في العام 9هـ خرج النبي ليخوض آخر وأهم غزواته، وهي غزوة تبوك.. أثناء عودته كانت مؤامرة اغتيال النبي في انتظاره.

صحيح، أن جيش المسلمين، بقيادة النبي، لم يصطدم بجيش الروم مثلما كان مخططًا، لكن الانسحاب المفاجئ للروم أمامه، وتجنّبهم مقاتلة المسلمين، نصّبتهم القوة الأبرز في الجزيرة العربية بأسرها.

في خضمِّ الفرحة الكبيرة التي عاشها المسلمون بهذا النصر المعنوي الكبير، انسلّت مجموعة من الجيش الإسلامي، نفّذت أغرب محاولة لقتل النبي، وأكثرها غموضًا.

هذه المرة لم تُرفع سكاكين الغدر تجاه النبي من اليهود أو عبّاد الأصنام من مكة أو من غيرها، وإنما أتى الخطر من قلب جيش المسلمين ذاته. فماذا حدث؟

واقعة العقبة: صراع في الوادي

وردت القصة بتفاصيل شبه متطابقة في كافة كتب التاريخ الإسلامية.

يقول أحمد غلوش في كتابه «السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني»، إنه خلال طريق عودة الرسول مرَّ بمنطقة العقبة، وبحُكم الطبيعة الجغرافية لتلك المنطقة، فهي تنقسم إلى طريق ضيّق ووادٍ واسع.

أمر النبي جيشه بالسير في باطن الوادي الواسع، فيما فضّل هو خوض الطريق الضيق راكبًا ناقته من أمامه عمار بن ياسر ومن خلفه حذيفة بن اليمان.

انشقّت جماعة عن الجيش المُسلم، 12 فردًا أو 14 بحسب أرجح الأقوال، لم ينفذوا أمر الرسول بالمسير في الوادي الواسع، وتعقبوه سرًّا إلى العقبة، ومكر «أناس من المنافقين لقتل النبي»، اعتمدوا على خطة بسيطة قوامها قطع حبال ناقة النبي ما إن يحلَّ الظلام، وإخافتها حتى تُلقيه فوق الصخور ميتًا.

وفقًا للرواية، فإن النبي كشف أمرهم، وأبلغ هذا المخطط لحذيفة بن اليمان، الذي دافع عن النبي بضراوة ما إن همّت الجماعة المتمردة بالهجوم على ناقة الرسول، حتى أدركوا فشل مخططهم، وركضوا عائدين إلى الوادي وذابوا وسط الجموع.

بحسب القصة، فإنهم رغم صعوبة التعرّف على المُهاجمين فإن النبي كان يعرفهم، وحين سأله الصحابي أسيد بن حضير أن يقتصّ منهم، أجابه «يا أسيد، إني أكره أن يقول الناس إن محمدًا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين، وضع يده في قتل أصحابه»، وهو ما حاوَل أسيد مراجعته فيه، لكن النبي أنهى النقاش برفضٍ حازم لفضح هويتهم مؤكدًا أنه «نُهي عن قتل أولئك».

سابقة خطيرة

لم تحظَ واقعة محاولة اغتيال النبي بأي شُهرة في الأدبيات الإسلامية، وقلّما تناولتها الخطابات الإعلامية أو خُطب المساجد.

وإذا ما قارنّاها بالمحاولات التي نفذها اليهود لقتل النبي، وكيف ذكرت المرويات كافة تفاصيلها عقاب الرسول لهم على هذه الفِعلة.

حاول بنو النضير اغتيال النبي بالخناجر أو بإلقاء عمرو بن جحّاش لحجرٍ فوق رأسه، فحاصرهم وأمر بإجلائهم، وزينب بنت الحارث المرأة اليهودية التي سعت لقتل النبي بشاة مسمومة عقب فتح خيبر، فقُتلت جزاءً لذلك.

هكذا إذن، في كل مرة تتّضح أمامنا أسماء المتّهمين والعقوبة التي تلقونها لقاء جريمتهم المُنكرة، أما في «واقعة العقبة» فلا شيء على الإطلاق!

نحن أمام جريمة «خيانة عُظمى» متكاملة الأركان، عقوبتها الوحيدة في أوقات الحرب هي الإعدام فورًا في كل الأعراف العسكرية القديمة والحديثة، وحدثٌ فريد ونادر، لم يجرِ قبلاً ولم يتكرّر بعدها، وهو تدبير جماعة مُسلمة مؤامرة لقتل النبي.

لا نعرف أسماء الجُناة، ولا لماذا فعلوا ذلك، ولا ما هي عقوبتهم، بل والأخطر من كل ذلك، أنه، وفقًا للقصة، لم يفضحهم النبي بأي شكل، فعادوا إلى جموع المُسلمين وانتظموا داخل صفوفهم مُجددًا وكأن شيئًا لم يكن.

