يُعرِّف معهد الأنثروبولوجيا الملكي الأنثروبولوجيا (علم الأناسة) بأنه العلم الذي «يدرس البشر في جميع أنحاء العالم، وتاريخهم التطوري، وسلوكهم، وكيفية تكيفهم مع البيئات المختلفة وتواصلهم واختلاطهم معا». في الواقع، هذا تعريف محير، فمن الصعب استخلاص تصور واضح لماهية الأنثروبولوجيا اعتمادا على موضوعها وحده، الذي هو الإنسان، إذ تتخذ العديد من العلوم بالفعل من هذا الكائن موضوعا لها، كما أن الجوانب المذكورة تنتمي إلى علوم شديدة التنوع والاختلاف، منها الدراسات العرقية والتاريخ والأحياء وعلم النفس واللغة والاجتماع!

لكن الأنثروبولوجيا بالفعل أكثر العلوم التي تدرس الإنسان شمولية، تتقاطع مع كثير من العلوم الأخرى، منها الأحياء والتاريخ والاجتماع والأدب والفلسفة، لها اليوم فروع وتخصصات عدة، شديدة الثراء، فيها ما يتطلب بحوثا ميدانية، ومنها ما يتطلب جهودا تحليلية، ومنها ما يتطلب أبحاثا معملية.

فيما يلي، سنمر سريعا على المراحل التاريخية المهمة التي مهدت الطريق أمام هذا العلم، وأهم الكتابات والتسجيلات التي ألهمت الأذهان، كما سنلقي نظرة على أطواره الأولى وبعض رواده وأعلامه، وظروف تأسيسه وأبرز تخصصاته، دون التطرق إلى تفاصيل العلم ومناهجه، إلا في مواضع معدودة بغرض إظهار نوعية الأفكار التي يتناولها العلم، وإن كانت التفاصيل النظرية لا تقل تشويقا عن القصة، لكنه حديث «حول» الأنثروبولوجيا، أكثر منه حديثا عنها.


الأنثروبولوجيا المبكرة

عندما نتحدث عن الأنثروبولوجيا المبكرة، فنحن نتحدث –في الحقيقة- عن الأنثروبولوجيين الأوائل. إن الانتباه إلى نسبية الثقافة والقيم، والنظرة المقارنة، مع حد أدنى من الحيادية، هي أهم لوازم الاشتغال بهذا العلم. إلا أن هذه روح ظل اكتسابها خلال الشطر الأعظم من عمر الإنسانية أمرا شديد الندرة، لأسباب متنوعة.

من اليونان إلى الأمريكيتين: جمع المادة

عاش المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، أرخ للحروب الفارسية الإيرانية في كتابه «تاريخ هيرودوت»، وتأثر في سرده لبداياتها بأشعار هوميروس، لكن الكتاب قد حوى –إلى جانب ذلك- تسجيلا للمعيشة والحكم والسياسة والجغرافيا، كما عرض لما كان من صدامات بين الثقافات المختلفة بغرب آسيا وشمال أفريقيا وبلاد اليونان آنذاك.

ومثلما يشتهر هيرودوت بلقب «أبو التاريخ»، فقد اعتبره البعض أبا للأنثروبولوجيا أيضا، إذ سجل هيرودوت في تاريخه الاختلافات بين المجتمعات في اللغة والعادات والمعتقدات وغيرها، وذكر تفاصيل عن الطعام والطب والزواج والرق ووضع المرأة، معتمدا فيما دونه على مشاهداته خلال رحلاته وما سمعه من غيره. لكن الأهمية الكبرى كانت في إقراره – أحيانا- بأن اختلاف قيم هذه الشعوب لا يرجع إلى دونيتها أو فساد أخلاقها، بل إلى اختلاف أوضاعها وظروفها[1].

في عصر الرومان، نصادف شيئا من هذه الروح في القرن الأول قبل الميلاد، في ديوان «عن طبيعة الأشياء» تحديدا، للشاعر والفيلسوف الإبيقوري لوكريتيوس، فإلى جانب النظريات الخاصة بالمادة والذرة وحركة الأجرام السماوية وغيرها، التي أودعها الديوان، نجد تقسيمه للمراحل التاريخية (العصر الحجري، والبرونزي، والحديدي)، وآراءه حول نشأة اللغة وطبيعة السياسة والعقد الاجتماعي والموسيقى والفنون وغيرها. علاوة على تبنيه مذهب إبيقور الذي يجعل لكل شيء يقع في هذا العالم علة مادية يمكن اكتشافها، حتى تخلف الشعوب «غير المتحضرة»[2].

