للحياة أحيانًا أساليبها الغريبة في أن تُعطيك عكس ما تتمنى وتسعى إليه، ثم تجد نفسك في نهاية المطاف راضيًا تمامًا عمَّا منحتك إياه رغم تذمرك في بادئ الأمر، بل وتُكرِّس كل ما تملك للمحافظة عليه وعدم إفلاته من بين يديك، لكن ما بين نُقطتي البداية والنهاية المُتمحورتيّن في الإنكار والرضا، هناك رحلة طويلة، شاقة وشيّقة في آنٍ واحد.

الكلاسيكية المهجورة

مسلسل Anne with an E هو عبارة عن جُرعة درامية كلاسيكية، افتقدناها كثيرًا في الأعمال الفنية خلال السنوات الأخيرة، يأخذنا معه للحياة في نهايات القرن التاسع عشر في أحد أرياف كندا، لنعيش هناك قصة فتاة يتيمة تُدعى «آن»، تحمل من كل الصفات وعكسها، القوة والضعف، الذكاء والسذاجة، الإقبال على الحياة والرغبة في الموت.

الحبكة الرئيسية تدور حول الفتاة «آن» التي لم تبلغ الثالثة عشرة بعد، وتعيش حياة غايةً في البؤس ما بين الملجأ الذي ترعرعت فيه منذ كانت طفلة رضيعة، وبين المنازل التي تتنقل إليها بين الفيّنة والأخرى لتخدم مالكيها، حتى يتقاطع طريقها مع أخويّن مُسنيّن يملكان مزرعة بسيطة تُدعى «جرين جيبلز»، يرغبان في تبني طفل يتيم قوي البُنية يساعدهما في أعمالها، لكن بدلًا من ذلك تُرسَل إليهما «آن» هزيلة الجسد، والتي يُوحي مظهرها بأنها لا تقدر حتى على حمل سلة طعام فكيف بأعمال مزرعة كاملة، ومن هنا تحديدًا تبدأ الرحلة المليئة بالمشاعر المختلفة وتأخذ مُنعطفات عديدة.

أحداث المسلسل مُقتبسة من رواية كلاسيكية رائعة للكاتبة الكندية «لوسي مود مونتجمري»، ولها أجزاء عديدة تحت عنوان Anne of green gables، وتحولت الرواية لمسلسل رسوم مُتحركة فيما سبق، تمت دبلجته للعديد من اللغات منها العربية تحت اسم «شما في البراري الخضراء»، إلى أن تم إطلاق نسخته الحية، أخيرًا، في عام 2017، وهي التي سنتحدث عنها في هذه المراجعة.

«آن شيرلي كاثبيرت»

فتاة صهباء نحيلة الجسد لها مواهب عديدة، أهمها الثرثرة في أي شيء وكل شيء، تملك مُخيِلة خصبة للغاية لدرجة أنها تعيش بها في عالم خاص لها وحدها ومُنغلق عليها، تضع فيه كل ما هو جميل ومُبهج بعيدًا عن حياتها الواقعية التي تصفها بأنها «مقبرة للآمال المدفونة»، تملك لغة فصيحة للغاية اكتسبتها من كثرة القراءة، دائمًا ما تستخدمها في إطلاق مُسميات نادرة على المسامع على أشياء عادية للغاية، كـ«بحيرة المياه المُتلألئة» و«درب الفرح الأبيض».

«آن» وعلى الرغم من ثرثرتها الدائمة وفضولها الزائد على حده، فإنها تملك طريقتها الخاصة في سحر من حولها بطريقتها الآسرة في الكلام، وشرح خيالها بألفاظ ومُفردات مُنمَقة تجذبك إليها وتُجبرك على الاستماع بآذان مصغية، ما يجعلك تعيش معها في كل تفصيلة خلال حلقات المسلسل مُنخرطًا في أحلامها الخاصة وقضاياها وكذلك مشاعرها تجاه الجميع، ستشعر أنك تكتسب حياة إضافية على حياتك ولكن في زمان ومكان مُختلفين.

