في فترات كبيرة من عصور الخلافة الإسلامية، ظهرت فوارق طبقية كبيرة بين أصحاب السلطة والشعب، ما جعل الشاعر الحسين بن الحجاج (توفي 391هـ) حين شاهد كلاب الأمير البويهي عز الدولة بختيار تأكل اللحوم وهو والفقراء من عامة الناس لا يستطيعون أكل قطعة صغيرة منها، يتمنى أن يكون كلبًا من كلاب الأمير لينعم بطعامه، وفي ذلك قال، بحسب ما جاء في «يتيمة الدهر» للثعالبي:

فمن ورد له ذنب طويل يعقفه وملهوب خلوقي
تغذى بالجدا فوددت أني وحق الله خركوش سلوقي
فيا مولاي رافقني بكلب لآكل كل يوم مع رفيقي

ولم تكن الكلاب وحدها هي التي تنعم في بيوت طبقة الحكم، بل كانت الأفيال والأسود والفهود والكلاب والثعابين، وغيرها من حيوانات مفترسة وأليفة وداجنة، تنعم في مظاهر ترف عالية لم ينلها كثير من البشر في تلك العهود.

وانطلاقًا مما سبق تأتي الأسئلة: ما مظاهر اهتمام طبقة الحكام من خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء باقتناء الحيوانات لدرجة أن بعض الناس تمنى أن يكون كلبًا في بيت الأمير لينعم بما تنعم به الكلاب؟ إلى أي درجة وصل ترفيه تلك الحيوانات في بيوت الحكام، ولأي غرض كان اقتناؤها بهذا الشكل، وهل كان ذلك يخص دولة أو نظام حكم معينًا في العهود الإسلامية؟ أم أنه كان منتشرًا في كثير من العهود؟

تدلنا الروايات التي سنسوقها فيما يلي على أن الأمر كان منتشرًا في أكثر من عهد وأكثر من دولة، ولذلك دعونا نستشف هذه الأماكن من خلال ما سنعرضه ضمن إجاباتنا عن الأسئلة الأخرى.

مجوهرات وذهب وحرير

من حيث المظهر، ألبس بعض الخلفاء حيواناتهم أفخم الملابس، وزينوها بالحلي والمجوهرات الثمينة، وأولهم كان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، الخليفة الأموي الذي كان يُلبس كلابه أساور من الذهب، كما كان يلبسها ويلفُّ حول جسدها أغطية منسوجة بالذهب، حسبما يذكر ابن الطقطقي في «الفخري في الآداب السلطانية والعلوم الإسلامية».

وكذلك كان يفعل السلطان مسعود السلجوقي، آخر حكام السلاجقة على بغداد، حيث بالغ في ترفيه الكلاب حتى ألبسها الأساور الذهبية، وأفخر الأقمشة المرصعة المزركشة، حسبما يذكر ابن خلدون في تاريخه.

ولم يختلف ذلك عما فعله خمارويه بن أحمد بن طولون، حاكم الدولة الطولونية في مصر، حيث كان له أسد يسمى «زريق»، ألبسه طوقًا من ذهب في عنقه تدليلًا له، حسبما يذكر المقريزي في تاريخه.

أما الطعام، فكان من أطيب ما يمكن تقديمه إلى إنسان، حتى أن الدواجن والطيور التي كانت تُرَبى في قصور العباسيين كانت تعلف باللوز المقشر، وتشرب اللبن الحليب.

وكذلك كانت الكلاب والأسود والفهود تأكل أجود اللحوم في بيوت العباسيين وغيرهم، حتى أن خمارويه بن أحمد بن طولون كان يُجلس أسده «زريق» بجواره وقت الطعام، فيطعمه مما يأكل من دجاج ولحوم الضأن وخلافه، حيث كان معدو مائدة خمارويه يضعون على المائدة ما يكفي لإطعام زريق، حسبما يذكر جورجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي»، مشيرًا إلى أن إطعام الحيوانات في بيوت الخلفاء بهذا الشكل لم يقتصر على خمارويه فقط، بل كان معتادًا في بيوت خلفاء وملوك العالم الإسلامي، فيما عدا القليل منهم.

قبِّلوا يد قِرد الأمير

بالغ أعضاء الطبقة الحاكمة من المسلمين في تدليل الحيوانات، بشكل جعل بعض هذه الحيوانات وكأنهم أمراء أو ملوك، حتى وصل الأمر ببعضهم أن جعل الناس تقبل يد قرده!