ثم تبرز في القرن العاشر الميلادي إسهامات الرحالة والمؤرخين المسلمين، ومن أهمها كتابات هيرودوت العرب، المولود في بغداد: أبو الحسن المسعودي. يحوي كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، أشهر أعمال المسعودي، سيرة البشر من الخلق حتى الخلافة العباسية في زمنه. ولقد أظهر فيه روحا نقدية في مواجهة النقولات التراثية والأحداث التاريخية، وتحدث عن أثر البيئة واختلافها على هيئة الإنسان، كما أظهر تعاطفا مع الشعوب الأخرى وهو ينبه إلى التفاوت بين المنصوص عليه في الكتب والمشاهد على أرض الواقع.

وبعد عقود معدودة، في الناحية الأخرى من الجسد الإسلامي، كان العلامة المتفنن أبو الريحان البيروني، المولود بأوزبكستان، تحت حكم الدولة الغزنوية، يسجل مشاهداته في شبه القارة الهندية، ويقارن بين الثقافات بموضوعية وحياد نادرين، يرجعان بدرجة كبيرة إلى نشأته في مجتمع شديد التنوع ورحلاته وإتقانه عدة لغات.

لكن يظل عبد الرحمن بن خلدون، المولود في القرن الرابع عشر بتونس، صاحب الإسهام الأبرز. وضع ابن خلدون نظرية العصبية، وهي أولى النظريات الاجتماعية غير الدينية، التي تحاول فهم المجتمع الإنساني مهما كان موقعه الجغرافي أو حقبته الزمانية، متحدثا في هذا السياق عن دور القرابة والدين في بث روح التضامن بين أفراد المجتمع، كما فرق بين المجتمعات «البدوية» و«الحضرية».

وبشكل عام، تحتل آراء ابن خلدون في قيام الحضارات وسقوطها وأطوارها مكانة عظيمة، إذ تعد أول محاولة عقلانية لتفسير التاريخ الإنساني إجمالا. كذلك سجل الرحالة الفقيه ابن بطوطة المغربي، الذي زار عددا هائلا من البلدان، برا وبحرا، ما شاهده في رحلاته من أحوال الرعية والأسواق والحكام وغيرها من أدق تفاصيل المجتمعات.

يجدر بالذكر أن حصيلة أوروبا من المشاهدات والروايات الوصفية قد شهدت نموا هائلا خلال هذه الفترات، نتيجة للرحلات الاستكشافية متنوعة الأغراض، ما بين السياحة الدينية والتجارة والتبشير والحملات الصليبية، فقد غطت هذه الرحلات مختلف أنحاء العالم القديم، بداية من الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط آسيا إلى الصين واليابان وبلاد التتار.

كان من أشهر هؤلاء الرحالة جون دي بلانو كاربيني وماثيو باريس وماركو بولو. ثم جاء عصر الاستكشاف، ومعه كم لا يحصى من المشاهدات والاستكشافات غير المسبوقة، وإن كانت النصوص الأولى مليئة بالمعلومات الخاطئة والاستعلاء الديني، خاصة ما تعلق منها بالأمريكيتين. ومع اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، لم يلبث تأثير هذه الأخبار أن تضاعف وامتد بصورة جنونية، حتى بلغ العقل الجمعي الأوروبي.

بهذا كله وغيره مما لا يسع المقام لذكره، مثل حركة الاستشراق وترجماتها، توفرت المادة الخام اللازمة لعقد المقارنات بين المجتمعات والنظر في حال الإنسان عبر العصور، وأصبحت الفرصة سانحة أمام العقل الأوروبي لدراستها وتحليلها، خاصة أن ذلك قد تزامن مع بداية عصر التنوير وما حواه من ثورة وتحرر في الفكر لم يسبق لهما مثيل.

من التنوير إلى الرومانسية: شحذ العقول

في منتصف القرن الثامن عشر، نشر الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو كتابه «روح الشرائع»، نص فيه على أن النظام القانوني جزء من كيان اجتماعي أكبر، فهو في علاقة معقدة مع الدين والسياسة والاقتصاد وجوانب عدة أخرى. كما نص على إمكانية تفسير السلوكيات البربرية مثل أكل لحوم البشر والوثنية وغيرها عن طريق الوظيفة التي تؤديها داخل المجتمع.

