يسألونك عن الحب قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح .. ويسألونك عن الروح .. قل هي من أمر ربي .. خالق الأرواح!

على الرغم من صعوبة تعريف الحب، ووضع حد له جامع مانع؛ فإن عبارة العقّاد هذه من أوضح ما قيل في تعريفه، فكل جنس مدفوع إلى الجنس الآخر بدافع من تلك الحاجة الطبيعية الآمرة التي أودعها الخالق لبقاء الحياة وحفظ النوع. وهي مركبة من عناصر شتى، يشترك فيها كياننا الحسي والعاطفي والروحي، قد يغلب عنصر منها على آخر لبعض الوقت، لكنها تظل متلابسة متواشجة.


في معنى الحب!

لعل من أفضل ما قيل في بيان طبيعة الحب بشقيه الحسي والروحي قول ابن الرومي:

أعانقها -والنفسُ بعدُ مشوقة ** إليهاوهل بعد العناق تدان وألثمُ فاها كي تزول صبابتي
** فيشتد ما ألقي من الهيمان! وما كان مقدار الذي بي من الجوى ** ليَشْفِيهِ ما قد ترشفُ الشَّفَتانِ كأنَّ فؤادي ليس يَشْفي غليلَه ** سوى أنْ يرى الروحَيْن تمتزجان

وعلى الرغم من اشتهار أخبار الحب والمحبين في الأمم كلها؛ فإن للحب عند العرب شأنًا عظيمًا ومقامًا رفيعًا، أسهم فيه ما تميزت به العرب الأوائل من رقة الطبع وسلامة الفطرة ورفاهية الحس والشعور، لما أحاط بهم من جمال الطبيعة وما أتيح لهم من كثرة الترحال في رحابها. حتى لقد تغنى بجمال الحب وحب الجمال كبار الشعراء منذ الجاهلية، ولم تخل منها قصائدهم ومعلقاتهم، فقد قال امرؤ القيس متغزلاً في معلقته الشهيرة:

أفاطمُ: مهلًا، بعضَ هذا التدلل ** وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي أغَرَّك مني أن حبَّك قاتِلي ** وأنك مهما تأمري القلب يَفْعَلِ؟

وقد دأب شعراء المعلقات جميعًا على الغزل، فابتدأ الحارث بن حلزة وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني معلقاتهم بذكر المحبوبات، وقال عنترة بن شداد في معلقته موجهًا الكلام لعبلة ابنة عمه:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** مني، وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ** لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ولم يتوقف الأمر عند شعراء المعلقات وحدهم، وإنما نجده عند كثيرين من الجاهليين، فها هو ذو الإصبع العداوني، يشكو فراق محبوبته “ريا”، يقول:

يا من لقلب شديد الهم محزون ** أمسى تذكر ريا .. أم هارون فقد غنينا وشمل الدار يجمعنا ** أطيع ريا، وريا لا تعاصيني ترمي الوشاة فلا تخشى مقاتلهم ** بصادق من صفاء الود مكنون

غير أن الحب في الجاهلية لم يكن كله عفيفًا على هذا النحو، وإنما وصلتنا أشعار في الحب والغزل الحسي الصريح، ومنها قول المُنَخَّل اليَشْكُري:

ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء ترفل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير ولثمتها فتنفست كتنفس الظبي الغرير ودنت وقالت يا منخل ما بجسمك من حرور ما شف جسمي غير وجدك فاهدئي عني وسيري وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري

من قصص العشق والوفاء

وإذا كان هذا حال العرب مع الحب في الجاهلية، فلا شك أن حظهم منهم كان أوفر بعد أن جاء الإسلام فألف بين قلوبهم ورقق طباعهم، ونظم العلاقات فيما بين الجنسين، وقد حفل تاريخ الأدب العربي بروائع خالدة من قصص الحب والمحبين، وما زالت قصصهم تضرب مثلاً على الإخلاص والوفاء حتى اليوم، ومنهم جميل وبثينة من قبيلة عذرة، وقد تحابا صغيرين فلما كبر خطبها، فرفض أهلها أن يزوجوهما، ومنعوه رؤيتها وهددوه بالقتل، فلم يعبأ بتهديدهم. وظل على حبه وإخلاصه لها، ومن وفائه أنه ذهب يومًا ليلقاها ولكن أهلها وقد علموا بقدومه منعوها أن تلقاه.