الاستغلال السياسي للواقعة: البحث عن الجُناة

تحمل نهاية القصة فكرًا سُنيًا خالصًا وهو عدم ضرورة تكفير أي حد طالما نطق الشهادتين، وهو المنطق الذي جيء به على لسان الرسول مباشرة ليبدو وكأنه أمر إلهي مُنزّل.

لكن كتب اللاحقين لم تلتزم بالصمت، وروت الحكاية بتأويلات مُختلفة.

في تفسير مقاتل بن سليمان للآية «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» في سورة التوبة، أكد أن المقصود بها جماعة المنافقين الذين سعوا لقتل النبي في العقبة، وعلى رأسهم: عبدالله بن أُبي سلول، وعبد الله بن أبي سرح.

وهو ما لا يتّفق مع سيرة هذين الرجلين؛ فابن سلول وإن أسهبت المرويات الإسلامية في التأكيد على نفاقه وحقده على النبي، إلا أنه مات هانئًا على فراشه بعد ما زاره الرسول في أيامه الأخيرة، وكفّنه في قميصه الخاص بعد موته.

وكذلك عبدالله بن أبي السرح، الذي ارتدَّ عن الإسلام ثم عاد إليه بعد ما تشفّع له أخوه في الرضاعة عثمان بن عفان عند النبي، ووفقًا لمرويات التاريخ فقد «حسن إسلامه»، وشارك في غزوات جيوش الإسلاميين عقب وفاة الرسول حتى ولاه عثمان على مصر، وقاد معركة «ذات الصواري» الشهيرة ضد الروم/ البيزنطيين.

فكيف يستقيم أن يكون لهذين الرجلين دور في محاولة اغتيال النبي، رغم هذه النهاية المثالية لكليهما؟

بعض المحاولات الأخرى، تمرّدت على التفسير السهل، وسعت لاستغلال هذه الحكاية في إطار الصراع السياسي الذي تفجّر بين السُنة والشيعة في قرون الإسلام المتأخرة.

ولما لم يكن بالإمكان التلاعب بالمروية التي تناقلتها كافة كتب الأحاديث الكبرى، فإن الصراع انحصر في فضح هوية هؤلاء المارقين الـ12 (في روايات أخرى 14)، الذين فشلوا في قتل النبي، وبقوا على حالهم بعدها أعضاء نشطين في الجماعة الإسلامية.

يقول دكتور محمد يسري، المختص في التاريخ الإسلامي، إن المحاولة السُنية الوحيدة لنسب مؤامرة العقبة لعلي بن أبي طالب، جاءت على يديْ ابن حجر العسقلاني، الذي نشأ في عهد الدولة العباسية، حين ذكر في كتابه «تهذيب التهذيب»، أن علي بن أبي طالب حلَّ حزام بغلة النبي، حتى يقع من عليها ويموت!

وهنا يجب ذِكر، أن عليًا لم يُشارك في غزوة تبوك بالأساس، لأن الرسول عيّنه حاكمًا مؤقتًا على المدينة في غيابه، قائلاً له «أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى».

في الوقت ذات، سعى عدد من رجال الشيعة لربط هذه المروية بالصحابة المُفضلين عند المعسكر السُني، فزعم محمد باقر المجلسي في «بحار الأنوار»، أن المتآمرين الـ14 هم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وطلحة بن عُبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وأوس بن الحدثان البصري، وأبو هريرة، وأبو طلحة الأنصاري.

ووفقًا لرواية أخرى وردت في مصدر شيعي، وهو تفسير القرآن المنسوب للإمام الحسين العسكري (الإمام الـ12 عند الشيعة الإمامية)، الذي أكد أن الرسول أنبأ حذيفة بن اليمان بهوية المتمردين، وأن حذيفة اختبأ في تجويف صخرة، حيث تمكن من رؤية المتآمرين دون أن يكتشفوا حقيقة وجوده.

الغريب، أن الـ14 فردًا المتهمين باغتيال النبي، وفقًا للمروية الشيعية، يمتلكون سيرة ناصعة تجعل اعتبار أن مشاركة أحدٍ منهم في هذه المؤامرة أمرًا مستحيلاً، فجميعهم من أعمدة الإسلام وأهله الخُلّص، الذين كال لهم النبي المديح في مواقف عِدة، وحملوا رايات الدعوة الإسلامية عقب وفاة الرسول، وأسهموا بجهدٍ حثيث في إقامة دولته.

ما يُبقي أنباء «مؤامرة العقبة»، حافلة بضباب يجعلها واحدة من أكثر حوادث الإسلام غموضًا، وتبقى حتى اليوم محتشدة بعديدٍ من الأسئلة دون حل.