حتى رحل وهو يؤلف، حتى أن جائزة الأوسكار الوحيدة التي حققها نالها وهو ابن 88 عامًا، عقب 9 أعوام من منح أكاديمية الأوسكار جائزة شرفية له، قيل حينها إنها تعويضية لرجل شارف على الموت. 

كيف صنع هذا الرجل أسطورته إذن؟ كيف أصبح المؤلف الموسيقي السينمائي الأشهر عبر كل هذه السنين؟ والأهم كيف تصبح الموسيقى المؤلفة للسينما أحد مكونات الثقافة الشعبية لأمم وشعوب متعددة؟ لتصل موسيقى موريكوني في النهاية لكلمات عبد الرحمن الأبنودي؟

الأصالة 

الصفة المميزة الأولى لموسيقى موريكوني أنه يمكنك معرفتها من الجملة الموسيقية الأولى، هذه علامة لا تقبل الشك على الأصالة، لا يمكنك الخلط بينه وبين مؤلف آخر، كما أنه ورغم تنوع أعماله وكثرتها إلا أنه يمكنك التعرف على بصمته وتوقيعه بمجرد الاستماع للنوتات الأولى في الكثير من الأحيان. 

الأصالة قد تعني الملل في بعض الأحيان، لكن الأصالة في حالة موريكوني تأتي على العكس تمامًا، وذلك من خلال الإرث الكلاسيكي الذي جدده الرجل، قد تجد نوتات تذكرك بباخ أو شوبان أو تشايكوفسكي، تذكرك بعد الكثير من التأمل، لكن الانطباع الأول هو أن هذه موسيقى إيطالية، وأنها موسيقى موريكوني. 

أحد الأمثلة الواضحة هنا والمفضلة شخصيًا بالنسبة لي هو فيلم the legend of 1900 وهو الفيلم الأول الناطق بالإنجليزية للمخرج الإيطالي جيوزيبي تورناتوري، الفيلم المستوحى عن مونولوج للكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو، عن طفل مهاجر يجده عمال أحد سفن اللاجئين في عام ١٩٠٠، ليبقى على السفينة حياته كلها، ليبقى فوق سطح الماء حتى رحيله عن الدنيا، لم يتعلم سوى ما رأته عيناه على السفينة، ولم يقم بشيء سوى عزف البيانو. 

هذا فيلم إيطالي بامتياز، لكن مخرجه أراد أن يصنعه بالإنجليزية، الغريب أنك ستعرف جنسية الفيلم بمجرد سماعك لموسيقى موريكوني، الذي يبدو في هذا الفيلم أنه كان يؤلف موسيقى تتحدث عنه شخصيًا، عن المؤلف الموسيقي الذي يشعر بالناس فيعزف موسيقاهم. 

الغرابة والتجديد

رغم كل هذه الأصالة، إلا أن الصفة المميزة الأخرى في موسيقى موريكوني هي التجديد و ربما حتى الغرابة في بعض الأحيان. الموسيقى الأشهر للرجل هي موسيقى فيلم the good, the bad and the ugly ، التيمة الرئيسية مكونة من أصوات تحاكي صوت الضباع، كما أنها تحتوى على أصوات إطلاق نار، أصوات صفارات بشرية، بالإضافة لأصوات بشر يهمون أو يزأرون.

تخيل معي رجلاً بدأ حياته كمؤلف كلاسيكي يفعل ذلك، يضيف أصواتًا بشرية وأصوات إطلاق نار وأحيانًا أصوات آلات ميكانيكية كصوت آلة كاتبة مثلاً إلى موسيقاه، هذا التجديد هو ما منح موريكوني بصمته المميزة، وجعل موسيقى الطيب والشرس والقبيح تحيا حتى اليوم. 

موسيقى الفيلم أضحت عقب ذلك العلامة المميزة لكافة أفلام الكاوبوي، بكافة نسخها،  هذه تيمة يعرفها الجميع تقريبًا على مستوى العالم، يكفي سماع النوتات الثلاثة الأولى، أو لنقل الصفارات الثلاثة الأولى.

المثير للتأمل أيضًا أن تعاون موريكوني الممتد مع المخرج الإيطالي «سيرجيو ليوني» احتوى على تفصيلة غريبة للغاية، ألا وهي أن موريكوني كان يؤلف الموسيقى عقب قراءته للنص، وهكذا يتم التصوير والإخراج وفقًا للموسيقى المؤلفة، هذا ما دفع ليوني أيضًا لاشتراط أن يتم كتابة موريكوني كـ«مخرج موسيقي» للأفلام وليس فقط كمؤلف للموسيقى التصويرية. 

