أغبياء يحملون كتابًا ذكيًا.

هذا كان الاعتقاد الشائع تجاه اليهود في العصور الوسطى الأوروبية، إلا أنه بالنظر إلى جذور معاداة السامية فلم تكن دائماً نتاج الخيال الشعبي أو الاختلاف العقائدي بالرغم من أن هذا قد أسهم في تكوينها، إلا أن ممالك أوروبا سعت إلى دفع معاداة السامية في جهات متعددة حسب ما تمليه عليها المصلحة الاقتصادية والسياسية، بدءاً من تقنين وجود اليهود حتى طردهم!

جرى تأكيد مفهوم معاداة السامية من خلال السردية اليهودية الممتدة بذلك إلى أحداث نشأة المملكة العبرانية المقدسة. ومن خلال السردية التاريخية العامة لتاريخ الجاليات اليهودية في أوروبا، خاصةً بعد اعتناق أوروبا للمسيحية الكاثوليكية. إلا أن السردية التاريخية لمعاداة السامية على الوجهتين أصبحت تمثل مفهوماً تاريخياً منفصلاً عن الأحداث الأكثر تعقيداً التي من شأنها أن تضع معاداة السامية في سياق أكثر وضوحاً ومنطقية.

السردية الأولى: العبرانيون قبيلة هامشية تجتاح فلسطين

حسب التاريخ اليهودي فإن المملكة العبرانية أخذت كثيراً من التأويل المقدس، خاصةً في روايتها التوراتية، وذلك ليس غريباً على التفكير الديني حين يُبنى بمنأى عن الأحداث التاريخية الخارجية التي تُشكله، حيث يضعها التاريخ العام في مقام الحدث العادي المتأثر بأحداث دنيوية مفهومة مما يجعله غالباً متعارضاً مع الروايات الدينية عن التاريخ.

فحسب التاريخ العلمي لم تكن قبائل العبرانيين قبل الميلاد سوى جماعة صغيرة متفرقة في أرض كنعان – فلسطين حالياً – وكان الكنعانيون مجموعة سامية وشعباً عَرف الاستقرار في زمنه، وهم أجناس مختلفة من السكان الأوائل لأرض كنعان، وتقول الروايات التوراتية إن رب إبراهيم وعده هو وأولاده بهذه الأرض ذات المدن العامرة، والتي لم تكن لهم منذ البداية كما سيبين لاحقاً. 

لم نجد لحظة تاريخية قام فيها الشعب العبراني بالسيطرة الكاملة على الأرض بحسب تلك الوعود التوراتية، وذلك ما أكدته روايات الكتاب المقدس نفسها، حيث نجد في سِفر العدد حين خرج موسى من مصر مع الأسباط (أبناء يعقوب)، وفي أثناء رحلته أرسل رجالاً إلى أرض فلسطين للاستطلاع، وأبلغوه حين عودتهم أن الحيثيين واليبوسيين والعموريين يسكنون الجبال في حين يسكن الكنعانيون على ساحل البحر، ولم يستطع موسى دخولها حسب التوراة بعدما توفي على جبل نبو شرق الأردن.

حينها أراه الرب الأرض التي وعد بها إبراهيم، وذلك ما دُوِّن في سفر التثنية: «فصعد موسى إلى جبل نبو من فيافي مؤاب إلى رأس الربوة المواجهة لأريحا، فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان .. وقال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً: لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هنا لا تعبر، فمات هناك موسى بأمر الرب».

