يتناوب في السيطرة على ذهن البشرية الجمعي نمطان من الشعور؛ الرغبة في البقاء وهو شعور يمتاز بقصر النظر والقدرات التدميرية العالية مع البدائية، والندم الذي ينتج عن وخز الضمير ويؤدي لرغبة في النظام والتطوير ووضع الخطط طويلة الأمد من أجل التأكد من عدم تكرار الهستيريا.

ما بين العنف والندم يظل الإنسان مدركًا تمامًا لمركزه بين الكائنات. هو الكائن الأكثر افتراسًا على الإطلاق، وهو الكائن الأكثر جشعًا على الإطلاق. ربما كانت تلك هي طبيعته، إلا أن القدرة على التراجع أثبتت أنها من طبيعته أيضًا. لهذا تظهر دائمًا الأصوات التي تطالب بنقطة نظام، بعالم أفضل نسبيًا للجميع.

مؤخرًا بدأت الشعوب تدرك أن «الجميع» لا تعني كل البشر كل فقط. أثبتت الطبيعة أنها أكبر من البشر فقط. تشاركنا الآلاف من السلالات الأخرى من الحيوانات ومختلف الكائنات نفس النظام البيئي ولها فيه حقوق وتقوم فيه بوظائف. مع معدلات استهلاكنا لمختلف المنتجات الحيوانية سواء بناءً على الحاجة أو الترف، لم تمتلك الكثير من هذه السلالات ما يكفي من التضحيات والقدرات التأقلمية حتى تتمكن من سد احتياجاتنا ومواجهة تدميرنا لبيئاتها وأيضًا الحفاظ على نوعها في آن واحد.


دقائق تاريخية

أخذ التنوع الطبيعي في الانهيار، وأخذت الكائنات في الانقراض. كان هذا هو قدر البوكاردو، آخر سلالات الوعل الإسباني Spanish Ibex التي تسببنا في انقراضها. الوعل الذي حارب جائحة الصيد ثم قطعان الماشية والأحصنة التي أحضرها البشر لتأتي على غذائه وتترك له الفتات في أراضٍ جبلية لا تحتمل كل هذا الضغط على مواردها المحدودة.

مع غروب القرن العشرين أدرك العلماء أن العالم لم يعد يمتلك إلا فردًا واحدًا باقيًا من البوكاردو.قام الباحثون الأسبان بقيادة الطبيب البيطري ألبيرتو فيرنانديز-آرياس بصيد الأنثى الأخيرة – التي أطلق عليها اسم سيليا Celia-وتركيب رقاقة تتبع في رقبتها ثم تحريرها. كان ذلك ليسمعوا أنفاسها الأخيرة بعد تسعة أشهر عندما وقعت سيليا ضحية حادث سقوط شجرة. وهكذا انقرض البوكاردو كما انقرض قبله الحمام المهاجر من كثرة الصيد والتنافس.

نقفز ثلاثة أعوام إلى المستقبل لعام 2003 حين صدر الإعلان عن نجاح أول عملية إعادة سلالة منقرضة للحياة. كان العلماء قد احتفظوا بخلايا سيليا المجمدة في معاملهم لتتم دراستها، الأمر الذي فتح المجال لخطوة خطرة وثورية. بدأ الأمر بإحضار أنوية خلايا سيليا وغرسها في خلايا بويضات تم إحضارها من ماعز وتفريغها من أنويتها. تم غرس الخلايا بأنويتها الجديدة في 57 رحم ماعز لتعمل كل منها كأم بديلة Surrogate Mother.

سبعة فقط من هذه الأمهات كانت قابلة للإخصاب والحمل، جميعها فقدت جنينها عدا واحدة فقط.

بعد عملية قيصرية حرجة استطاعت الأم أن تلد نسخة سيليا لتخمد فيها شعلة الحياة بعد دقائق بسبب إعاقة في رئتها. مع هذا فإنه لمدة عشر دقائق، كان البوكاردو يحيا مرة أخرى بعد انقراضه.


