المحتويات:

كانت ترقد على أحد أسرة العناية المركزة، وقد هيمنَ شحوبٌ متألم على صفحة وجهها الشابّ، والذي شابَ خلال العاميْن الفائتيْن، في ردهات المشافي، وقاعات انتظار العيادات الطبية، وحجرات تلقي العلاج الكيماوي، وآلام ترقُّب نتائج التحاليل الدموية.

رغمًا عن إرادتها، لا يكف شريط تلك الأيام الصعبة عن المرور بذهنها المكدود. لم تصدق أن كل ما هي فيه الآن قد بدأ بذلك الشحوب البسيط الذي بدأ على وجهها، ثم أعقبه شعورها بالخمول، وفقدان النشاط، وضيق التنفس عند بذل أي مجهود.

آنذاك، فسّرت كل هذا بإجهاد العمل، ومسئوليات الأسرة، والضغوط النفسية. تتذكر أنها اشتكت إلى إحدى صديقاتها مما تشعر به، فأخبرتها أنها قد تكون مصابة بالأنيميا، وأن أقراص الحديد والمقويات- من تجربتها- سيكون لها مفعول السحر في علاجها.

ظلَّت شهورًا على علاج صديقتها المُجرِّبَة، لكنَّها شعرت أن الأمور آخذة في السوء، ولم تعد قادرة على القيام بأهونِ واجباتها المنزلية، ثم انتابتْها نوباتٍ من الإغماء المتكرر دفعتها إلى طلب المشورة الطبية من طبيب الأمراض الباطنية، والذي طلب منها إجراء بعض التحاليل الطبية الأولية، ثم تحاليل أخرى متقدمة، لتظهر الكارثة.

تبيَّنَ أنها مصابة بأحد أنواع سرطانات خلايا الدم الخبيثة، والذي يسبب تكاثرًا مهولًا لخلايا غير طبيعية، تغزو نخاعَ العظام حيث مصانع إنتاج مكونات الدم، وتتلفها، فيهوي إنتاج كافة خلايا الدم، مثل كرات الدم الحمراء التي تحمل الأكسجين- أكسير الحياة- إلى خلايا وأنسجة الجسم، فتحدث الأنيميا الشديدة، وكذلك كرات الدم البيضاء عماد جهاز المناعة، فيصبح الجسم مرتعًا للبكتيريا والميكروبات… إلخ، وأيضًا تقل الصفائح الدموية المسئولة عن إيقاف النزيف الخارجي في حالة الجروح، ومنع حدوث النزيف الداخلي.

أخبرها استشاري أمراض الدم بصراحة أن الكشف المبكر قبل توغل الخلايا السرطانية في الأعضاء الحيوية، كالكبد وغيره، كان كفيلًا بتجنب مضاعفات لا حصرَ لها، وتحسينِ احتمالات الشفاء التام من المرض عبر العلاجات الكيماوية.

للأسف الشديد، تتكرر القصة السابقة كثيرًا، حيث يتأخر المريض في طلب المشورة الطبية اللازمة في الوقت المناسب، فيتأخر الوصول لتشخيصٍ حاسم لسبب الإصابة بالأنيميا، وبالتالي يتأخر تلقي العلاج المناسب.

ومما يساعد على تفاقم هذه الظاهرة، انتشار الإصابة بالأنيميا، بخاصة بين الأطفال والسيدات، لا سيِّما الحوامل منهن. هذا الحضور المُكثَّف للأنيميا في الأذهان، يجعل التعامل معها لدى كثيرين على نفس مستوى الجدية التي يُعامَل بها أدوار البرد الشائعة.

لحسن الحظ، لا تكون شدة وأسباب الأنيميا في غالبية الحالات من النوع الخطير، لكن لدينا عشرات الأسباب المرضية الخطيرة المتعلقة بالأنيميا كسبب وكنتيجة، ولذا فالوعي بالأساسيات العلمية حول الأنيميا فرض عين، وليس محض ترفٍ فكري.

أولًا: ما الأنيميا؟

الأنيميا هي فقر الدم. وكلمة أنيميا Anemia هي كلمة لاتينية الأصل مركبَّة من مقطعيْن؛ الأول، هو An وهو يُستخدم للنفي، والمقطع الثاني، emia وهو يشير إلى الدم.

نعرف جميعًا أن الدم هو سائل الحياة لأنه ينقل الأكسجين والمغذيات التي تهلك بدونها مختلف خلايا وأنسجة الجسم. ينقل الدم الأكسجين محمولًا على كًريَّات الدم الحمراء، والتي تحتوي مادة الهيموجلوبين، القادرة على حمل الأكسجين من الرئتيْن، وإطلاقه إلى الخلايا والأنسجة.