وذلك ما أكدته رواية توراتية أخرى، حين أخذ يوشع بن نون قيادة الأسباط بعد وفاة موسى متجهاً نحو فلسطين حتى بعد عدة محاولات تسللوا إلى فلسطين ودخلوها، ووجدوا بها قبائل من السكان الأوائل وغيرهم، وهم جميعاً عرب حسب سفر التكوين (19:15)؛ فلم يكن اليهود هم الشاغلون الأوائل لفلسطين، بل كانوا بالأحرى – ولفترات محدودة – بين كثيرين غيرهم من الشعوب العربية، وحتى تلك اللحظة لم تكن الجماعة العبرانية ذات رباط مقدس يحميها من الوقوع في مناوشات دنيوية خارج سياق الرعاية الإلهية، فنجد بعد موت يوشع بن نون أنه اشتدت الأزمات وسادت الفوضى بين بني إسرائيل حتى ارتد الكثير منهم عن العقيدة اليهودية إلى الوثنية، بل امتزجوا بالثقافة الأصلية لأرض كنعان.

لذا نجد خارج التفسير الديني والذي رأى في حروب يوشع بن نون «حروباً مقدسة» فإنه تاريخياً لم تخرج من نطاق الحروب العادية المتعارف عليها في ذلك الزمن بين القبائل والشعوب، بل كان تاريخ اليهودية كله لا يمثل سوى هامش ضئيل بالنسبة للحضارات القائمة حول أرض فلسطين. 

ظلت حياة العبرانيين آنذاك «شبيهة بحياة رجل أصر على العيش وسط سوق صاخب، فكان مصيره أن تدهمه سيارات الجمهور والبضائع»، ذلك حسب تعبير هـ. ج. ولز في كتابه «تاريخ المعالم الإنسانية”، فلم ينقذ العبرانيين المراسم الإلهية حتى من الانشقاقات الداخلية والنزاعات بين عائلة اليهود (الأسباط) في أرض كنعان حول المُلك، حتى شهدوا انهزاماً على أيدي الفلسطينيين في جبل جلبوع.

ولم يعرف الشعب العبراني أي انتصار آخر إلا في عهد سليمان الملك، حين كُتب له الانتصار في ظل انشغال الممالك الكبرى المتنازعة على أرض كنعان، والتي كانت بينهم المملكة المصرية التي شهدت تراجعاً حينذاك، ولم يكن ذلك بطريقة إعجازية، لكن يعود الفضل الأكبر لتحقيق النصر إلى المعاهدات المُنعقدة مع الممالك والتجارة المتبادلة مع حيران (ملك صور) حيث وطدت تلك التعاملات العلاقة بينهم وجعلت لسليمان قُدرة على بناء السفن في البحر الأحمر وأخذ شجر الأرز من لبنان في ظل تسهيلات حيران.

اهتم سليمان بالتجارة وأقام مُلكاً ثرياً وأعاد بناء الهيكل، واسترجع تابوت الرب الذي سُرق في حرب جبل جلبوع، ووضع الدين اليهودي في قالب جديد، وذلك ما أدى إلى مواقف متضاربة من قِبَل اليهود تجاه فترة سليمان؛ فرغم أنه نجح في إقامة مُلك عظيم إلا أنه خرج عن التقاليد اليهودية بعدما تزوَّج من نساء خارج الديانة اليهودية؛ فكان حكمه قائماً بصيغة علمانية قياساً بالتقليد اليهودي، مشكلاً بذلك فترة جدلية في التاريخ اليهودي الخاص.   

سريعاً انتهى مجد العبرانيين قصير الأمد في ظل حكم سليمان، بدخول الآشوريين أرض كنعان وأخذ اليهود سبايا إلى آشور، لكن شهدت فترة السبي البابلي توحيد العِرق اليهودي والوعي الوطني وإكمال أسفار التوراة وخلق وحدة اجتماعية ودينية متأثرة بالمعارف البابلية الواسعة، وحينما عاد بعض اليهود بعد السبي البابلي إلى أورشليم عهد الملك قورش بعد هزيمة الإمبراطورية الآشورية، ولديهم صياغة مكتملة لقصتهم التوراتية، واحتوت على قصص تعود حسب التاريخ العلمي إلى مصادر بابلية، خاصةً تلك القصص المتعلقة بقصة الخليقة والطوفان، وبرزت الأفكار الأهم حول المخلص وشعب الله المختار واضطهاد الشعوب الأخرى لليهود.

