لكلّ فعلٍ فيزيائيّ ردّ فعلٍ مساوٍ له بالمقدار، معاكسٌ بالاتجاه – هكذا ينصّ قانون نيوتن الثالث – لكن هل ذلك صحيح بالنسبة للمادة أيضًا؟.

في البداية كان الانفجار العظيم، ثم كان الكون، وما زلنا لا نعرف ما الذي حصل في الأجزاء الأولى من الثانية الأولى من عمر الكون. لكن بعض الاعتقادات تقول أنّ المادة والمادة المضادة خرجت إلى الوجود، تلامستا لتفني الواحدة منهما الأخرى، ثم بقيت المادة، كيف؟، لماذا؟، تلك الأسئلة ما تزال تشغل عقول العلماء والفيزيائيين بشكلٍ مستمرٍ.

لكن في البداية، سنجيب عن الأسئلة البسيطة أولًا، كيف اكتُشفت المادة المضادة؟، من اكتشفها؟، و ما هي؟.


ديراك: العبقري الخجول، الذي توّقع غير الموجود بغير دليل

ديراك
ديراك

في عام 1898 افترض آرثر شوستر Arthur Schuster وجود ذرات مضادة، بالإضافة إلى أنظمة شمسية مضادة بالكامل، وناقش احتمال إفناء المادة والمادة المضادة لبعضهما الآخر. لم تكن أفكار شوستر جديّة، كانت مجرّد افتراض بهدف الافتراض. لكن في عام 1928، اقترح باول ديراك، العالم الفيزيائيّ الإنكليزيّ الخجول، في ورقة علميّة إمكانيّة وجود المادة المضادة. أدرك ديراك أنّه وجد حلاً آخر لمعادلات شرودنغر حسب النسبيّة.


معادلة ديراك

طوّر ديراك نظرية تدمج بين الميكانيكة الكموميّة، المستخدمة لوصف العالم تحت الذري، ومعادلة آينشتاين في النسبية الخاصة، التي تقول أن لا شيء أسرع من الضوء. وبعد معادلات رياضيّة معقّدة، وصل ديراك لمعادلة تجمع الاثنتين. وعندما سُئل عن السبب الذي دفعه في التفكير في هكذا معادلة قال: إنّها جميلة!

معادلة ديراك على كنيسة ويستمينستر آبي
معادلة ديراك على كنيسة ويستمينستر آبي
معادلة ديراك على كنيسة ويستمينستر آبي

تشرح معادلة ديراك كيفية تصرف الأجسام شديدة السرعة وشديدة الصغر، في هذه الحالة نقصد الإلكترونات قرب سرعة الضوء.

لم تعمل معادلة ديراك على الإلكترونات ذات الشحنة السالبة فحسب، بل أيضًا على جزيئات تتصرف كالإلكترونات لكن بشحنات موجبة. في البداية لم يرَ ديراك أهمية الإنجاز الذي حققه، بل تجاهله حتى بسبب خوفه من رد المجتمع العلميّ، وفي النهاية أدرك ديراك أنّ معادلته اكتشفت وتوّقعت شيئًا جديدًا لا يعرفه العلم الحديث، مضادات الجزيئات، أو الجزيئات المضادة.

أكّد ديراك فيما بعد أنّ لكل جزيء جزيئًا آخر مقابل له، كما في المرآة – مضاد الجزيء -، يملك خصائص مشابهة للأول باختلاف الشحنة الكهربائية. وبما أنّ البروتونات، النيوترونات، والإلكترونات تشكّل الذرات والمادة، فإنّ مضادات البروتونات، مضادات النيوترونات ومضادات الإلكترونات (البوزيترونات) تشكّل مضادت الذرات والمادة المضادة. دفعت هذه النتائج ديراك للاعتقاد بوجود كونٍ مضاد، مكوّنٍ من المادة المضادة. وشاركه الفرنسي شارلز جانيت Charles Janet هذا الشغف، فتخيّل جدولًا دوريًا كاملًا من عناصر مضادة.

الغرفة السحابية والبوزيترون الأول

في عام 1932 بينما كان كارل د. أندرسون Carl D. Anderson، البروفسور الشاب في معهد كاليفورنيا للتقنية في الولايات المتحدة، يدرس الجزيئات الكونيّة في غرفةٍ سحابيّة*، لاحظ وجود آثار جسيم موجب الشحنة، بكتلة الإلكترون. وبعد سنة من الدراسة والجهد اكتشف كارل أنّ ما لاحظه لم يكن سوى جزيئات مضادات الإلكترونات، تنتج كأثرٍ للأشعة الكونيّة في الغرف السحابية مع جزيء إلكترون مرافق. دعى كارل هذه الجزيئات باسم «بوزيترون Positron»، ونشر اكتشافه في دوريّة Science في ورقة معنونة «الوجود الظاهري لجسيمات موجبة الشحنة قابلة للانحناء».

بعد أنّ صحّت توقعات ديراك، وتمّ اكتشاف المادة المضادة على أرض الواقع، استلم ديراك جائزة نوبل للفيزياء، مترددًا، في عام 1933 حيث كان يبلغ من العمر 31 عامًا، ثم تبعت الجائزة – نوبل في الفيزياء – أندرسون أيضًا عام 1936 لاكتشافه المادة المضادة.

لم يكن ديراك فيزيائيًا عاديًا، بل شغل مقعد نيوتن في جامعة كامبردج – والذي يشغله ستيفن هوكينغ حاليًا – ورغم دراسته للهندسة الكهربائيّة؛ إلا أنّ فيزياء الكوانتم شغفت عقله، وفي النهاية خلص إلى توقع وجود أغلى (عنصر) في عالمنا حاليًا وأكثر العناصر استهلاكًا للكلفة والطاقة لإنتاجه.