ستُخطَف من الوهلة الأولى

اختلاف الشكل والبيئة العامة للمسلسل من الخارج قد تكون غير جاذبة للمشاهدين الذين اعتادوا على نوع مُعين من الأعمال أصبح يُسيطر على الساحة الآن، لكن ما إن تبدأ مع أول مشهد ستجد نفسك تتنقل ما بين الحلقة التي تليها دون أن تشعر، مُستمتعًا وغارقًا في الأحداث، لا لأن نهاية كل حلقة تُجبرك على أن تعرف ما سيحدث.

ما يُضيف المتعة بشكل مُضاعف هو المجتمع بشكل عام من أسرة وأصدقاء وجيران، الأزياء وتصميم المنازل، المناظر الطبيعية الخلّابة المُريحة للعين بشكل خاطف، وهو الأمر الذي استغله المُخرج أفضل استغلال، باستخدام اللقطات التصويرية الواسعة والبطيئة، والتي يُجبرك من خلالها على الإمعان بكل تفصيلة بالمشهد، بجانب الحوارات العبقرية بين الشخصيات وبعضها، مع موسيقى تصويرية تُطرِب الآذان، ما يجعل من كل لقطة عبارة عن وجبة فنية مُتكاملة.

علاقات الأُبوة والصداقة والحب واقعية تمامًا، خليط ما بين النقاء والتعقيد في كثير من الأحيان، كل علاقة تأخذك في منعطفات عديدة من البداية وحتى النهاية، وستجعلك مُشتَتًا بين أطرافها، حائرًا مع من تتعاطف أكثر من الآخر، بخاصة وأنه لا يوجد صواب مُطلق ولا خطأ مُطلق.

النسوية، العنصرية، الطبقية، حرية الرأي، المثلية الجنسية، وعدة قضايا سياسية واجتماعية أخرى يناقشها المسلسل، لكن ما يُميزه هو أنه لا يُجبرك عليها كما أصبح مُعتادًا حدوثه، مؤخرًا، بل تدخل في خيط أحداث القصة بكل سلاسة وانسيابية، مما يجعلك تتفهّم كل واحدة منها، وتبني وجهة نظرك بعيدًا عن عاطفتك الشخصية تجاه القضية.

التمثيل وتطور الشخصيات

الطاقم التمثيلي المُميز كان له الدور الأكبر في نجاح المسلسل، فالكل تقريبًا أبدع في أداء دوره على أكمل وجه، بدايةً من «آميبيث ماكولتي» في دور «آن شيرلي كاثبيرت»، مرورًا بـ«جيرالدين جيمس» و«روبرت هولمز تومبسون» في دور «ماريلا» و«ماثيو كاثبيرت»، وانتهاءً بأقل ممثل ثانوي.

كل شخصية أخذنا معها المسلسل لخط درامي مُعقد ومليء بالأحداث المُتشابكة، وشهدنا تطورها بمرور الحلقات، فنعيش رحلة من النمو الفكري والعقلي، تُدرِك من خلالها أن المواقف الحياتية اليومية التي يخوضها الإنسان هي الوحيدة القادرة على تغييره إلى النقيض، وتكوين وجهات نظر سويّة.

بالتأكيد الممثلة «آميبيث» في دور «آن»، كان لها نصيب الأسد في الأحداث والتطور، لأن القصة في الأساس تتمحور حول حياتها الخاصة، فتشعر وكأنها لم تكن تُمثِل أكثر من كونها تسرد لنا حياة كاملة بمشاعر عديدة وصادقة. ختامًا، المسلسل يستحق كل دقيقة من وقتك بكل تأكيد، سيأخذك في عالم آخر بعيد عن المُزعج الذي نعيش فيه، وستشعر بارتياح كبير أثناء المشاهدة رغم كثرة المشاعر داخله. تجربة ستنتهي منها بالعديد من التساؤلات التي حتمًا ستؤثر فيك إيجابًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.