هكذا احتوى التاريخ العبراني على كثير من الصراعات الداخلية والخارجية المُشكِّلة لمملكتهم، وأدت إلى هزيمتها، لذلك يمكن القول إنه لم يعرف تاريخ العبرانيين أية أهمية حضارية بالقياس إلى الحضارات المجاورة، ولم تختلف قصة حضارتهم اختلافاً بأي شكل عن الدوافع المؤدية للمعارك في الأزمنة القديمة، حيث شهد العالم الكثير من الهجرات والمعارك القبلية، أي كانوا يخضعون للشكل المتعارف عليه تاريخياً في إقامة الممالك واضمحلالها، والأهم أنه تم تدوين وقولبة الكثير من الأفكار اليهودية أثناء السبي البابلي، مما يجعلها أقرب إلى الكتابات الأدبية لأحلام قبيلة خاصة، حتى إنه لم تشهد السردية التاريخية الرسمية أي اضطهاد من «نوع خاص» في هذه الأزمنة، إلا في الكتابات التوراتية!

في الرواية الأهم حول اضطهاد المملكة المصرية القديمة للجماعة اليهودية، فإنها تحتوي على مغالطات تاريخية حسب السردية التاريخية العلمية، فلم يكن في السجلات المصرية أي شيء يذكر عن حياة موسى وأعماله، وذكر اسم العبرانيين صراحةً في لوحة طينية كتبها الولاة المصريون على إحدى مدن كنعان إلى أمنحوتب الرابع، وجاء فيها أنهم يجتاحون مدن كنعان، وذلك في زمن متقدم على رمسيس الثاني المتهم بالاضطهاد اليهودي، فإذا كانوا يجتاحون مدن كنعان في زمن الأسرة الثامنة عشرة في عهد أمنحوتب، فليس من الممكن أن يأسرهم رمسيس الثاني من الأسرة الثانية عشرة، حسب الرواية التوراتية!

السردية الثانية: اليهودي الأوروبي (أقلية وظيفية وحقن شعبي)

أخذ التاريخ بعد «مجد العبرانيين» يلتف حول قيام حضارات أخرى في جزء آخر من العالم؛ بقيام الحضارة الرومانية وتنازع ممالك أوروبا، وأخذ تاريخ الجماعة اليهودية بدوره منحى جديداً أيضاً، حيث تشكلت صياغة مفهوم معاداة السامية بشكل أكثر وضوحاً، وإن لم يكن ممنهجاً منذ البداية كما يتم الترويج له.

قام الرومان بعد غزوهم لأراضي الشام بتهجير عدد من العبيد اليهود إلى أوروبا، وكان قليل منهم من الجنود الرومان الذين دخلوا الديانة اليهودية أثناء الغزو الروماني، وحصل المهاجرون الجدد من اليهود آنذاك على حق المواطنة الكاملة، وذلك بموجب مرسوم الإمبراطور الروماني «كاراكالا» سنة 212 ميلادياً، متساوين بذلك مع كل اليهود في بقية أنحاء الإمبراطورية.

مع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، وذلك بعد اعتناق الإمبراطور «قسطنطين» المسيحية واتخاذها الديانة الرسمية، بدأت السلطات الرومانية في فرض إجراءات تحد من الحقوق السياسية والمدنية التي اكتسبها اليهود، وذلك بالرغم من حرية العبادة التي مُنحت لهم في بلاد العالم، إلا أنه صدرت مراسيم تمنع اليهود والوثنيين من تولي السلطات والوظائف العامة حتى لا تخضع الجماعة المسيحية لنفوذ ما هو غير مسيحي.