تعني الأنيميا ببساطة، عجز الدم عن القيام بهذا الدور بكفاءة، نتيجة نقصٍ في عدد أو جودة كريَّات الدم الحمراء. ويُعبَّر عنها معمليا بنقص نسبة الهيموجلوبين في الدم عن 13.5% في الذكور، و12% في النساء (هرمون الذكورة التستوستيرون من محفزات إنتاج الدم، ولذا فنسبة الهيموجلوبين لدى الذكور أعلى نسبيًا).

ثانيًا: ما أعراض الإصابة بالأنيميا؟

أبرز أعراض الأنيميا هو الإجهاد السريع، وضيق التنفس مع المجهود، والشعور بالدوخة والغثيان، وتساقط الشعر، وتسارع ضربات القلب (يحاول القلب تعويض النقص في جودة الدم، من خلال عدد ضرباته وزيادة كمية الدم المتدفق إلى مختلف أجهزة الجسم). وهناك أعراض قد تصاحب بعض حالات الأنيميا، لكنها ناتجة عن أسباب الأنيميا وليس الأنيميا نفسَها، كاصفرار الجلد الذي يحدث في حالات تكسر خلايا الدم.

وتكون أعراض الأنيميا أشد في حالة الأنيميا الحادة التي تحدث خلال أيامٍ أو ساعات، مثل حالات النزيف الشديد، أو نوبات تكسير خلايا الدم… إلخ، إذ لا يُتاح للجسم الوقت الكافي للتأقلم والاعتياد على نقص الأكسجين. بينما في الأنيميا المزمنة قد يظل المريض شهورًا أو سنواتٍ لا يعاني من أعراضٍ ظاهرة، نتيجة محاولات الجسم الحثيثة للتكيف مع الأوضاع الجديدة.

ثالثًا: كيف تحدث الأنيميا؟

في الأوضاع الطبيعية، يبلغ عمر خلايا الدم نحو 120 يومًا، وذلك لإتاحة الفرصة أولًا بأول لتجديدها. وبالتالي تحدث الأنيميا ببساطة نتيجة أحد أمرين:

  • خلل في عملية الإنتاج المتجددة لخلايا الدم، نتيجة تعرض نخاع العظام المنتج لها للتلف نتيجة الإصابة بسرطانات الدم المختلفة، أو التعرض للإشعاع، أو الإصابة بالفشل الكبدي أو الكلوي، وما ينتج عنهما من سموم تُثبِّط نخاع العظام… إلخ.
  • تعرضها لما يُقصّر عمرَها عن 120 يومًا، مثل التعرض لنزيف حاد داخلي أو خارجي، أو الإصابة بحالات تكسر الكرات الحمراء كبعض الأمراض المناعية، أو أنيميا البحر المتوسط (الثالاسيميا)… إلخ.

وتختلف الأعراض والمضاعفات كثيرًا بحسب سبب الأنيميا، ومدى شدتها، وبالطبع تختلف طرق التشخيص والعلاج من نوعٍ لآخر.

رابعًا: كيف تُشخص الأنيميا؟

عملية تشخيص الأنيميا وأسبابها تسير في خطواتٍ متتابعة، تبدأ عادة بشعور المريض بأعراضٍ تجعل الطبيب يطلب تحليل صورة الدم الكاملة، والذي لا يعطي فقط نسبة الهيموجلوبين في الدم، وإنما عدد كرات الدم الحمراء، ونسبتها إلى البلازما، وحجم كرات الدم، وكمية الهيموجلوبين النسبية في كل كرية.

وتلك البيانات لا تُشخص الأنيميا فحسب، إنما تساعد كذلك في تصنيفها الأشهر إلى أنيميا مع صغر حجم الكريَّات وأشهر أسبابها نقص الحديد والنزيف البطيء المزمن كالذي تسببه قرح المعدة أو سرطانات الجهاز الهضمي… إلخ، أو أنيميا مع تضخم حجم الكريات، وأهم أسبابها نقص فيتامين بـ 12 وحمض الفوليك وخمول الغدة الدرقية، وإدمان الكحوليات… إلخ، أو أنيميا مع عدم تغير الحجم، وأشهر أسباب فشل نخاع العظام بمختلف أسبابه، أو التكسير الحاد لكرات الدم الحمراء، أو النزيف الحاد… إلخ.

وهنا وفق النتيجة السابقة، يبدأ الطبيب في طلب التحاليل والأشعات القادرة على تفريق تلك المجموعة الأكثر تحديدًا من الأسباب، وهكذا، حتى نصل إلى التشخيص النهائي للسبب في حدوث الأنيميا.

خامسًا: كيف نعالج الأنيميا؟

لا يمكن علاج الأنيميا بفاعلية إلا بعد تشخيص مدى شدتها، ونوعها، والسبب الذي أدى إلى وقوعها. في الحالات الشديدة من الأنيميا، لا سيَّما الأنيميا الحادة كما يحدث في حالات النزيف، تكون هناك حاجة طارئة لنقل الدم من متبرع للحفاظ على الدورة الدموية، والأجهزة الحيوية للجسم.