فانصرف حزينًا كئيبًا، وعلمت نساء الحي بذلك، فأخذن يلمنه ويقرعنه ويغرينه بأنفسهن، وفيهن من هي أحسن منها فتنة وجمالاً، ولكن جميلاً لا يأبه لهن، لأن حب بثينة قد ملك عليه أقطار نفسه. وقد ضافت عليه الأرض بعد أهدر الوالي دمه؛ فكان يصعد على أكمة من رمل يتنسم الريح القادم من حي بثينة، لعل هذه الريح تحمل إليه نسمة منها فيعلل نفسه بها، وقد قال في ذلك:

أيا ريح الشمال أما تَرَيْني ** أهيمُ وأنني بادي النحول هَبِي لي نَسْمَةً من ريح بَثْنٍ ** ومنى بالهبوب إلى جميل وقولي يا بثينة حسب نفسي ** قليلك، أو أقل من القليل

ومنهم قيس لبنى وكان تزوجها وسعدا بتبادل الحب زمنًا، ثم طلقها نزولاً على رغبة أبيه، ولم ينفعه الندم بعد ذلك، فهام على وجهه ينشد السلوان، لكنه لم يستطع صبرًا على فراقها، وظل يذكرها حتى مات. ومنهم كثير وصاحبته عزة، وعمر بن أبي ربيعة وصاحبته الثريا، وقيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس بن ذريح وصاحبته لبنى، وعروة بن حزام وعفراء، وقد غصت كتب الأدب والأخبار بقصصهم وبخاصة كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وقد أفرد كبار الأئمة كتبًا للحب والمحبين ولعل من أشهرها كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألاف» لابن حزم، وقد عالج فيه الحب بين الرجال والنساء أحسن ما تكون المعالجة، ففصّل القول في ماهية الحب وبين أماراته وصفاته وآفاته، وذكر أصناف المحبين، فمنهم من أحب في النوم، ومنهم من أحب من نظرة واحدة، ومنهم من لا يحب إلا مع المطاولة، ومنهم من أحب بالوصف، وغير ذلك، وذكر أمثلة على ذلك كله، وأكد بالأدلة القاطعة أن «الحب ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة». وقد تعرضت كتب أخرى كثيرة للحب عند العرب ومنها «نزهة المحبين وروضة المشتاقين» لابن قيم الجوزية. و«مصارع العشاق» لابن النحاس.

ويشيع في قصص مشاهير المحبين في التراث العربي، أن العاشق منهم كان يبكي عند فراق محبوبته أحر البكاء ويلصق خده بالأرض يضعه على آثارها! وهو مشهد أليم تذوب له أكباد ذوي القلوب! وهو من أعظم أمارات الوفاء. وقد حظي الحب عند العرب اهتمام كثيرين في العصر الحديث، فصنفوا في تاريخ الحب عند العرب، ومن أشهر هذه الكتب: «الحب والجمال عند العرب» لأحمد تيمور باشا، «الغزل عند العرب» لحسان أبو رحاب، و«الحب العذري عند العرب» للدكتور شوقي ضيف، و«الحب المثالي عند العرب» للدكتور يوسف خليف، و«الحب في التراث العربي» للدكتور محمد حسن عبد الله، وغيرها.


من غريب قصص الحب عند العرب

عُرْوة بن حزام شاعر من متيّمي العرب، كان يحب ابنة عم له اسمها عفراء نشأ معها في بيت واحد؛ لأن أباه خلّفه صغيرا، فكفله عمه. ولما كبر خطبها، فطلب أبوها مهرا لا قدرة له عليه فرحل إلى عم له في اليمن، وعاد بالمهر، فإذا هي قد تزوجت برجل من الشام، فلحق بها، واحتال للقائها، فلما علم بذلك زوجها بعث إليه فدعاه وعاتبه على كتمان أمر نفسه، وقال له على الرحب والسعة، وقاسمه بالله ألا يترك المكان، وخرج وتركه مع عفراء يتحدثان. وأوصى خادمًا له بالاستماع إليهما، وإخباره بما دار بينهما، فكان بينهما بكاء وشكوى وحرقة من آلام الحب والفراق. فلما جاء زوجها أخبره الخادم بما دار بينهما، فقال: يا عفراء امنعي ابن عمك من الخروج، واقترب منه وقال له: يا أخي اتق الله في نفسك، فقد عَرَفْتُ خبرك، وإنك إن رَحَلْتَ تَلِفْتَ، ووالله لا أمنعك من الاجتماع معها أبدًا، ولئن شئت لأفارقنّها ولأنزلنّ لك عنها. غير أن عروة آثر الرحيل على عِدَةٍ بالرجوع والزيارة إن هو لم يحتمل الفراق. فلما رحل عنهم نُكِسَ بعد صلاحه وتماثُلِه، وأصابه غَشْيٌ وخَفَقان، فكان كلما أُغْمِي عليه أُلْقِىَ على وجهه خمار لعفراء زودته إياه؛ فيفيق!