لذا مارس اليهود جميع الحرف الأخرى وباقي مراتب الجندية، وخاصةً التجارة وتفوقوا فيها، ولم تشهد الجماعة اليهودية عداءً واضحاً من جمهور المسيحيين بالرغم من الاختلاف العقائدي؛ نجد أنه في جنازة القديس «هيلاري أسقف آرل» احتشدت الجماعة اليهودية وشاركت المسيحيين في توديع الأسقف، ونشدت المزامير باللغة العبرية!

ظهرت أولى موجات معاداة السامية على المستوى العقائدي مع توغل الديانة المسيحية الكاثوليكية ودخول القبائل الجرمانية وزوال سيادة الرومانية من بلاد العالم، حيث شهدت بدايات القرن السادس هدم الكنيس اليهودي بباريس وإنشاء كنيس كاثوليكي، وكانت أول دعوة لطرد اليهود من أوروبا من قِبل الملك «داجوبرت الأول» في 629 ميلادياً.

لكن سريعاً ما تم الرجوع عن قرارات طردهم لأهداف اقتصادية، وذلك لتوقف التعاملات التجارية للتجار المسيحيين مع الشرق الإسلامي حيث استعان شارلمان بالتجار اليهود ليقوموا بدور الوسيط التجاري بين الشرق والغرب، وأرسلهم كسفراء لدى الخلافة العباسية لتنشيط التجارة ومثَّلت تلك الفترة انتعاشاً يهودياً في أوروبا ثقافياً واقتصادياً، بالرغم من الاختلاف العقائدي مع المجتمع المسيحي الكاثوليكي.

إلا أنه سريعاً ما التهبت مشاعر العداء تجاه اليهود لما تحصلوا عليه إثر توسعهم في امتلاك الأراضي وتشغيل المسيحيين؛ لذا قام الأساقفة بالدعوة إلى خطر تسلط اليهود على المقدرات المسيحية؛ تقلصت حينها الحماية الممنوحة لهم مع نهاية القرن العاشر الميلادي، وكانت النقطة المفصلية في التاريخ اليهودي الأوروبي بدعوة «البابا أوربانوس بابا الفاتيكان» للحملة الصليبية الأولى 1095-1099 لتحرير قبر المسيح في القدس.

احتقن شعور العداء تجاه اليهود، بدعوة أوربانوس إلى محاربة الكفرة والتي مثلها (مسلمون – يهود – ووثنيون) لكن لم تكن الدعوة في ذاتها ما حمَّس المجتمع المسيحي لها، حيث اُصطحبت بإعفاء المسيحيين المشاركين في الحرب الصليبية من الديون المستحقة لليهود، كما ظهرت طبقة من التجار المسيحيين الذين حلوا محل التجار اليهود.

لكن لم تستمر تلك الحملات العدائية كثيراً، وذلك لأسباب اقتصادية أيضاً، حيث فشلت الحملة الصليبية الثالثة، فقام الملك فيليب بدعوة اليهود بعد طردهم للعودة لتنشيط التعاملات المالية بعدما لم يستطع التجار المسيحيون القيام بتلك الأعمال بكفاءة اليهود، حيث اهتم الملك باستغلال النشاط اليهودي وما يمكن أن يعود على الخزانة الملكية من الضرائب والرسوم التي تفرض عليهم (ضريبة الرأس).

تمتع اليهود بالحماية الملكية آنذاك، إلا أنهم لم يحصلوا على الحقوق المدنية الكاملة، فأصبحوا عبيداً للملك وذلك كما أقر في مجمع كنسي عام 1215 باسم «المجمع اللاتراني الرابع»، حيث انعقد لمناقشة الأمور العقائدية كحال المجامع الكنسية في التاريخ المسيحي، لكنه تطرق لمناقشة قضايا الهرطقة واليهود، وانتهى المجمع بإقرار في مادته الـ 68 بأن يضع اليهود أختاماً على الأشياء التي يتعاملون بها، كما فرض زياً موحداً لهم، حتى لا يختلطوا بالمسيحيين في التعاملات المالية والاجتماعية، خاصة الاختلاط الجنسي.