لماذا لم تُفنِ المادة المضادة المادة بعد الانفجار العظيم مباشرةً؟

الغرفة السحابية والبوزيترون الأول
الغرفة السحابية والبوزيترون الأول

في البداية حصل الانفجار العظيم وكان من المفترض نظريًا وجود المادة والمادة المضادة بكمياتٍ متساوية. حسب المنطق الفيزيائي السليم، كان لا بدّ للمادتين أن تبيدا بعضهما الآخر خلال الثانية الأولى من حياة الكون، ثم يختفي كلّ شيء، لكن المادة موجودة، ونحن موجودون في هذا الكون المليء بها. ما الذي حصل إذًا؟ النظرية تقف خائبةً مبدئيًا أمام الحقيقة، المادة موجودة بكمية أكبر من المادة المضادة.

يقول بعض الفيزيائيين أنّ ذلك حصل بسبب وجود جزيء إضافي من المادة لكل مليار اصطدام بين جزيئات المادة والمادة المضادة. ويحاول الفيزيائيون بكلّ ما أوتوا من طاقة معرفة سبب عدم الاتساق المبدئي في الكميات. ويقترح آخرون وجود حلّيْن معقوليْن لهذا اللغز الوجوديّ؛ الأول، قد يكون هناك اختلاف بسيط في فيزياء المادة والمادة المضادة مما ترك الكون غنيًّا بفرق بسيط بالمادة، بينما تقترح النظرية أنّ عالم المادة المضادة هو عالم معاكس لعالمنا، وجدت التجارب خدوشًا في العالم المرآة.

الكاون
الكاون
الكاون

في عام 1998 وجدت تجارب سيرن CERN أنّ جزيئًا واحدًا غريبًا، الكاون، ينتقل إلى مضاد نفسه بنسبةٍ أكبر من تحول مضاده له (للكاون ثلاث حالات: إيجابي الشحنة، سلبي الشحنة، متعادل الشحنة) مما خلق نوعًا من الاضطراب في كمية الاثنين.

تمّ استكمال التجارب في مسرّعات الجزيئات في كلّ من كاليفورنيا واليابان، حتى الوصول إلى 2001 واكتشاف عدم اتساق آخر بين أبناء عمومة الميزون كاون، وهي الميزونات B. رغم كلّ هذه المعرفة، لا نستطيع تحديد كيفية أو أين ذهبت كلّ المادة المضادة، ويقول فرانك كلوز Frank Close، فيزيائيّ الجزيئات في جامعة أوكسفورد {لا تستطيع هذه التغييرات الصغيرة والفوارق الضحلة أن تشرح لنا الفرق الهائل في عدم الاتساق بين المادة والمادة المضادة حتى الآن}.

الجواب الثاني، هو أنّ الإبادة المتبادلة التي حصلت بعد الانفجار العظيم لم تكتمل في الثواني الأولى. بطريقة ما، لا نعرفها حتى الآن، استطاعت كلّ من المادة ومضادتها الهرب من الأخرى وتجنب قبضتها المميتة. ربما هناك، في مكانٍ سحيقٍ من كوننا يوجد كون مرآة، كون مضاد، يحوي على مضادات نجوم، مضادات مجرات، وربما حياة مضادة حتى!.

وعن تلك الفكرة يقول كلوز: {هذه ليست فكرة حمقاء حقًا، قد يكون هناك مادة مضادة في مكان ما، لكن لم نجده بعد}.

عندما يبرد مغناطيس ساخن، فإنه يجبر الذرات حوله للتماشي مع حقوله المغناطيسية، خالقًا بذلك نقاطًا مغناطيسيّة مختلفةً في اتجاهات مختلفة. هذا ما حدث بعد الانفجار العظيم، حيث بدأ الكون بخسارة الحرارة تدريجيًا، وتناثرت المادة والمادة المضادة في مناطق منفصلةٍ بعيدةٍ عن بعضها واستمرت في الابتعاد مع مرور الوقت. إذا تواجدت بالفعل هذه المناطق من الفضاء، فإنها بالتأكيد لن تكون قريبةً منا، وإلا لاشتعلت الحدود بيننا وبينها بأشعة غاما ذات طاقات هائلة. تصوّر تصادم مجرتين معًا مجرة من المادة وأخرى من المادة المضادة، الإبادة الحاصلة ستكون على مستوى هائل. لم نرَ دلائل على ذلك حتى الآن، لكن الكون كبيرٌ بما فيه الكفاية لوجود مناطق مثل هذه لم نستطع رؤيتها حتى الآن.

اكتشاف ذرة مضاد الهيليوم واحدة، أو أيّ مضاد ذرات آخر أثقل من الهيدروجين سيكون اكتشافًا ودليلًا موثقًا لوجود الأكوان المضادة؛ لأنّ ذلك سيعطينا فكرة عن وجود مضادات نجوم تسخن مضادات الذرات بواسطة الانشطارات النووية، كما تقوم النجوم العادية بدمج ذرات المادة العادية. يقوم مقياس الطيف المغناطيسي ألفا AMS، بقياس الأشعة الكونيّة للاستدلال والبحث عن مضادات الذرات تلك والمادة المضادة في الفضاء. المقياس، المكلف 1.5 مليار دولار، موجود على المحطة الفضائية الدولية منذ 2011.

المراجع
  1. how dirac predicted antimatter
  2. where is all antimatter
  3. what is antimatter
  4. antimatter bomb
  5. فيزياء المستحيل: ميشيو كاكو