هكذا إذن يمكننا مثلاً مشاهدة الأداء الأيقوني لروبرت دينيرو في فيلم Once upon a time in America ونحن نعرف أن دينيرو كان يستمع لموسيقى موريكوني أثناء التصوير، الموسيقى كانت متفاعلة مع الأداء التمثيلي، الديكورات، والحوار أيضًا، الناتج هو محصلة كل هذا، وهي محصلة جميلة للغاية. 

موريكوني والأبنودي 

موسيقى موريكوني تم تأليفها إذن في كثير من الأحيان كتفاعل مع نصوص مكتوبة، ولذلك هي تحوي مخزونًا شاعريًا يمكن تأويله ليصاحب طيفًا واسعًا من الصور. 

مثلاً في فيلم the Mission للمخرج الإنجليزي «رولاند جوفيه» عن رحلة اثنين من رجال الدين المسيحي في أمريكا الجنوبية، يمزج موريكوني في موسيقاه بين الموسيقى المحلية للسكان الأصليين من قبائل الأمريكية الجنوبية وبين الموسيقى الغربية التي أتى بها رجال الجيزويت من إسبانيا إليهم، الموسيقى تبدأ منفصلة ثم تمتزج مع الوقت لتصبح وحدة واحدة، وهي الموسيقى التي تصبغ ختام الفيلم حيث يضحي رجال الجيزويت رفقة السكان الأصليين في مواجهة الجيش البرتغالي. 

موسيقى الفيلم محملة بمشاعر دينية وإنسانية يؤمن بها موريكوني بحق، الرجل الذي يطيب له وصف نفسه كمسيحي يساري، لذا يمكن نقلها وبشكل مبهر لتناسب كل الصور التي تتحدث عن الإيمان والمحبة في وجه السلاح. 

لكن المثال الأكثر إبهارًا هنا هو كيف أصبحت موسيقى موريكوني من فيلم cinema Paradiso موسيقى تصويرية لقصائد الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، وبالتحديد قصيدة «الأحزان العادية»، والتي تم إعادة سماعها وقراءتها بشكل مكثف عقب عام من ثورة يناير ٢٠١١، وبالتحديد خلال أحداث محمد محمود. 

الفيديو الذي شاهده عشرات الآلاف على يوتيوب، يمزج خلاله شاب مصري بين صور حقيقية من أحداث الثورة وبين كلمات الأبنودي وموسيقى موريكوني، سنة حسنة انتشرت عقب ذلك كالنار في الهشيم، لتجد العديد من قصائد الأبنودي مع هذه المقطوعة بالذات من موسيقى موريكوني. 

يصدح الأبنودي قائلاً «ولا بعرف أبكي أصحابي غير بالليل» ترافقه موسيقى المقطوعة الختامية من «سينما الجنة»، كلمات الأبنودي محملة بمشاعر من يرثي نفسه، وصحبته، ذكرياته ووطنه، وموسيقى موريكوني في هذه المقطوعة تحديدًا ترافق بطل الفيلم «سلفادور» وهو يشاهد قصاصات الأفلام التي جمعها وهو طفل، يشاهدها ويرثي نفسه، وصديقه العم «الفريدو» عامل آلة العرض الذي مات دون أن يودعه، كما يرثي أيضًا ذكرياته ووطنه الذي تركه، لأن ألفريدو أخبره أن يذهب للبحث عن حياة أفضل ولا يعود أبدًا، يبكي سلفادور في ظلام آلة العرض، كما يبكي الأبنودي في ظلام الليل. 

موسيقى موريكوني وشعر الأبنودي تجمعهما صفة مميزة مشتركة ألا وهي المشهدية، موسيقى موريكوني ترسم صورًا في رأسك حتى ولو سمعتها منفردة، هي سينمائية حتى لو لم ترافقها صورة، كما أن شعر الأبنودي ربما هو الأكثر مشهدية في شعر العامية المصري، الرجل يرسم مشاهد مكتملة بكافة تفاصيلها بدلاً من اللعب على الألفاظ وتراكيب الجمل كما فعل العديد من شعراء العامية الآخرين. 

هذا الإرث الشاعري المشترك للأبنودي وموريكوني كتب لهم تعاونًا لم يسعَ أي منهما لصنعه، لكن تجارب البشر متشابهة، والفن الحقيقي يلمس أرواحنا، نشعر به دون اعتبار لحواجز الجغرافيا أو اللغة، بل يستفز الجمهور أحيانًا لصنعه.

موريكوني يمكنه تأليف موسيقى تناسب كل شخص يراه، سواء كان رجلاً إيطاليًا يعطس في أكمامه في سينما شعبية بأحد قرى جنوب إيطاليا، أو شابًا مصريًا يجري بعيون تملؤها الدموع من أثر الغاز المسيل للدموع في شارع الشيخ ريحان.