وبذلك تشكَّل أول قانون «عقائدي رسمي» من قبل الكنيسة في تقييد التعاملات المالية مع اليهود، وشمل كذلك المسلمين والمهرطقين – أي أصحاب الفرق المسيحية غير الرسمية – لكنه شمل كذلك الاختلافات العقائدية، حيث نص على معاقبة اليهود الذين يقومون بأي شكل من أشكال الإهانة للمسيح وتقييد حركتهم في أسبوع الآلام، وهو الأسبوع الذي يحتفل فيه المسيحيون بدخول المسيح القدس وعيد القيامة، توَّج القانون بذلك الحقن الشعبي ضد اليهود ورسَّخه في نفوسهم، وساهم في تعزيز تقييد حركة الأقليات إجمالاً في شكل وظيفي آخذاً بذلك منحى اجتماعياً بعيداً عن الدعاوى السياسية استناداً على الاختلاف العقائدي بين اليهود والمسيحيين واستكمالاً للأفكار المعادية لليهودية في الوجدان الشعبي.

حتى انتشرت في ظل تلك الأوضاع الممتدة لعدة قرون شائعات غير منطقية قامت على إثرها حملات عدائية غير رسمية ضد اليهود من قِبل أبناء المجتمع الأوربي نفسه، اتُّهم حينها اليهود لأول مرة بتهمة الدم، والتي كانت تعني اتفاق حاخامات اليهودية مع مجرمين محترفين على ذبح المسيحيين وأخذ دمائهم وعجنها في فطيرة العيد وتقديمها قرباناً للإله، كما انتشرت الشائعات حول قيام الحاخامات اليهود بتلويث القربان المقدس الذي تقدمه الكنيسة في عيد القيامة، لما ترسخ في عقل المجتمع أنهم لم يندموا على قيامهم بصلب المسيح، والذي يتناقض مع اتجاه اليهودية بإنكار المسيح أصلاً!

شكلت تلك الأوضاع المركبة من أسباب اقتصادية واجتماعية ودينية جوهر كثير من الأحداث في العصور الأوروبية الحديثة بدءاً من الحربين العالميتين، وصولاً لبلورة تلك الدعاوى سياسياً من قبل اليمين المتطرف الأوروبي تجاه الأقليات الدينية والاجتماعية. 

معاداة السامية في أوروبا الحديثة (وظيفة جديدة)

استمر وجود اليهود على تلك الحالة المتخبطة في أوروبا مروراً بعصر التنوير الأوروبي، وانصهر جزء من اليهود في المجتمع الأوروبي في محاولة تجاوز حالات العداء، إلا أنها ما زالت متواجدة في الخيال الاجتماعي الأوروبي حتى الآن، بدءاً من الاعتقاد بتحكم اليهود في العالم من جهة جماعات سرية أو بنوك دولية أو كونهم أصحاب أموال طائلة، إلى معتقدات حركة النازيين الجدد المتطرفة.

وتعود تلك الاعتقادات المعادية لليهود في أوروبا للصورة النمطية التي افتعلتها ممالك أوروبا القديمة كما بيَّنا، وما وجدت لها أرض خصبة في التفكير العقائدي المسيحي، حيث تم توظيف اليهود تاريخياً للعمل في الأعمال التجارية وخاصة الاقتراض بالربا، مما جعلهم في مخيلة الشعوب الأوروبية مجموعة غريبة تملك نفوذاً مالياً عظيماً، وتمتد هذه الرؤى إلى خطابات معاداة السامية في جميع أنحاء العالم في محاولة قولبة الجماعة اليهودية كجماعة متجاوزة التاريخ البشري، بل تسيطر علية بشكل خفي!