إضافة إلى ذلك،تحدث مونتسكيو عن مفهوم شبيه بالعقل الجمعي (لم يصكه دوركايم بعد)، يسيطر على المجتمع ويقوده، ويختلف من مجتمع إلى آخر، منبهًا إلى ضرورة احترام المشرع والسياسي لهذه الروح، والاستعانة على تغيير العادات غير المرغوب فيها بالحيلة، كأن تغرز عادات أخرى ويعتنى بها، لتتكفل هي بإزاحة القديمة تدريجيا.

بالتزامن مع ذلك، نشر الموسوعيون تحت إشراف دنيس ديدرو «الموسوعة»، حاولوا فيها جمع وتنظيم أكبر قدر ممكن من المعارف، للمساهمة في تقدم الفكر والعلوم والتكنولوجيا، فحظرتها الكنيسة في البداية داخل كثير من بلدان أوروبا. حوت هذه الموسوعة تفاصيل عن الثقافات والعادات الاجتماعية المختلفة حول العالم، ومقارنات منهجية بين النظم الاجتماعية المختلفة، بهدف التوصل إلى قوانين موضوعية تحكم المجتمعات.

كان الفيلسوف والأديب الفرنسي جان جاك روسو من أهم المشاركين في الموسوعة، وتحتل كتاباته عامة مكانة كبيرة بين مؤرخي الأنثروبولوجيا، حيث عقد المقارنات بين الشعوب البدائية والمجتمعات في أوروبا، وخلص بعد تحليلها إلى آراء تختلف عما يراه أغلب معاصريه، آراء ترى في كل تطور للمجتمع انحطاطا، وتحمل هذا المجتمع المسئولية عن خطايا الفرد وثقل أعبائه. كما كان تفضيل روسو للحياة البدائية على الحضارة الأوروبية «الفاسدة» من أهم مقدمات النسبية الثقافية.

إلى جانب ذلك، شكل روسو جسرا نقل أوروبا من تنوير فرنسي إلى رومانسية ألمانية على النقيض منها، ظلت تؤمن فترة طويلة بالتفوق العرقي الجرماني، مستندة في ذلك إلى نظريات ودراسات شبه أنثروبولوجية حول العرق واللغة. ومع الفلسفة الألمانية يأتي فيلسوفها العظيم كانط، الذي نشر في أواخر القرن الثامن عشر كتاب «الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براجماتية»، نقرأ في آخر صفحاته عبارة قد تبدو لنا صادمة،حيث يقول:

من أجل عرض طبيعة نوع معين من الكائنات، تلزم مقارنته والإشارة إليه في مقابل أنواع أخرى معروفة لنا بالفعل […] ولا يمكن حل المشكلة إلا بمقارنة نوعين من الكائنات العاقلة على أساس الخبرة، لكن الخبرة لم تقدم لنا مقارنة بين نوعين من الكائنات العاقلة.

لكن كانط قصد من ذلك تعديل مسار دراسة الإنسان، من السؤال عما يكون (جوهره) إلى السؤال عما يفعل.

نحو التأسيس

في عام 1859، أي في النصف الثاني من قرن بدأ بالثورة الفرنسية وشهد الثورة الصناعية، وفي نفس الفترة التي دعا فيها عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت إلى إنشاء علم وضعي لدراسة المجتمع، نشر عالم الطبيعة والأحياء البريطاني تشارلز داروين كتاب «أصل الأنواع»، وطرح فيه نظرية التطور، لتبدأ بكل ذلك مرحلة جديدة من الفكر الغربي.

في مقابل إسهام دارون في علم الأحياء،طبّق الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر هذه النظرية على المجتمعات البشرية، فشبهها بكائنات بيولوجية، تحاول هي الأخرى التكيف للحفاظ على وجودها، ينجح بعضها ويهلك الآخر. أثرت هذه النظرية في العديد من الأنثروبولوجيين، فصوروا في كتاباتهم الأوروبيين شعبا متفوقا بيولوجيا وثقافيا على سائر الشعوب، وهو ما يتماشى مع ما شهده الغرب في هذه الفترة من رواج لدراسة السلالات البشرية بهدف إثبات التفوق العنصري.

