تعتبر الخرائط السياسية، الحدود، القبائل، العواصم، العائلات الحاكمة، متغيرات تاريخية على الرقعة الجغرافية لمنطقة الخليج العربي، الذي صارت عواصمه السياسية اليوم أحد أهم مراكز صنع القرار في عالمنا العربي، بعد تحولات اقتصادية وجيوسياسية دراماتيكية عصفت بدوله الكبرى كالعراق ومصر وسوريا.

مع ازدياد الوزن السياسي لتلك المنطقة من العالم العربي، وتنامي تأثيرها في دفع مجريات الأحداث التي تشكل واقعنا الراهن؛ تزداد اليوم في المقابل أهمية معرفتنا بالتاريخ السياسي الحديث والمعاصر للكيانات السياسية في تلك المنطقة، وتوازنات القوى التاريخية والأدوار المؤثرة للفاعلين السياسيين الرئيسيين هناك.


الخليج العربي قبل الاستعمار الأوروبي

خلال الفترة التاريخية الممتدة من أوساط القرن الثامن حتى أوائل القرن السادس عشر الميلادي، شهد الخليج العربي ازدهارًا ملاحيًا ونشاطًا تجاريًا كبيرًا، حيث كان الخليج العربي واحدًا من أهم القنوات التجارية بين منتجات الصين والهند وجنوب شرق آسيا وأسواق العراق والشام وشبه الجزيرة العربية وأوروبا.[1]

كان مرد هذا الازدهار آنذاك هو أن طريق الدوران حول أفريقيا «طريق رأس الرجاء الصالح» لم يكن قد اكتشفه الملاحة الأوروبيون بعد، في ذلك الوقت الذي اعتمدت فيه التجارة العالمية في معظمها على الملاحة البحرية، وانحصرت الخيارات أمام السفن وقتئذ بين طريقي البحر الأحمر والخليج العربي بوصفهما الحلقة الرئيسية للتجارة البحرية في منطقة غرب آسيا.[2]

ابتداءً من الغزو المغولي في القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ النشاط التجاري في الخليج العربي يتجه إلى الركود، وهو ما ترتب عليه اضطراب الحركة التجارية الرئيسية عبر خطي الخليج العربي والبحر الأحمر، إلا أن الخط الأخير ظل أقل تأثرًا بالقلاقل والاضطرابات التي جرت في ذلك الوقت.

ساعد الانتعاش التجاري في الخليج العربي على ظهور العديد من الحواضر والمدن التجارية على سواحله مثل: البحرين والقطيف وعمان وبوشهر وقيس وسيراف وصحار ومسقط وقلهات وهرمز، كما ازدهرت كذلك مدينة البصرة الواقعة الطرف الشمالي من الخليج الغربي، والتي تمثل نقطة التقاء الطرق الممتدة من وسط بلاد فارس والعراق والشام والجزيرة العربية عبر الخليج العربي.[3]

وقد ظلت مزدهرة على ذلك النحو حتى تعرضت للتخريب على إثر الغزوات المغولية والتركمانية في الفترة الممتدة من منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وحتى أوائل القرن السادس عشر، بسبب التدمير والأوبئة وقطع الاتصال بين المدينة ونهر شط العرب الناتج عن التقاء نهري دجلة و الفرات ويصب بالنهاية في الخليج العربي.[4]

ولكن رغم ذلك ظل العرب والمسلمون خلال تلك الحقبة هم سادة التجارة في مراكزها الرئيسية في الشرق وصولًا إلى أماكن الطلب عليها في موانئ البحر المتوسط، حيث كانوا الوسيط التجاري الرئيسي في التجارة البحرية العالمية بين الشرق والغرب، بينما كان الإيطاليون من أهل جنوه والبندقية وفلورنسا وغيرها يقومون بالوساطة بين موانئ البحر المتوسط وأوروبا.[5]

حفزت تلك السيطرة الممالك الأوروبية ولاسيما البرتغاليين، وخصوصًا بعد فتح القسطنطينية في على يد الأتراك العثمانيين في 1453م، وإحكام المسلمين بذلك الفتح سيطرتهم على فرعي طريق الحرير البري والبحري، بحثهم عن طريق بحري آخر يتخلصون به من السيطرة العربية والإسلامية على تجارة الشرق.

وهو ما انتهى باكتشاف البرتغاليين رأس الرجاء الصالح في عام 1487م، ووصولهم بنهاية المطاف إلى شواطئ الخليج العربي في مطلع القرن الـ16 الميلادي لاحتلال حواضره التجارية والقضاء على نشاط العرب وموانئهم على سواحل الخليج.


الغزو الاستعماري لمنطقة الخليج

ما لبث البرتغاليون بعد وصولهم إلى مصادر تجارة الشرق أن صارعوا المسلمين بعنف وقسوة، واستطاعوا أن يقضوا على السيادة التجارية للمسلمين بين آسيا وأوروبا، ويحتكروا التجارة في المقابل لأنفسهم.