لكن في معظم أنواع ودرجات الأنيميا المزمنة، يكون علاج السبب الذي أدَّى إلى الأنيميا هو الأساس، فمثلًا في مرضى الفشل الكلوى، يكون سبب الأنيميا عادة هو نقص هرمون إنتاج الدم (الإريثروبويتين)، فيكون الحل هو تعاطي المريض لحقن هذا الهرمون بشكل منتظم بإشراف طبيب أمراض الكلى. أما في حالات الإصابة بسرطانات الجهاز الهضمي الخبيثة، والتي تسبب تسربًا خفيًا للدم مع البراز، يكون سبب الأنيميا هو نقص الحديد نتيجة استهلاكه، ولا بد قبل تعويض الحديد من التعامل مع السرطان نفسه بما يتطلبه من تدخلٍ جراحي أو علاج كيماوي أو إشعاعي… إلخ، وفق الخطة العلاجية التي يضعها طبيب الأورام والجهاز الهضمي… إلخ.

سادسًا: هل يمكن تجنب الإصابة بالأنيميا؟

هناك أسباب طارئة وخطيرة للأنيميا يصعب تجنب وقوعها، مثل الإصابة بسرطانات الدم… إلخ، وهذه يصعب التنبؤ بها، ولا يوجد أسباب قاطعة لوقوع معظمها، بحيث يمكن تجنبها. ويكون الهدف الرئيس من التوعية بها، هو سرعة التعامل معها دون إبطاء، وتجنب إضاعة أوقاتٍ ثمينة تكون ضريبتها من الصحة والعافية باهظة. لكن كما ذكرنا آنفًا، فهذه الأنواع الخطيرة من الأنيميا أقل حدوثًا من الأنواع الشائعة، وتلك الأخيرة لدينا العديد من الوسائل للوقاية منها.

أهم ما نتّقي به الأنيميا الشائعة هو الغذاء الصحي الجيد والمتنوع، والذي يحتوي على مصادر الحديد الطبيعية وعلى رأسها اللحوم الحمراء، والبقوليات كالفاصولياء والحمص، وكذلك فول الصويا، والفواكه المجففة مثل المشمش… إلخ، وكذلك مصادر الفيتامينات بوجه عام مثل الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة واللحوم الحمراء والأسماك والكبدة. وأيضًا يلعب النوم المنتظم دورًا مهمًا في رفع كفاءة مختلف أجهزة الجسم ومنها نخاع العظام الذي يُنتج خلايا الدم.

كذلك تُحَسِّن الرياضة المنتظمة من الحالة الصحية العامة، لا سيما كفاءة القلب، وجودة استخدامه للأكسجين والطاقة. ويقدم لنا اعتياد المجهود الرياضي مزية إضافة في حالة الأنيميا، وهو المساهمة في الاكتشاف المبكر لها، فالشخص الحريص على النشاط والحركة، فرصته في اكتشاف أعراض الأنيميا أعلى كثيرًا من الذين اعتادوا الخمول.

سابعًا: ماذا عن أقراص الحديد والفيتامينات؟

الغذاء الصحي المتوازن كفيل بحصول غالبية الناس على الاحتياجات اليومية المطلوبة من الحديد والفيتامينات الضرورية، أمّا الأدوية المحتوية على تلك المغذيات الضرورية فلا تفيد إلا من يعانون من نقصٍ منها، كالمصابين بأنيميا نقص الحديد مثلًا، أو أصحاب الحاجة الزائدة لتلك المغذيات، كالمرأة الحامل، التي تحتاج إلى ما يكفي جسمها، وجسم الجنين الآخذ في التكوُّن والتشكل، وكذلك الأطفال الصغار في مراحل النمو الأساسية التي تحتاج لكمياتٍ أكبر من أجل تغطية احتياجات عملية النمو الجسدي والذهني. ولا توصف لتلك الحالات إلا بأمر الطبيب المختص الذي يعرف الاحتياجات المطلوبة لكل مريض، ويصف مقدار التعاطي وفقَها.

ولا ننسى أن تلك الأدوية لها بعض الآثار الجانبية، بخاصة في الجرعات الكبيرة، لا سيَّما أقراص الحديد، إذ قد تسبب الإصابة بالإمساك الشديد، والتهابات المعدة، وقرح ونزيف المعدة، وآلام البطن… إلخ.

إذًا، فالأفضل للصحة، فيما يتعلق بالأنيميا، هو ضرورة طلب المشورة الطبية في حالة الشعور بأعراضٍ غير معتادة، وكذلك توجيه الإنفاق والتركيز إلى الحصول على الأطعمة المتوازنة مرتفعة القيمة الغذائية، وأن نسأل الطبيب المجرِّب في كل ما يتعلق بالصحة بوجهٍ عام، فتجارب عامة الناس والمعارف وحدَها، والنصائح الجُزافية، لا تصلح أبدًا مُستنَدًا علميًا، بل قد يكونُ الأولى هو التصرُّف بعكسِها في أحيانٍ كثيرة.