في هذه الفترة، سيقدم الكثيرون، مثل مؤسس الأنثروبولوجيا البريطانية السير إدوارد تايلور، والأنثروبولوجي الأمريكي لويس هنري مورغان، إسهامات شديدة الأهمية، حول تطور المجتمعات، وفق نظرية التطور الاجتماعي، التي ستستمر هيمنتها على الأوساط الأنثروبولوجية فترة من الزمن.

ستحسن دول أوروبا الاستعمارية توظيف هذه الكتابات لتبرير توسعاتها، باعتبارها منقذة لهذه الشعوب «المتخلفة». في الوقت نفسه، سيفشل دعاة التفوق البيولوجي للرجل الأبيض في تقديم أدلة على مزاعمهم، رغم توفر كثير من «العينات» التي سيجلبها المستكشفون من أفريقيا. ومع تراجع هذه النظرة، سيبدأ الاختلاف الأكاديمي في النمو، لتكتسب كل مدرسة أنثروبولوجية مزيدا من الخصوصية.


الأنثروبولوجيا حول العالم

أولا، يجب الإشارة إلى أن اختلاف المدارس الأنثروبولوجية حول التخصصات والفروع ومجالات ومناهج البحث، هو أمر متفهم في ضوء اختلاف التاريخ والثقافة والتيار الفلسفي المهيمن، بل اختلاف النظرة إلى هذا العلم ووظيفته والغرض منه أيضا، لذا لم يقتصر الاختلاف على دول العالم الأول، فتكرر عند اشتغال دول ما بعد الكولونيالية بالبحث الأنثروبولوجي، مثلما جرى في أفريقيا[3].

كما أن للحركة النسوية مقاربتها الخاصة، وهي مقاربة مهمة ومؤثرة، سعت فيها إلى تحرير المجال وتنقيته من الهيمنة والتحيز الذكوري. ومن الأمثلة على الخصوصية القومية جريان العرف في بعض بلاد أوروبا –أبرزها فرنسا- على إسناد مهمة دراسة الإنسان ما دام «آخر»، سواء زمانيا أو مكانيا، إلى علم الأنثروبولوجيا، بينما يتكفل علم الاجتماع بدراسة المجتمعات الغربية الحديثة. وبالفعل، يلاحظ أن الشعوب المحتلة قد نالت النصيب الأكبر من اهتمام الأنثروبولوجيين، بينما نال الغرب جل اهتمام علماء الاجتماع، وإن كان الأمر قد تغير.

الإنجليزية لغة الجزء الأكبر من أدبيات الأنثروبولوجيا، ومرجع ذلك إلى سبق إنجلترا وأمريكا النسبي إلى تأسيس هذا العلم وتطويره، إضافة إلى كونها اللغة الرسمية للعولمة. إلا أن هناك اختلافات بين هذين البلدين أيضا. مثل الاختلاف التاريخي حول تفاسير الأنماط الاجتماعية، فبينما رأى الأمريكيون أن التفسير يعبر عن بنية عقلية مشتركة لا يجوز تعميمها، رأى الإنجليز أنه قانون يشبه قوانين العلوم الطبيعية.

كما أن علم الآثار في إنجلترا تخصص أكاديمي مستقل عن الأنثروبولوجيا تماما، على عكس الوضع في أمريكا (كما سنرى). لهذه الأسباب وغيرها، رغم الأهمية والمكانة الكبيرة للأنثروبولوجيا الأوروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، سنعرض هنا للتخصصات الأنثروبولوجية وفق المقاربة الأمريكية، التي تجعلها تخصصات أربعة: الأنثروبولوجيا الفيزيائية (البيولوجية)، والأنثروبولوجيا الثقافية (الاجتماعية)، والأنثروبولوجيا اللغوية، وعلم الآثار[4].


تخصصات الأنثروبولوجيا الأمريكية

يرجع الفضل الأكبر في تأسيس الأنثروبولوجيا الأمريكية الحديثة إلى الأنثروبولوجي الألماني-الأمريكي فرانز بواس، وهو من طور هذه المقاربة الرباعية، أثناء عمله بجامعة كولومبيا، حيث عين أول أستاذ للأنثروبولوجيا في عام 1899. كان النموذج المهيمن آنذاك هو التطور الثقافي المتأثر بنظرية داروين، المذكور آنفا، وكان دحض هذه النظرية أحد إنجازاته المهمة الأخرى. كما شجع على علاج النقص الشديد في المعلومات الإثنوجرافية (الوصفية) المنضبطة.