لم يكتفِ البرتغاليون بتحويل تجارة الشرق من خلال الدوران حول غرب أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، بل عملوا كذلك على إحكام سيطرتهم على الطرق البحرية الأخرى حتى تصبح جميع منافذ التجارة في أيديهم، ومن ثم اتجهوا إلى السيطرة على الخليج العربي لمنع التجارة من النفاذ منه إلى نهر الفرات مرورًا بشط العرب وصولًا إلى سواحل الشام.

كان لانضمام البرتغال إلى عرش إسبانيا في عام 1580م الأثر الكبير في زيادة قوة البرتغاليين، فشرعوا في اعتراض السفن التجارية الهولندية التي تمر بطريقهم، بجانب إغلاقهم ميناء لشبونة في وجه هولندا القوة التجارية الصاعدة آنذاك من خلال رفع أسعار البضائع الشرقية كالتوابل لكي يحرموهم من شرائها.[6]

دعت تلك الأسباب الهولنديين للتصميم على الوصول إلى الشرق، فحاولوا أولاً الوصول إلى اليابان والصين عن طريق بحار أوروبا الشمالية، إلا أنهم أخفقوا في ذلك، مما دفعهم إلى الصراع المباشر مع البرتغاليين، واستطاعوا انتزاع عدد من المستعمرات البرتغالية في أرخبيل إندونيسيا، وتمكنوا أيضًا من مراكمة نفوذ تجاري متنام في بلاد فارس عبر نشاط تجاري واسع وامتيازات منحت لهم هناك.[7]

بدأ تواجد الهولنديون في الخليج العربي في عام 1640م، من خلال منافستهم التجارية في مدينة البصرة للمقيمين الإنجليز والبرتغاليين هناك، وهي منافسة أدت إلى نشوب معارك ومواجهات عنيفة بين الهولنديين و الإنجليز، اضطرت على إثرها شركة الهند الشرقية البريطانية إلى الانسحاب من منطقة الخليج تاركة الساحة التجارية مفتوحة أمام الهولنديين.[8]

شهدت نهاية القرن السابع عشر تراجعًا ملحوظًا للنفوذ الهولندي في الخليج العربي لحساب النفوذ البريطاني الذي بدأ في التصاعد التدريجي، إلى أن استطاعت بريطانيا فرض سيطرتها من جديد على المراكز التجارية الهامة في الخليج العربي.

العملة البريطانية في الهند المستعمرة، وتحمل صورة الملكة فيكتوريا.

نشب على إثر ذلك النفوذ البريطاني المتصاعد في الخليج صراعًا بين الإنجليز والاتحاد القاسمي التابع لقبيلة القواسم الذين كونوا آنذاك إمارة كبيرة في رأس الخيمة والشارقة وبندر لنجة، بلغ أوجه بإرسال الإنجليز حملة عسكرية بحرية نحو رأس الخيمة، قامت بتدمير سفن القواسم، وضربت معاقلهم بالمدفعية لمدة ستة أيام، وتمكنت بذلك من القضاء على الأسطول القاسمي بالكامل.[9]

لم تبذل الدولة العثمانية محاولات لبسط نفوذها على الخليج العربي قبل عام 1869، لكن بحلول عام 1870 بدأ الاهتمام العثماني يتجه نحو الخليج العربي، نتيجة لفتح قناة السويس أمام الملاحة العالمية، مما هيأ للأسطول العثماني القدرة على الالتفاف نحو الخليج، هذا فضلاً عن تعيين مدحت باشا واليًا على العراق، وسعي الأخير إلى ضم المشيخات العربية في نجد وسواحل الخليج إلى الدولة العثمانية.[10]

وقد لعب الصراع العثماني البريطاني في الخليج بنهاية المطاف دورًا كبيرًا في تشكيل الخرائط السياسية في شبه الجزيرة لعربية ومنطقة الهلال الخصيب (العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين) حيث أدى تحالف البريطانيين مع شريف مكة والهاشميين ومع آل سعود، إلى تكوين نظام إقليمي جديد في المشرق العربي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

حيث استطاع عبد العزيز بن سعود من خلال ذلك التحالف القضاء على منافسيه في نجد بإسقاط إمارة حائل التي كانت تحت حكم آل الرشيد المتحالفين مع العثمانيين، واستطاع الهاشميون من جهة أخرى بعد الثورة العربية الكبرى التي تعاونوا خلالها مع بريطانيا من خلال ضابط المخابرات البريطاني توماس إدوارد لورنس الشهير بـ«لورانس العرب» من القضاء على الولايات العثمانية في المنطقة والسيطرة على كل من العراق وسوريا والأردن.

وقد استمرت سيطرة الهاشميين على عروش تلك الدول إلى أن بدأت الانقلابات العسكرية بعد هزيمة حرب 1948، في سوريا ثم في العراق، واستطاعوا فقط الاحتفاظ بالأردن التي ظلت تحت حكم الأسرة الهاشمية حتى وقتنا هذا.