إلا أن السلطات الأوروبية وجدت بها كأقلية غريبة منعزلة كبش فداء طوال تاريخها، واستغلت رسوخ الاعتقاد المعادي للسامية في العصر الحديث، حيث نجدها تتعامل بنفس الأدوات كلما دخلت كبوة جديدة، فنجد في الحرب العالمية الأولى مع تعرض الجيوش الألمانية لهزائم، اعتمدت المؤسسة العسكرية بمحاولة إيجاد كبش فداء لتبرير عدم تحقيق النصر، وكما كان الحال منذ عهود طويلة أصبح اليهود هدفاً سهلاً، والذي رسخ لأحداث دامية في عهد النازية.

 على الجانب الآخر في فرنسا أدت موجات الهجرة الواسعة من اليهود الفقراء من شرق أوروبا وروسيا إلى فرنسا إلى التهاب حالة عدائية كانت تحملها البرجوازية اليهودية في غرب أوروبا نفسها اتجاه المهاجرين الجدد، حيث اختلف المهاجرون الجدد عن اليهود الموجودين، والذين شهدوا على مدى مائة عام من الاندماج شيئاً من الاستقرار النسبي إثر حركات الإصلاح الأوروبي واليهودي، أدى ظهور الاختلاف على مستوى الثقافة والاندماج النظر إلى المهاجرين الجدد كإشكالية تهدد ذلك الاستقرار. وتمهد تلك الأحداث تاريخاً إلى ما يعرف بالحركة الصهيونية التي قدمت كما يبدو حلاً جذرياً للوجود اليهودي الأوروبي. 

عادةً ما تنتعش الأفكار المعادية للسامية بمفهومها الاصطلاحي العام في أوروبا كلما حدث موجة هجرات جديدة كإشكالية في النسيج الأوربي نفسه، كما نجد في العام  2015 مع توسع الهجرات العربية إلى أوروبا، أعيد جوهر ما قاله البابا أوربانوس الثاني إبان الحملة الصليبية لتشمل معاداة السامية كل أقلية أوروبية، مما يدل على خروج اليهود نسبياً عن دعاوى الاضطهاد المنحصر اتجاههم، ليشمل كل أقلية مسلمة أفريقية يهودية أو حتى اختلاف في الميول الجنسية، مما يجعل من معاداة السامية مفهوماً يمتد إلى أبعد من الاختلاف العقائدي بين المسيحيين واليهود، وإن ساهم الاختلاف في تأكيده وأخذ إجراءات بصدده.

لذا بالرغم من عدم إنكار تعرض اليهود للاضطهاد في لحظات تاريخية متفرقة، خاصةً في إطار النظر لهم كمشكلة أوروبية، إلا أنها لم تتجاوز إجمالاً حدود مشاكل الأقليات الاجتماعية في الداخل الأوروبي، ولم يكن تاريخ اليهودية تاريخاً ممتداً من الصراع والاضطهاد، بل كانت مشكلة في نسيج المجتمعات ومدى تقبلها للأقليات، خاصةً في حالة اليهود كأقلية منعزلة من جهة، وتلاعب الممالك الأوروبية القديمة بالوجود اليهودي مستغلين الاختلاف العقائدي من جهة أخرى. 

ساهم كل ذلك في ترسيخ معاداة السامية، لكن نجد لمفهوم معاداة السامية صخباً أكبر لضرورة توظيفه في خطابية ذات أهداف خاصة كما نجد في الصهيونية، بشكل أضخم مما يتحمله التاريخ نفسه، حيث شملت معاداة السامية في مفهومها التاريخي العام الحروب الصليبية نفسها، والتي كان طرفاها مسيحي/ إسلامي!ساهم كل ذلك في ترسيخ معاداة السامية، لكن نجد لمفهوم معاداة السامية صخباً أكبر لضرورة توظيفه في خطابية ذات أهداف خاصة كما نجد في الصهيونية، بشكل أضخم مما يتحمله التاريخ نفسه، حيث شملت معاداة السامية في مفهومها التاريخي العام الحروب الصليبية نفسها، والتي كانت طرفيها مسيحياُ/ إسلامياً!