1. الأنثروبولوجيا الفيزيائية

تدرس تطور الإنسان على مر الزمن، والآثار البيئية والثقافة المختلفة على التطور الإنساني. وتعالج ثلاث مجموعات رئيسية من المشكلات: تطور الرئيسيات الإنسانية وغير الإنسانية، والتنوع الإنساني وأهميته، والأسس البيولوجية للسلوك الإنساني. من أجل ذلك يدرس الأنثروبولوجيون الفيزيائيون حفريات المجموعات السابقة من أشباه الإنسان (Hominini) والرئيسيات غير الإنسانية.

2. الأنثروبولوجيا الثقافية

هذه أكبر التخصصات الأربعة، فالثقافة في الأنثروبولوجيا الأمريكية أشمل بكثير من المجتمع (يحمل التخصص في بريطانيا اسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية)، إذ تشمل كل ما هو مكتسب في حياة الإنسان. ومن بين ذلك الدين، والأسطورة، والتقاليد، والعادات، والفنون، والأدوات، والهياكل الاجتماعية، والأسرة. ولقد كان للوجود المسبق لمجتمعات السكان الأصليين في أمريكا دور عظيم في إثراء وتطوير هذا التخصص بصورة ملحوظة.

3. الأنثروبولوجيا اللغوية

تدرس اللغات في سياقها الاجتماعي والثقافي عبر الزمان والمكان، سواء اللفظية وغير اللفظية، ويشمل ذلك دراسة وظائفها واستخداماتها الاجتماعية، والعلاقة بين اللغة والعقل والثقافة والمجتمع، وتأثير اللغات على تصورنا للعالم، وانتقالها بين الأجيال. ولقد استطاع الأنثروبولوجيون اللغويون تطوير مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية واسعة النطاق، تتناسب مع شمولية نطاق البحث. فإلى جانب دراسة مختلف النظريات الموضوعة لوصف وفهم اللغة، يهتم التخصص كذلك باللغة من جميع جوانبها، وليس استخداماتها الاجتماعية فقط، فيدرس تاريخها وبنيتها وصوتياتها وشاعريتها.

4. علم الآثار

يهدف إلى الكشف عن ثقافة وتفاصيل حياة المجتمعات التاريخية وقبل التاريخية، بالتنقيب، والتأريخ، وتحليل ما تركته الأجيال السابقة. يعكف علماء الآثار على آلاف قطع الأواني الفخارية وغيرها من التحف للتوصل إلى تصور علمي لطبيعة الحياة الإنسانية قديما.

ويختلف علم الآثار عن علم التاريخ من حيث المادة الخام، فيتعامل علماء الآثار مع المادة الملموسة، في حين يتعامل المؤرخون مع المادة المقروءة مما يقيض مدى اشتغاله بالعصور التاريخية. في الوقت نفسه، قد يستعين عالم اللآثار بمواد كثير من التخصصات الإنسانية والاجتماعية الأخرى، لاستكمال تصوره عن الماضي، فيتقاطع عمله مع علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية والأدب والتاريخ أيضا.

في النهاية، نختم بعبارة للأنثروبولوجي الشهير إريك ولف (1923-1999):

ليست الأنثروبولوجيا مجالا بحثيا بقدر ما هي ارتباط بين عدد من المجالات. إنها تاريخ من جهة، وأدب من جهة أخرى. إنها علم طبيعي من جهة، وعلم اجتماعي من جهة أخرى. تهدف الأنثروبولوجيا إلى دراسة الإنسان من الداخل والخارج، وتعد طريقة للنظر إلى الإنسان وطريقة للتنبوء بمستقبله في آن واحد. الأنثروبولوجيا أشد العلوم الإنسانية طبيعة علمية، وأشد العلوم الطبيعية إنسانية.
المراجع
  1. حسين فهيم: قصة الأنثروبولوجيا، عالم المعرفة (98)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت
  2. A History of Anthropology
  3. مجالات الأنثروبولوجيا: مختارات من الموسوعة الدولية للعلوم الإنسانية، مجلة العلوم الاجتماعية –الكويت، السيد حامد وعلية حسين (مترجمون)
  4. Anthropology: The Basics