التبلور السياسي لأنظمة الحكم الخليجية

العملة البريطانية في الهند المستعمرة
العملة البريطانية في الهند المستعمرة

تعد نشأة دول الخليج إحدى أهم نتائج تقسيم الدول العربية بين فرنسا وبريطانيا وفق اتفاقية سايكس بيكو، الذي وقع فيها الخليج من نصيب بريطانيا، التي لعبت بدورها الدور الأكبر في رسم ملامح الجغرافيا السياسية الراهنة في منطقة الخليج، حيث وقعت مع عبد العزيز بن سعود معاهدة جدة في عام 1927 واعترفت بالاستقلال الكامل للدولة السعودية الثالثة، التي أصدر الملك عبدالعزيز في سبتمبر 1932 أمرًا ملكيًا بتوحيدها تحت اسم «المملكة العربية السعودية».

الكويت هي الدولة الثانية التي نالت استقلالها بعد السعودية في العام بعد إلغاء اتفاقية الحماية البريطانية في عام 1962، تلي الكويت سلطنة عمان في عام 1970، ثم قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة التي تشكلت من التحالف السياسي لسبع إمارات هي: (أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة ورأس الخيمة) في عام 1971.

في عام 1980، في أعقاب اندلاع الثورة الإيرانية مباشرة نشبت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران على إثر اشتباكات حدودية بين البلدين، واستمرت ثماني سنوات قُتل خلالها ما يصل إلى مليون نسمة، وأسفرت عن خسائر مالية للطرفين تقدر بمئات المليارات من الدولار، شارك في دفع جزء من فاتورتها دول الخليج العربية الثرية، التي تمتعت بوفرة هائلة من السيولة المالية جراء عائدات النفط الذي ارتفعت أسعاره بشكل كبير منذ نهايات عقد الستينيات.

في أعقاب نهاية حرب الأولى الخليج، وعلى إثر اتهامات عراقية لدولة الكويت بالحفر من جانبها الحدودي بطريقة مائلة للاستحواذ على النفط العراقي، اجتاح الجيش العراقي الكويت في الثاني من أغسطس من عام 1990.

بعد مطالبات من مجلس الأمن الدولي للعراق بالانسحاب الفوري من الكويت دون قيد أو شرط لم تستجب لها العراق، شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من خلال تحالف عسكري شارك فيه 34 دولة الحرب المعروفة بحرب تحرير الكويت أو حرب الخليج الثانية، التي أعقبها اتفاقات ثنائية بين الولايات المتحدة ودول الخليج حلت من خلالها الولايات المتحدة محل بريطانيا عبر إنشائها قواعد عسكرية دائمة منتشرة على طول ساحل الخليج العربي.

القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي
القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج العربي.

بالإضافة إلى احتياطاتها الضخمة من النفط تحتوي منطقة الخليج العربي على احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي، الذي يمتاز بعدة خصائص جعلته يتفوق على النفط مؤخرًا في مجال الطاقة من عدة جوانب، حيث يوجد في الخليج أكبر حقل غاز طبيعي في العالم، ألا وهو حقل الشمال الذي يحتوي وفقًا لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، على ما يقدر بـ1800 تريليون قدم مكعب، يقع معظمها في حدود دولة قطر البحرية التي تضم ما يقرب من ثلثي مساحة هذا الحقل، بينما يقع الباقي منه في الحدود البحرية الإيرانية.

ويعتقد بعض الخبراء أن ذلك الحقل هو أحد الأسباب المسكوت عنها للأزمة الخليجية التي كادت تصل إلى حافة الحرب وغزو قطر عسكريًا بحسب تصريحات أمير الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح خلال حديثه في مؤتمر صحفي بالولايات المتحدة الأمريكية نهاية العام الماضي.

في هذا السياق لا يبدو أن جهود الوساطة الدبلوماسية الكويتية كانت كافية عمليًا لوقف تطور الأزمة نحو ما لا يحمد عقباه، حيث لعب التدخل التركي بإرسال قوات تركية إلى قطر دورًا كبيرًا فيما يبدو في منع تفاقم الأزمة وانزلاقها نحو الحرب، وهو الوجود الذي تعزز منذ أيام قليلة بالاتفاقية التي وقعتها دولة الكويت مع تركيا الأسبوع الماضي، بشكل يعيد التاريخ خلاله نفسه، ويذكرنا بالتقاسم البريطاني العثماني للسيادة على الخليج خلال القرنين الماضيين.

المراجع
  1. جمال زكريا قاسم، تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر (1507 – 1840)، المجلد الأول، دار الفكر العربي، 1997، القاهرة، ص 42 ،43
  2. محمود شاكر، موسوعة تاريخ الخليج العربي، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2005،عمان، الأردن، ص 149
  3. المصدر السابق
  4. جمال زكريا قاسم، تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر، مرجع سابق
  5. المصدر السابق
  6. محمود شاكر، موسوعة تاريخ الخليج العربي، مرجع سابق
  7. المصدر السابق
  8. المصدر السابق
  9. المصدر السابق