وأول من أدخل هذه العادات كان معاوية بن أبي سفيان، الذي جعل لكل كلب من كلابه عبدًا يخدمه، حسبما يذكر ابن الطقطقي، مشيرًا إلى أن ذلك كان عادة في بني أمية من بعده في ما عدا القليل منهم كعمر بن عبد العزيز.

كذلك كان العباسيون الذين تفننوا في تربية الجوارح والكلاب والفهود، وغالوا في انتقائها وبذلوا الأموال في اقتنائها وتربيتها، وخصصوا لها خدمًا للاعتناء بها، منهم البيازرة والحجالون والفهادون وأصحاب الصقور والكلاب (كل نوع من الحيوانات له خبراؤه الذين يفهمون في خدمته وتدريبه)، وخصصوا لهم الرواتب الجليلة بل أقطعوا لهم أراضي، حسبما يذكر الحسين بن عبد الله العباسي في «آثار الأول في ترتيب الدول».

وكانت زبيدة (أم جعفر)، زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد تقتني قردًا يخدمه ثلاثون رجلاً، وكانوا يلبسونه لباس الناس ويقلدونه السيف، وإذا ركب ركبوا في خدمته، وإذا دخلوا عليه قبَّلوا يده.

وفي يوم جاء راوي الحديث والفقيه يزيد بن مرثد إلى أم جعفر ليودعها قبل سفره، فأتوا إليه بالقرد وطلبوا منه أن يقبل يده، فغضب وأخرج سيفه من غمده وقتل القرد، بل شقه نصفين، فاستدعاه هارون الرشيد وعاتبه في ذلك، فرد عليه: يا أمير المؤمنين أبعد أن أخدم الخلفاء أخدم القرود؟! لا والله أبدًا. فعفا عنه هارون، حسبما ينقل جورجي زيدان عن «تاريخ طبرستان» لابن اسفنديار.

وفي مصر، بنَى خمارويه بن أحمد بن طولون بيتًا للأسود، وجعل لكل أسد ولبؤته جناحًا مستقلًا مفروشًا بالرمل، وعلى كل جناح باب يفتح من أعلى إلى أسفل، ولكل بيت منها فتحة صغيرة يدخل منه الخادم المسؤول عن خدمة هذا الأسد ولبؤته. وفي داخل كل جناح حوض من رخام، متصلًا بقناة مائية مصنوعة من النحاس تنقل المياه إليه، حسبما يذكر المقريزي.

وينقل المقريزي تفاصيل أدق عن بيت الأسود، فيوضح أن هذا البيت كانت تتوسطه قاعة شاسعة المساحة مفروشة بالرمال، بها حوض ضخم مصنوع من الرخام، ومتصل بقناة أيضًا مصنوعة من النحاس، تنقل له المياه من أعلى.

فإذا أراد السائس خادم الأسود، تنظيف جناح أحد السباع، رفع بابه بطريقة آلية من أعلى، وصاح في الأسد ولبؤته ليخرجا من بيتهما إلى هذه القاعة الكبيرة، فيدخل الخادم إلى الجناح وينظفه من فضلات وبراز الأسد وزوجته، ويضع رملًا جديدًا نظيفًا مكان المتسخ، ثم يضع اللحوم في مكانها المخصص الذي يأكل فيه الأسد، وهي لحوم خالية من العظام، ومن الغدد العالقة بها، والتي لا يحبها الأسد، ومقطعة لقطع تناسب الأسد ليأكل بأريحية.

كذلك يبدل الخادم المياه المخصصة للأسد بجناحه بمياه جديدة نظيفة، بعد أن ينظف الحوض الذي يملؤه بها، ثم يخرج ويرفع الباب من أعلى، ليدخل الأسد بعدها إلى مكانه.

وكانت للأسود أوقات للعب، تخرج فيها إلى القاعة المذكورة لتتمشى وتمرح وتلعب ويهارش بعضها بعضًا، فتقيم يوًما كاملًا إلى العشاء، وبعدها يصيح السواس بهم، فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره، حسبما فصل المقريزي.

تفاخر ولعب وهيبة: الهدف من اقتناء الحيوانات

لم يكن العرب يعرفون هذه المظاهر في الجاهلية وصدر الإسلام، وقبل تكوين إمبراطوريتهم ودخولهم بلاد الفرس والروم ليأتوا منها بعادات كثيرة، ومنها اقتناء حيوانات لم يألفوها أو يأنسوها قبل ذلك، ومن ثم المبالغة في تدليلها، حسبما يوضح جورجي زيدان.