الكائن المنقرض المفضل

هل كانت المحاولة نابعة من شعور الإنسان بفداحة جريمته التي أودت بحياة العديد من الحيوانات؟ ربما، ولكن قد لا يكون هذا السبب هو السبب الوحيد في تعالي الأصوات الداعمة للبدء في التجريب نحو محاولة إعادة الحيوانات المنقرضة للحياة De-Extinction.

سنعود لهذه النقطة بعد قليل لكن دعونا الآن نكمل القصة.

في عام 2013 وجد العلماء دماء في سيبيريا. قد تبدو هذه الجملة مدخلاً جيدًا لإحدى قصص أرثر كونان دويل أو أجاثا كريستي البوليسية، إلا أنها لم تكن جريمتنا نحن البشر.

في سيبيريا تم اكتشاف جثة شبه كاملة لماموث تحتوي على كل تفاصيلها والتي كان أهمها الدم السائل. بعد إجراء التحاليل اللازمة في معامل جامعة ياكوتسك السيبيرية ثم في سيول في معامل مؤسسة SOOAM لأبحاث التقنية الحيوية، استطاع العلماء معرفة الكثير عن الجثة.

الماموث باتركب Buttercup كانت أنثى تعيش منذ حوالي 40 ألف سنة وماتت في أواسط خمسينياتها فريسة لبعض الذئاب. ورغم المعرفة التي يمكن استنتاجها من البقايا التي عثر عليها، تظل إعادة إحياء شبيه الفيل ذي الفرو خوضًا في منطقة مختلفة تمامًا.

لماذا؟


طريق وعر

مع زيادة الوعي البيئي جنبًا إلى جنب مع الغرور والقدرات العلمية البشرية، تم أخذ إعادة السلالات المنقرضة للحياة على محمل الجد ليجد العلماء أن الأمر ليس مستحيلاً تمامًا. ما يحتاجه الأمر –وهو ما ليس بالسهل طبعًا- هو خلية حية باقية تحتوي على نسخة كاملة من الجينوم للكائن المراد إعادته.

ولأن إيجاد مثل هذه الخلية يعد أمرًا شديد الصعوبة مقاربًا للمستحيل بالنسبة للحيوانات المنقرضة من آلاف السنين، ظهرت تقنيات بديلة لهذه الفكرة لكنها أكثر ضيقًا من حيث نطاق الحيوانات التي يمكنها التعامل معها. للأسف لن يمكنك –أو أحفادك، أو أحفاد أحفادك- اللعب مع ديناصور صغير في حديقة المنزل، إلا أن الكثير من الحيوانات الأخرى ذات الأقارب المعاصرين تمتلك فرصًا جيدة في العودة من الناحية النظرية.

مع الأخذ في الاعتبار أن جزيئات الحمض النووي لا تستطيع البقاء دون اضمحلال لأكثر من 6.5 مليون عامًا، تصبح احتمالات إعادة الديناصورات للحياة للأسف صفرًا. لكن ماذا بخصوص الحيوانات المنقرضة في أزمنة أقرب بكثير؟

اتضح للباحثين حاليًا أن إمكانية إعادة حيوان منقرض للحياة يمكنها أن تتأتى بثلاث طرق. كانت طريقة استنساخ سيليا Cloning أولها والتي قامت باستغلال وجود خلايا حية محفوظة من الحيوان المنقرض. تتعامل الطريقة الثانية مع وضع الماموث المحتمل وهي إعادة البناء الجيني Genetic Reconstruction.

في العادة بإمكانك أن تحصل على بقايا جينية من الخلايا المجمدة أو التي حافظت البيئة على أجزاء منها في ظروف مواتية. إذا استطعنا تحليل أجزاء الحمض النووي في هذه البقايا ومحاولة مقارنته بالحمض النووي لأقرب السلالات الحية لهذا الحيوان، ربما يصبح بإمكاننا تدارك النقص وإكمال النسخة الجينية المراد الحصول عليها.

تؤخذ هذه النسخة المتكاملة ليتم زراعتها في خلية مفرغة من خلايا هذا القريب – كالفيلة الآسيوية مثلاً بالنسبة للماموث- ويتم حثها على الانقسام لتكوين جنين يوضع بدوره في رحم أنثى القريب.