وموطن العجب والغرابة في القصة أن يسمح الزوج لعاشق زوجته أن يخلو إليها فيتحدثا حديث العشاق! ثم هو يعرض عليه أن يطلقها له! فما سمعنا بذلك في أخلاق العرب ولا قصص المحبين، فأين قيس وما لاقاه من أهل ليلى حين شبب بها، وكذلك قيس بن ذريح الذي أهدر الخليفة دمه لمحاولته الاقتراب من لبنى بعد زواجها، وليس يخفى على أحد ما كان بين عنترة وعمه مالك والد عبلة. أهي حكاية حقيقة أم أنها من مبالغات أبي الفرج؟

ومن أعجب ما ذكر ابن حزم من أنواع المحبين في طوق الحمامة «من أحب بالوصف»! فمِن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، ذلك أن للحكايات ونعت المحاسن ورصف الأخبار تأثيرًا في النفس ظاهراً. والحق أن هذا النوع من الحب كما يقول ابن حزم بنيان هارٍ على غير أسٍّ؛ وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم ير لا بد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهمها، وعينًا يقيمها نصب ضميره، لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المعاينة يومًا ما فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية.

ومن طريف ما يُروى عن العرب إنزالهم من يموت بالحب منزلة الشهيد، فمن أقوالهم المأثورة «من أحبَّ فعَفَّ فمات، مات شهيدًا»، وهناك أبيات لجميل بُثينة تُروى في هذا الصدد منها قوله:

يقولون: جاهِدْ يا جميلُ، بغَزوةٍ *** وأيّ جهادٍ غيرهنّ أريدُ لكلِّ حديثٍ بينهنَّ بَشَـاشَةٌ *** وكلُّ قتيلٍ عندهنَّ شَهِـــيدُ
ولعل هذا المعنى القديم هو ما أوحى للشاعر المعاصر بقوله:

لا يكون العاشق بدينًا!

قد مات شهيدًا يا ولدي *** من مات فداءً للمحبوب!

من الشائع أن العشق قرين الضعف والنحول، ومن طريف ما يُروى في ذلك أن إبراهيم بن المهدي دخل على الخليفة المأمون وكان أنجل البطن منتفخًا، كثير اللحم والشحم، فقال له المأمون: بالله يا عمّ عَشِقْت قط؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. وأنا الساعة عاشق! قال: وأنت على هذه الجثة، والشحم الكثير؟ ثم أنشأ المأمون يقول:

وجه الذي يعشـقُ معروفُ ** لأنه أصفرٌ منحوفُ ليس كمن أمسى له جثةٌ ** كأنه للذبح معلوفُ
ويقول في ذلك بعض الشعراء:
ما يَعرفُ الحزنَ إلا كل من عَشِقَا ** وليس من قال إني عاشق صدقا للعاشقين نُحـــول يعرفون به ** من طول ما حالفــوا الأحــزان والأرقـا
وقد تكون صحة بدن العاشق دليلاً على كذبه، يقول المجنون:
ولما شكوتُ الحب قالت كذَبْتَنِي .:. فما لي أرى الأعضاء منك كَواسِيا فما الحب حتى يلصقَ الجلد بالحشا .:. وتَخْرَسَ حتى لا تُجِيبَ المُناديا

وقد ارتابت إحداهن في صدق حبيبها لصحة جسمه وقلة اعتلاله؛ فالتمس لها حجة واهية، قال:

وقــائلة ما بـال جسمك ســالما ** وعهدي بأجسـام المحبــــين تَسْقَــمُ فقلت لها قلبي لجسمي لم يَبُحْ ** بحبي؛ فجسمي بالهوى ليس يعلمُ