وأول أغراض اقتناء هذه الحيوانات كان الصيد، وأول من توسع في ذلك وولع به كان يزيد بن معاوية، الذي اقتنى الطيور الجارحة كالصقور والنسور، وكذلك اقتنى الفهود والقرود والكلاب المدربة، حسبما يذكر ابن الطقطقي.

أما أول من أحب الصيد من العباسيين، فكان الخليفة أبوعبدالله المهدي ثم هارون الرشيد أولاده، وكان ابنه صالح يحب صيد الخنازير، أما الأمين فكان يهوى صيد السباع، حسبما ذكر الأصفهاني في «الأغاني»، والمسعودي في «مروج الذهب».

وكان المعتصم أكثر أولاد الرشيد شغفًا بالصيد، فبنى في أرض دجيل قرب بغداد حائطًا بالغ الاتساع، امتد لفراسخ كثيرة لأجل هذا الغرض.

وكان رجال المعتصم يطاردون الحيوانات من الجهة المقابلة للحائط، فتجري الحيوانات باتجاه الحائط، فيجري المعتصم وأولاده وأقاربه ورجاله بخيولهم وفهودهم نحو الفريسة ليطبقوا عليها بجانب الحائط، حسبما يذكر ابن الطقطقي.

وبخلاف الصيد كان بعض حكام المسلمين يستخدمون الحيوانات كأداة للتفاخر والمباهاة وإرهاب الناس، ومنهم عضد الدولة بن بويه، الذي كان ملكًا على بلاد شيراز (ضمن إيران حاليًا)، ثم استولى على العراق ودخل بغداد.

وكان ابن بويه إذا جلس على سرير عرشه أحضروا الأسود والفيلة والنمور مقيدة في سلاسل وجعلوها من حوله، ترويعًا لمن يدخل عليه ولحاضري مجلسه، حسبما يذكر ابن الطقطقي.

وكان اقتناء الحيوانات المفترسة كالأفيال والنمور والأسود من موروثات الخلفاء العباسيين في بغداد، بهدف الهيبة والتفاخر، وأول من اهتم بذلك منهم كان أبو جعفر المنصور الذي كان كثير العناية بجمع الفيلة، كما كان هارون الرشيد يقتني الأسود والنمور والفهود وأعد لها أقفاصًا مخصصة لها، حسبما يذكر ابن عبدربه في «العقد الفريد».

وكان اقتناء هذه الحيوانات من عادات الفرس الأصيلة، حيث كانت الأفيال من أدواتهم في الحرب، ومن البديهي استنتاج كيف أخذ العباسيون عادة اقتنائها منهم، فقد انطلقت الدعوة العباسية من خراسان، ومن هناك كونوا جيوشهم التي غزت الأراضي العربية واستولت على الحكم من الأمويين.

وصدى هذه العادة وصل إلى مصر في العهد العباسي أيضًا، حيث جعل خمارويه بن طولون أسده «زريق»، ملاصقًا له وحارسًا شخصيًا له، وكان هذا الأسد أزرق العينين، يجلس مع خمارويه في مجلسه بلا قيد أو قفص، ملازمًا له أينما ذهب، حتى إذا نام كان يدخل غرفة نومه ليحرسه، حسبما يذكر المقريزي.

ومن بعده في مصر بزمان ليس ببعيد، كان الخليفة الفاطمي العزيز بالله يهوى غرائب الحيوانات، حتى ذُكر أنه كان يرافقه طائر غريب الشكل، ضخم الجسد أطول من طائر البلاشون الذي يقترب طوله من المتر، له لحية، وانتفاخ تحت فمه، وعلى رأسه ما يشبه الطاقية، ومن غرابة هذا الطائر سموه «العنقاء»، حسبما يذكر ابن خلكان في «الوافي بالوفيات».

و«العنقاء» طائر أسطوري لدى العرب غير موجود في الحقيقة وربما لغرابة الطائر الذي أُرهب منه الناس في مصر، ولم يعلموا حقيقته، اعتقدوا أنه «العنقاء» الذي تحدث عنه العرب.

وفي مصر أيضًا كان جعفر بن حنزابه، وزير كافور الإخشيدي، يهوى الغريب من الحيوانات، من باب الترف والمباهاة، حتى أنه اقتنى الأفاعي والحيات والعقارب، وبنى لها في قصره قاعة كبيرة ورخمها بالرخام.

وكان كل حاو بمصر يصيد له ما يقدر عليه من الحيات والزواحف، ويتفننون في الإتيان إليه بالغريب والضخم من أجناسها، ويدفع لهم أموالا طائلة في مقابل ذلك، حسبما ذكر ابن شاكر الكتبي في «فوات الوفيات».