هكذا يصبح من الممكن أن تشهد ولادة ماموث، هذا بالطبع بعد مدة حمل تصل إلى عامين ومع احتمالات ضعيفة لعدم حدوث إجهاض كما في حالة سيليا. أما الطريقة الثالثة فهي طريقة تحمل صدى الماضي أكثر من سابقاتها. بأسلوب أشبه بطريقة مندل في مزاوجة نباتاته، يمكنك أن تقوم بما يعرف باسم التربية العكسية Back-Breeding.

يقوم المزارعون في العادة بمزاوجة الحيوانات بغرض الحصول على صفة سائدة معينة مرغوب فيها كلون معين أو صفات جسدية محددة. ولأن كل الكائنات الحية تحمل نسبًا -ولو ضئيلة- من جينات أجدادها القدامى، يصبح من الممكن مزاوجة أفراد بصفات معينة بأفراد بصفات معينة أخرى تؤدي لظهور هذه الصفات -المتنحية- أكثر فأكثر. قد يتطلب ذلك بالطبع مئات الأجيال قبل الحصول على تشابه ملحوظ مع الأجداد، إلا أن تلك الطريقة إحصائية الهوى بإمكانها نظريًا أن تعطينا هجينًا واضحًا لماضي السلالة وحاضرها.


نقطة نظام

في وضع كهذا يتحول السؤال الأهم بالنسبة للعلماء من «هل يمكننا إعادة الحيوانات المنقرضة حديثًا للحياة؟» إلى «هل يجب علينا فعل هذا؟». لا يعد الإقرار بإمكانية تقنية ما علامة على سهولتها أبدًا. تتطلب كل من هذه التقنيات الثلاث تكاليف باهظة وزمنًا طويلاً وتجبرنا على أخذ الكثير من المخاطر في الاعتبار. فلماذا عسانا نفعل ذلك؟

تحتاج إعادة الماموث للحياة –على سبيل المثال- لرحم إناث الفيل الآسيوي المعرض للانقراض بحد ذاته. فهل تستحق إعادة سلالة منقرضة التسبب في انقراض أخرى لنصل في النهاية لسلالتين منقرضتين بالتبعية بغرض التجربة وحدها؟

يتضح من التأمل في هذه المعضلة أن لتقنيات إعادة الحياة جانبًا مظلمًا فيما يتعلق بسياسات الحفاظ على السلالات Species Conservation. ليس فقط فيما يخص التسبب في مزيد من الانقراضات، بل أيضًا بسبب معرفتنا بأن ما انقرض يمكن إعادته وبالتالي التخلي عن أي حذر فيما يخص الصيد والاستهلاك.

نضيف إلى ذلك أن الكثير من الوقت قد مر منذ أن سارت هذه السلالات على وجه الأرض. تغير المناخ وتغيرت الطبيعة حتى لتصبح عالمًا لا يمكن فهمه بالنسبة إليها. ما هي البيئة التي يمكن تقديمها لهذه الكائنات التاريخية؟ وما الذي ستتسبب فيه عودتها إلى النظم البيئية؟ هل ندرك كل نتائج صراعها مع السلالات الموجودة حاليًا؟ بالطبع لا.

يؤكد جورج تشيرش George Church من جامعة هارفارد -والمناصر الأهم لبيولوجيا إعادة الحياة في المجتمع العلمي-أن بإمكان هذه السلالات المنقرضة عند عودتها مساعدتنا على الحفاظ على البيئة وإعادة النظم البيئية ذاتها إلى ماضٍ أكثر اخضرارًا. مع هذا فإن هذه الاحتمالية ذاتها غير مضمونة العواقب.

بهذه النتائج وخطورتها المحتملة نكون قد قمنا بعكس المراد من وراء التقنية. هنا يظهر الوجه الحقيقي لندم الإنسان. هل بالفعل يدور غرض هذه الأبحاث حول تصحيح أخطاء البشر، أم أن هذا الادعاء مجرد واجهة مزيفة تخفي وراءها حقيقة أن إعادة الحياة للحيوانات المنقرضة هو مجرد تحدٍّ آخر يحب الإنسان الفوز به مظهرًا قواه الذهنية ومؤكدًا على سيطرته على الحياة؟